سالم قنيبر
إلى الفاضلة الأستاذة سهير الغرياني..
• وصف لمعالم طرابلسية عريقة أو (عتيقة).. نصوص ممثلة لأسلوب الراوية في كتابة القصة.. الإعتماد على الوصف الدقيق المصور لمشاهد الرواية المكان والأشخاص (ذاكرة لاقطة).. تستعيد ما احتفظت به من المرئيات.. فتقدم تفاصيل لها دقيقة واضحة المعالم.. رغم البعد الزمني الذي قد يفصل الحدث عن زمن كتابته.. وقد نفتقد الحوار الكلامي المتبادل.. وأيا كان موقع القصة وشخصياتها فلن يكون هناك للخيال مجال متسع للتصور الخاص إذ أن القارئ سينتقل إلى واقع مجسد كتابة بشرا ومكانا. ويراه متحركا أو ساكنا أمامه.. ومع أولى قصص هذه المجموعة نستهل المتابعة.
(1) جــــدتي…
• “جدتي العميقة كبئر بدون ماء.. إمرأة ضاجة بالحركة ومدبرة ذكية قوية الشخصية.. جدتي لأمي إسكندرانية.. فخورة بمنشئها.. تختصر التعريف بنفسها (أنا إسكندرانية).. وهكذا كانت.. إسكندرانية في بلاد المغاربة.. لم تفارق لهجتها ولا زيها المتمثل في البالطو والطرحة ولا ثقافتها.. لكنها مثل البهار الطازج اختلطت بمزيج طرابلس بتميز”.. والمزيد من العرض والتقديم لهذه الجدة التي تشغل حيزا كبيرا في نفس الكاتبة وتحظى بذكريات مودة مستقرة عندها وعمق شعور: “.. رحلت وتركت خلفها فتاة صغيرة حملت جزءا من إسمها هي أنا.. النسوة من الجيران من أسر طرابلس العتيقة ممن تقطن المدينة القديمة وشارع ميزران.. ينادينها.. (بخالتي عزيزة).. أحبوها وسكنوا إليها وبثوها همومهم ومشاكلهم حتى أصبح بيتها مستقرا لهن”.
• ويرد الوصف المقترن ببيان وضوح التشبيه “كانت طويلة القامة، ترفع رقبتها وتفرد كتفها كطائر يهم بالتحليق فتزداد بهاء، شخصيتها في هيئتها.. تتكلم بصوت جهوري وتتوالد ضحكاتها كثمار شجرة وارفة”.
• ويكون للجد الذي هو من مدينة غريان نصيبه من الذكر والتعريف.. فتخبر عن هجرته إلى الإسكندرية واستقراره بها دون ذكر السبب الذي دفعه إلى الهجرة.. وتشير إلى تعايشه مع أهل الإسكندرية وتطبعه بطباعهم: “لكنه داخل نفسه كان مغربيا.. يذهب إلى رواق المغاربة ويختلط بأهله ويعين المهاجرين والطلبة منهم”.. وعن زواجه بجدتها تقول: “خطبها من أهلها.. تزوجها وقطن في حيهم.. ولم يخيل إليها أنه من منشأ آخر وأنه زائر ينوي الرحيل”.. وكان الانتقال المفاجيء إلى طرابلس.. وفي طرابلس سكنت في وسط ميدان الشهداء قريبا من البحر.. والقصة لم تنته بعد.. وللقصة بقية.
(2) الفراندا…
• نساء من العائلة استقر لهن مقام في وجدان الكاتبة تستعيد ذكرهن بوضوح ممتزجا بالمكان والوقائع والكثير من الحب والمودة.. واتخذت منهن (موضوعا) للعديد من قصصها.. وتلك عمتها التي تعلقت بها صغيرة وما أخبرتنا به من مرئيات شرفتي بيتها في (الفراندا) عمتها تلك: “أحبت رجلا.. بعد زواجها منه، ثم إختارت، أن تضب أغراضها وترحل.. حين فشلت في الإنحاب له”.. وتلك مشاهد ملتقطة لعمتها (صورة وصوتا) نعرض منها: “.. تجلس تنظر إلى البحر بعينين صافيتين فيبدو وجهها مريحا وتقاطيعها أشد وضوحا”، “.. تمسك أحيانا بالسفرة المعدنية المدورة وتنقر بأصابعها عليها نقرا خفيفا وتدندن بصوت خافت (نبكي على الأيام ما واتوني.. والدمع دمعي والعيون عيوني)”.. “وتعقب الصغيرة الملتصقة بعمتها قائلة (أغني معها هذه الأغنية ذات الأبيات التي لا تنتهي)”.
(3) نـاناتي…
• وتلك (ناناتي) حليمة.. زوجة عمها التي تقوم بزيارتهم من حين لآخر “وكان يطيب لها المقام أياما عند جدتي وهما سلفات”.. وتقدمها في القصة التي اختصتها بها فتقول: “حين رأيت ناناتي حليمة لأول مرة كانت قد فقدت بصرها.. طويلة القامة ونحيفة كعارضة أزياء اليوم.. ترتدي الحولي بالتل.. فوق فساتين ذات ألوان زاهية تنعكس على خدودها الناصعة البياض فتبدو حمراء كثمار العوينة الناضجة”.. “جاها مرض.. ضعفوا عويناتها.. لين تبصرت”.. تخبر الجدة حفيدتها.. ويرد في القصة بأن حضورها كان يضفي على جدتها البهجة “… تجلسان طوال اليوم في الدار العربية ولا تقومان إلا للصلاة.. تتذكران في جلستهما زوجيهما التوأم بطيب الذكر.. وأيام السانية.. يتسقطن أخبار الجيران.. والظهرة.. وأخبار الوفيات.. والأعراس”.. وكانت الصغيرة أيضا تحب حضورها وبقائها بينهم والمشاركة في مجلسهما وحضور عالة (الشاهي) و(الكاكوية) اللازمة في كل عشية طوال مدة إقامتها.
(4) الفراشية…
• ومع عمتها خديجة التي تلتحف الفراشية وتقبض على حوافها بأحدى يديها بينما تمسك بيدها الأخرى يد الصبية الصغيرة.. وبعين واحدة تتحرك من (كوة الفراشية).. يبدأ (مشوار) الوصف لرحلة تجوالهما بداية من شارع أدريان بلت حيث “ضريح سيدي الشعاب وأضرحة بنات الباشا اللائي يتوسدن الثرى تحت قباب بيضاء مسيجة بأقفاص حديدية”.. في طريقهما لميدان الغزالة.. وتم الاعتداء على التمثال.. أقتلع.. ولم يسترجع.. ولا أحد يعرف مصيره.. وبقي هذا الوصف الذي ورد له في هذه القصة.. “وكنا قد وصلنا إلى نافورة الغزالة.. نافورة الغزالة حلقة من الرخام، يتوسطها تمثال لأمرأة عارية.. نهداها بارزتان.. ينسدل شعرها بفوضى على كتفيها.. تجلس مثنية القدمين إلى جانبها، بينما تلتف بأحدى يديها على عنق غزالة تقف خلفها تمد رأسها بعينين مفتوحتين وقرنين ناتئين.. وباليد الأخرى تمسك بجرة تستند عليها.. تنبعث من حواشي الحلقة رشاشات الماء نحوها”.
• ومن ميدان الغزالة إلى ميدان السرايا الحمراء.. وكان البحر يتبعهما طوال الطريق “.. وسرنا حتى بانت لنا شيئا فشيئا السرايا.. يشقها قوس تمر عبره السيارات.. مبنى مهيب لونه ذو احمرار تبرز في أعلاه شرفة ضيقة مقارنة بحجمه، ما إن تقترب من حائطه الشاهق حتى تشعر بالضآلة”.. الخيول التي تجر الكراريس المزركشة تستريح واقفة تحت ظل السراي. تحمحم وهي تهز رؤوسها يمنة ويسرة.
• سوق المشير.. كان المقصد.. أقدم أسواق طرابلس وأكثرها عراقة وشهرة وها نحن نقترب من مدخله “ما زالت يدي في يدها” تقول صاحبة الرواية.. ثم تأخذ عند مدخل السوق في نقل مشاهد المرئيات النابضة بالحركة والضجيج والتنوع والإزدحام.. “.. ندلف في الزحام عند مدخل السوق تتكاثر.. (الفراريش) البيضاء كالحمام جيئة وذهابا.. ندخل عالما سحريا.. الذهب والفضة.. بضائع الأعراس.. الأردية والحرير.. طرقعة النول.. رائحة الأقمشة والجلد.. الرجال أمام الدكاكين أو داخلها.. والفراريش تحوم في المكان وتتحرك كعرائس قماشية في مسرح مفتوح.. وتدخل مع عمتها إلى الدكان.. تنطلق كلماتها نحو الرجل بثقة.. تساوم.. تشتري.. أو تقلب البضاعة بيدها.. تتركها على الطاولة المستطيلة.. وترحل.. وقد وصلنا إلى نهاية (المشوار).. لنخرج من حيث أتينا.. وكانت رحلة العودة الممتعة التي (طارت بها الصغيرة فرحا) وهي تستمع إلى عمتها تقول (نأخذوا الكروسة للحوش).. وما إن وصلنا إلى البيت حتى كشفت عن وجهها نظرت إلي وقالت (ما تقولي لحد ع الكروسة باش نركبك مرة ثانية)”.
يتبع….
بنغازي، السبت 4 فبراير 2017
____________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل