“ضلع الإنسانية الأعوج” لإزيا برلن كتاب فكري فلسفي يتحدّث عن تاريخ الأفكار، ترجمه الأكاديميان الليبيان د. نجيب الحصادي أستاذ الفلسفة والعلوم والمنطق ود. محمد زاهي المغيربي أستاذ العلوم السياسية والاقتصاد، ومن تحرير هنري هاردي المختص في نتاج برلن جمعًا وتحقيقًا وإصدارًا. وصدر الكتاب أواخر العام الماضي وكان حاضرًا في معرض القاهرة للكتاب 2014 م في جناح المركز القومي للترجمة الذي يترأسه وزير الثقافة المصري الحالي د. جابر عصفور.
يقول د. الحصادي الذي التقيناه في مكتبه ببنغازي عن الكتاب وأهميته: “إزيا برلن 1909-1979 م، أحد أعظم مؤرخي الأفكار في زمنه، وفي هذا الكتاب يجادل بفصاحة وعمق على نحو مشبوب بالعاطفة عما يصفه بالخير الأعظم للطموح البشري – الحرية، والعدالة، والمساواة”.
الكتاب يحتوي على بعض أبحاث متفرقة، كتب كل بحث منها بوصفه عملاً مستقلاً، بحيث لا يركن إلى فصول سابقة ولا يستشرف فصولاً لاحقة، وهي: السعي وراء المثل الأعلى، وانحسار الأفكار الطوباوية في الغرب، وجيمباتيستا فيكو والتاريخ الثقافي، والنسبية المزعومة في فكر القرن الثامن عشر الأوروبي، والوحدة الأوروبية وتقلباتها، وتمجيد الإرادة الرومانسية، والأملود الأعوج: في بزوغ القومية.
ويتابع: “عنوان الكتاب (ضلع الإنسانية الأعوج) كما دوّن المحرر هنري هاردي في مقدمته مستقى، وفق اقتراحه، من صياغة إزيا برلن المفضلة لاقتباسه الأثير لمقالة كانت من ضلع معوّج عوج الضلع الذي خلق منه الإنسان، لم يسبق أن نشأ شيء قويم تمامًا” ويضيف هنري: “كان برلن ينسب دومًا هذه الترجمة إلى ر. ج . كولنجوود، غير أنه تصرف في ترجمته”.
الكتاب الذي صيغ بلغة أدبية في الكثير من فقراته تتضح فيها مقدرة د. الحصادي على نحت مفردات بكر أو غير مألوفة لقارئ العربية والمضبوطة في سياقها المحكم من قبل د زاهي، يتحدّث عن القيم وعن إمكانية تحقيقها، وعن حق الإنسان وقيمته الأعلى، التي يجب أن تسخّر كل الظروف للرفع منها، من هذه القيم، حقه في الحياة التي يؤثر عيشها، وحقه في أن يرتئي ما يرتئي، وحقه في الإبداع والخلق والتمرد على الأطر الجاهزة، وفوق ذلك حقه في العيش الكريم.
المترجمان يقولان في مقدمتهما للكتاب عن رؤية برلن للعيش الكريم: الإشكالية تكمن في العيش الكريم، أي عيش هذا ؟ أتراه العيش الذي يحض عليه الأديان السماوية، في مجتمع تعد أفراده بنعيم سرمدي، وتنذر المارقين عنه بنار تلظى؟ أم تراه العيش الذي يبشر به القادة الملهمون، العظام الرؤويون، أنصاف الآلهة الذين تسنى لهم وحدهم رؤية الضوء المنبعث في نهاية النفق؟
ويتطرّق الكتاب إلى نهج الروائيين الروس في القرن التاسع عشر في تطلعهم إلى عالم مثالي يخلو من العنف والجور ويعيش أهلوه في حالة تجانس تام، البعض من الروائيين الروس، تولستوي مثلاً، عثر على اليوتوبيا التي يبشر بها في رؤى أناس بسطاء لم تلوثهم مؤسّسات الحضارة الزائفة. بعض آخر منهم ذهب إلى أنه بالمقدور إنقاذ العالم لو تمكّن البشر فحسب من رؤية الحقيقة الجاثمة تحت أقدامهم، لو أنهم أخلصوا للأناجيل المسيحية. أو أي نصوص مقدسة أخرى، في حين وضع بعض ثالث ثقته كاملة في العقلانية العلمية. أو في الثورة الاجتماعية والسياسية، في حين بحثت طائفة رابعة عن أجوبة في مختلف أساليب اللاهوت الأرثودوكسي، الديمقراطية الليبرالية الغربية، أو في العودة للقيم السلافية القديمة.
في الكتاب تحذير من برلن بخصوص حقوق الإنسان، المتجذّرة في معنى كونه إنسانًا، حرية البشر بوصفهم أفرادًا ذوي إرادات ومشاعر وعقائد ومثل وأنماط حياة خاصة، قد ضاعت في غمرة حسابات العولمة والتقديرات الهائلة التي ترشد برامج مخططي السياسات ومنفذي العمليات العملاقة.
ويضيق: “الكتاب لا يخلو من بعض النصوص التي تثير جدلاً واسعًا لكن يمكن تصنيفها على أنها نصوص إبداعية تثير الدهشة مثل قول جوزيف دي ميستر الذي خصه المؤلف بفصل حول أصول الفاشية: إن دستور 1795م، شأنه شأن أسلافه، صنع من أجل الإنسان. بيد أنه لا يوجد شيء اسمه الإنسان في العالم، لقد شاهدت خلال حياتي فرنسيين وإيطاليين وروسا، وأعرف أيضًا، بفضل مونتسكيو، أن المرء يمكن أن يكون بروسيا، أما فيما يتعلّق بالإنسان، فإنني أعلن أنني لم أقابله طيلة حياتي، إذا كان موجودًا فإنه غير معروف بالنسبة إليّ”.
وفي سياق آخر يتحدث الكتاب عن الجلاد بقوله: من هذا الكائن المتعذّر تفسيره، الذي، في حين أن هناك العديد جدًا من المهن المقبولة، المريحة، النزيهة، وحتى الشريفة للاختيار بينها، وليمارس فيها الإنسان مهاراته أو قدرته، اختار تعذيب أو قتل نوعه؟ هذا الرأس، هذا القلب، هل هما مخلوقان مثل رؤوسنا وقلوبنا؟ أليس هناك شيء ما فريد فيهما، وغريب عن طبيعتنا؟
الجدير بالذكر أن المترجمين الحصادي والمغربي يتفقان مع برلن في عدة رؤى وقضايا، ويختلفان معه في بعضها حسب ما كتبا في المقدمة، لكن يقولان: إننا لا نصادر حق القارئ في تشكيل رؤيته الخاصة، بل إننا لم نستهدف من ترجمة هذا الكتاب إلا تمكينه من تشكيل رؤية من هكذا قبيل.
ولد إزيا برلن في ريجا عاصمة لاتفيا، انتقلت أسرته إلى بتروجراد بروسيا، شهد عام 1917 الثورتين الديمقراطية الاشتراكية والبلشفية. عام 1921 انتقل إلى إنجلترا؛ حيث تلقى تعليمه وبزغ نجمه حيث صار رئيسًا للأكاديمية البريطانية، ليتحصّل على عدة جوائز مهمة بوصفه مؤرخًا وشارحًا للأفكار ومدافعًا عن الحريات المدنية.