حوارات

نويمي فيرو: الترجمة كالحب.. ليست خيانة

نويمي فيرو شابة إسبانية زارت ليبيا العام الماضي لتدريس اللغة الإسبانية وآدابها بجامعة طرابلس، سرعان ما اندمجت في الحياة الفنية والثقافية والعامة في البلاد، زارت مراسم الفنانين بالمدينة القديمة، وحضرت عدة فعاليات ثقافية، وتعرفت على أسماء ليبية مبدعة لها وزنها في المشهد الثقافي الليبي كالأديب الفنان رضوان بوشويشة، بالإضافة إلى أنها ترجمت ثلاثة كتب ليبية إلى اللغة الإسبانية، وهي رواية «الأيام الأخيرة في علاّج» لمحمد العريشية، وقصص «تفاصيل اليوم العادي» لمحمد المسلاتي، ورواية «ملح» لمحمد الأصفر.

الكاتبة الإسبانية نويمي فيرو ومحمد الأصفر
الكاتبة الإسبانية نويمي فيرو ومحمد الأصفر

«بوابة الوسط» التقت «فيرو» قبل مغادرتها إلى إسبانيا؛ بسبب الوضع الأمني في العاصمة طرابلس، وسجلت انطباعاتها عن الحياة في ليبيا وعن رؤيتها الفنية للمنجز الثقافي الليبي من خلال ترجمتها نماذج منه. وتطرقت خلال الحوار للأدب الإسباني ومشكلات الترجمة وقضايا سياسية خاصة بالاستعمار الإسباني والحرب الأهلية الشبيهة بما يحدث في ليبيا الآن:
وإلى نص الحوار:

• حدثينا عن الحياة التي عشتِ أحداثها في طرابلس؟
عشت ثمانية أشهر في طرابلس. دخلت البلد بفضل منحة من وزارة الخارجية الإسبانية لتدريس اللغة الإسبانية في الجامعة. وخرجت من البلد بسبب الوضع الأمني الذي أغلق المشروع. استمتعت بهذه المنحة سابقًا ولمدة ثلاث سنوات في سورية، حيث خرجت للسبب نفسه وهو الوضع الأمني. لذلك عندما تلقت اتصالات هاتفية من الخارجية للعمل في ليبيا، كنت أتوقع ما سيحدث لي. قدري أن يكون عملي في أماكن متوترة، ودائمًا أقبل التحدي لأعيش أجواء أهل البلد بشكل صادق، أثناء الحروب نرى لمعان المعدن بشكل أوضح.

كان لا بد من أن أرتب الحقيبة وأشتري تذكرة ذهاب بلا إياب بأسرع وقت ممكن. لقد شعرت في تلك الأيام بعد اتخاذ القرار بأن قصتي تتكرر من جديد إلى حد ما لأني مررت بنفس المشاعر في آخر أيام إقامتي في دمشق.

وكيف عن أيامك الأولى في طرابلس؟

الحياة في طرابلس الشهور الأولى لم تكن سهلة أو لطيفة معي على الإطلاق. كنت مقيمة في فندق ما بشارع عمر المختار لمدة ثلاثة أشهر. كان من المفروض أن أستأجر بيتًا، ولكن بسبب ظروف الجامعة والفوضى المنتشرة وعدم التنظيم تأخر القرار كثيرًا، فالظروف أثرت على حماسي خاصة الصراع اليومي مع المسؤولين عني في طرابلس.

هل شعرتِ بتعاون المسؤولين في الجامعة لتوفير ظروف عمل مريحة؟

للأسف الشديد ما وجدت نية حقيقية لإصلاح المشكلات، ليس فقط فيما يتعلق بإقامتي بالبلد، حيث أقمت أربعة أشهر دون إمكانية للسفر لأن المسؤولين في الهجرة والجوازات رفضوا طلب الإقامة.

ماذا عن الطلاب الليبيين الذين درستي لهم؟

بلا شك الطلاب الليبيون رائعون، والعمل معهم جعلني أشعر بالراحة والاهتمام بمنصبي وعملي معهم بغض النظر عن العراقيل التي واجهتني من المسؤولين. أعجبني في الطلاب حماسهم للتعلم واهتمامهم بالمستقبل والدراسة. مع تلك الخبرة البسيطة التي عايشتها والمقارنة بين حماس الطالب وسوء أداء المسؤول، وبلا تحليل عميق استنتجت أن جيلين يعيشان في ليبيا، أحدهما سلبي يريد أن يترك كل شيء على ما هو، والثاني إيجابي يريد أن يغيّر الأشياء غير العادلة. أشعر في طرابلس بأن ثمة عمل كثير للنهوض بالبلد من خلال طلابي، أو مشاهد أعمال خيرية وتطوعية في الشارع.كنت متفائلة ومتحمسة أغلبية وقتي، ربما لأني قررت الاقتراب من الناس وهم الشباب من جيل المراهقة الذين عبّروا أيضًا عن حماسهم بالمستقبل.

عملتي من قبل في عدة بلدان عربية.. ما انطباعك عن ليبيا وهل ثمة فرق أو تميز؟

كل بلد عربي زرته أو عشت فيه لديه خصوصيات وشخصية مميزة؛ بسبب شعبه وظروفه الحالية أو القادمة. جلست في اليمن أربعة أشهر فقط في العام 2005 لدراسة اللغة العربية عندما كنت أدرس آخر سنة في الجامعة، وكنت أستقل «باص صغير» وحيدة وأترجل حول باب اليمن عند المدينة القديمة.

لم تواجهني أي مشكلة في الشوارع إلا النظرات المستغربة من الرجال والنساء على حد سواء عندما يرون أوروبية. في طرابلس شعرت بنفس النظرات، ربما بسبب عدم وجود أجانب كثيرين في الشوارع وقت التوتر الأمني الحالي. على كل الأحوال في ليبيا لم أكن حرّة في الخروج وحيدة في بعض الأوقات أو الحركة العادية من أجل أزمة المواصلات وشح البنزين. لا أستطيع أن أقارن خبرتي في الكويت أو اليمن أو سورية مع خبرتي في ليبيا، لم تعجبني الوحدة التي شعرت بها في الكويت بسبب صعوبات الدخول في المجتمع الكويتي وأنت أجنبي.. لكن أعجبت ببعض مظاهر الحياة العامة، أعجبني جدًا الركوب في الباصات العامة التي كان يركبها الباكستانيون والفلبينيون والبنغال، وأنا سعيدة بذلك لأني اكتشفت أماكن، وتعلمت أشياء بعيدة عن المولات والحياة الفاخرة التي بالطبع زرتها قليلاً.لم تعجبني النساء بالخمار ولا الكفوف، ولكن أعجبتني، وكثيرًا، سوق المباركية حيث تعاملت بشكل مباشر مع العرب.

وماذا عن ليبيا؟
أعجبتني رؤية وجوه النساء الليبيات وخبرتهن بقيادة السيارات التي ما وجدت مثلها باليمن مثلاً.وفي النهاية كل ما أريد أن أشرحه أن كل مكان أخذ مني شيئًا، لأن الحياة لحسن الحظ في البلدان العربية، وحتى الآن لديها حركة حيّة عشقتها من زمان. وأظن أنّ المسافر والغريب يجب عليه أن يبدأ رحلته دائمًا بنظرة متفائلة وصالحة للفهم قبل كل شيء آخر.

• القلعة في ميدان الشهداء بناها الإسبان.. فكيف يرى الإسبان الأماكن التي استعمروها قديمًا باعتبارك مواطنة إسبانية؟

لست أدري إذا كان يمكنني تقديم الصورة العامة التي يملكها الإسبان عن مواضيع تاريخية كهذه. لكن سأحاول أن أعرض الإحساس عندي مقابل هذه الفكرة. يبدو صحيحًا أن إسبانيا كانت بلدًا مستعمرة في فترة من تاريخها، والعمارات والبنايات في بعض المدن أو انتشار اللغة الإسبانية في القارة الأميركية اللاتينية أفضل دليل عن ذلك. في هذه الصدد قامت إسبانيا بسياسة خارجية مثيرة للجدل مثل ما فعلت بلدان أوروبية أخرى في مرحلة من مراحل تاريخها. على الرغم من الآثار الموجودة حتى الآن من تلك الفترة، اعتقادي الشخصي أن الشعب الإسباني لديه نظرة بعيدة، فكل هذه الأحداث لا علاقة حقيقية له بها، وبالتالي أصبح التاريخ تاريخًا أو كما نقول الماضي مضى. نتيجة لذلك أو ممكن مثال عن ذلك لا يوجد رجوع إلى الماضي للبكاء على آثاره.

وفي هذه النقطة أتذكر هذا الشيء يقال لدى العرب (وين كنا ووين صرنا) وهي عبارة سمعتها مرات عديدة منكم. لا أريد أن أسهّل الأمر إلى هذه الدرجة أو أتنصل من أحداث كانت فيها إسبانيا هي المخطئ، بل فقط أقدم صورة ربما تكون سطحية لا شك من ذلك، عند مقارنتي بين نمطين في إعادة النظر إلى الماضي.قد تكون الحرب الأهلية الإسبانية (1936ـ 1939) المرحلة التاريخية أكثر حضورًا في ذاكرة الإسبان أو أكثر بكثير من التجربة الاستعمارية.

• ماذا تمثل رواية دون كيشوت لثيربانتس في الأدب العالمي حاليًا؟

فيما يتعلق برواية «دون كيشوت» فأظن أنّ كل شيء كُتب عنها وتم تحليل كل زاوية في هذا النص بقراءات متنوعة ومختلفة، فلم تبق كلمة واحدة دون نطق عن هذا العمل الأدبي. من المتفق عليه أنّ هذه الرواية مثلت نقلة أساسية في طريقة التركيب في السرد الأدبي والعلاقة بين الواقع والخيال بصورة جديدة وحديثة تلك الأيام ونجحت في أن تمتد إلى المستقبل. بعدها تم تجريب أنواع مختلفة للاقتراب من خبرة الإبداع الأدبي، فقد تكون نتيجة للسرد المفتوح بقلم ثيربانتس؟ ممكن ولكن ليس بفضله فقط. في رأيي الأدب مثلما يحدث مع أي إبداع فني يتحرك ويؤثر ويتطور ويسبب مشاعر مدهشة تحرك مكنة التفكير في أذهان القراء.دعنا نسأل الآن.. ما تأثير دون كيشوت حاليًا؟ صراحة أتمنى أن يكون تأثيره خفيفًا، لكي يسمح للكتاب المعاصرين اختيار طرقهم وأساليبهم الخاصة.

• من خلال ترجماتك لكتب عربية ما المستوى الفني في نظرك؟ وهل يمكن للأدب العربي أن ينافس عالميًا إذا نقل إلى لغة أخرى من خلال مترجمين لديهم كفاءة وموهبة ورغبة؟

في نظري المستوى الفني بالكتب التي ترجمتها عال وكنت متورّطة في النصوص فعلاً وكأنها قطعة مني. المترجم لا بد أن يتدخل في أي مشروع جديد حتى يصبح جزءًا حقيقيًا منه. خبرتي كقارئة للأدب العربي أكبر من خبرتي كمترجمة وهذا الشيء عادي ومفهوم وأعترف به. فصورتي عن الأدب العربي لا تحدد بالكتب التي ترجمتها. بدأت بقراءة روايات مكتوبة باللغة العربية بعد سنوات طويلة من الدراسة. فيما يخصّ بالمنهج لتعليم لغة صعبة مثل العربية الفصحى لا يساعد فقط الطالب للحصول على مستوى في اللغة يسمح له بقراءة رواية حتى وهو متخرج ويحمل شهادة جامعية تحت إبطه. في الحقيقة بعد التخرج يبدأ الحياة الواقعية والسفر، والمشكلة باللغة العامية والاستيعاب في الشوارع لغة جديدة ما سمع هو سابقًا وهي لغة أخرى لا علاقة بما درس في الجامعة. سأقول لك لابد للمترجم أن يدرس أيضًا في الشارع وأن ينال شهادة منه بالامتزاج فيه وفهم لهجته ودلالاتها، الفصحى وحدها لا تصنع مترجمًا جيدًا.

باعتقادي أن الأدب العربي يستطيع أن ينافس بلا شك عالميًا عندما ينقل إلى لغة أخرى، لا توجد أي موانع تمنع ذلك. الأدب العربي المعاصر يتعامل مع مواضيع وأحاسيس مشابهة للآداب المكتوبة بلغات أخرى.. كل الآداب موضوعها الرئيسي هو الإنسان. المشكلة الوحيدة التي يعاني منها الأدب العربي وهي مشكلة خارجية وليست فعلاً مشكلته. الأمر يتعلق بعدد المترجمين القليلين الذين اختاروا هذه المهنة وتخصصوا في العربية. كما قلت سابقًا الطريق ممتلئ بالمتاعب والصعوبات. والجهات الحكومية المسؤولة عن الأدب العربي لسوء الحظ قد خصصت دعمًا تافهًا لإحداث تغيير ناجح في مشاريع الترجمة.

سأقول لك إن الخيانة هي عدم توفر الدعم لإتمام نقل أحلامنا وطموحاتنا وجمالياتنا إلى لغة الآخر من أجل إثراء الإنسانية، أضحك كثيرًا عندما أسمع من أحد الصحفيين سؤال يقول: هل الترجمة خيانة للنص؟ باختصار هذه العبارة التي تقول: «كل ترجمة خيانة» ساهمت بطريقة سيئة في تشويه المهنة وأيقظت شكوكًا من قبل كل الأطراف كاتب قارئ مترجم ناشر في جدوى الترجمة، وأعتقد أنها مقولة خاطئة وغير مسؤولة، ففي كل الترجمات الذي يحدث بالضبط هو علاقة حب بين النص والمترجم.. والحب ليس خيانة.

___________________________

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

القاص محمد المغبوب/ الكتابة لدي هي عملية بحث متواصل

المشرف العام

الكاتبة والشاعرة محبوبة خليفة: القلق هو قوت أقلامنا

المشرف العام

المهدي جاتو: لا أرضى إلا بالعمل المتقن

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق