حاوره: محمد الأصفر
ما إن تدخل مرسم الفنان التشكيلي عمر جهان الفورتية، القريب من شارع طرابلس بمصراتة، تطالعك حروفية كتبت على قماشة بخط تشكيلي متداخل، يصّاعد من أسفل إلى أعلى، بتأملها أكثر تخالها نصًا من رواية «العشاق التعساء» لأمبثياس المعروف في الأنطولوجيا الليبية القديمة، ذاك العاشق المنفي عن وطنه والمعبر عن النفي بقوله: «أنا لن أعود إلى الوطن الذي نفيت منه، فلأقل وداعًا لكل العواطف، لكل الخيول وعرباتها، ولسباق الحواجز، وداعًا للسلفيوم، وحزمه، وأوراقه، وعصيره العجيب».
عن سنوات المنفى
عن تجربة المنفى (في القاهرة) الذي أمضى فيه 37 سنة، بدأت العام 1973 م، قضى السبع سنوات الأولى منه في غرفة على سطح إحدى البنايات القديمة بالدقي، حيث شكلت هذه الغرفة العلوية والتي يؤنسها الأصدقاء من التشكيليين والأدباء جانبًا مهمًا في تكوينه الفني.
يجيب عمر ببعض المرارة والأسف: «في مثل هذا اليوم 21 / 8 / 2013م وصلت إلى بلدتي مصراتة وأقمت في ليبيا. على أمل أن أستقر وأقيم بيتًا صغيرًا لأسرتي الصغيرة، وها هي سنة كاملة تمر لا تخلو من إنجاز لكنّه لا يذكر سواء في مستوى الفن أو مستوى الحياة العملية لم ينجز من البيت المأمول غير بوابة سوداء عجفاء كالحة، أمّا في بيتنا الكبير ليبيا فحتى هذه البوابة صارت من الآمال والطموحات (..) أنا حزين ولا أستطيع الرسم بلياقتي المعهودة، تنتابني البلادة وأنا أشاهد هيستيريا الفضائيات الليبية ويعصرني الألم وأنا أرى مسلسل الموت، أتمنى أن يخرج الوطن من هذا الكابوس المرعب و لا أمنية لي غير هذه الأمنية الغالية، ولا مطلب آخر لي سواها.
– باعتبارك متذمرًا من راهن الحال وغير راض عنه دعني أسألك عن أسباب الموقف السلبي الذي يتخذه مثقفو مصراتة (أدباء – تشكيليّون – نقاد – فنانون – موسيقيون_ ألخ) من الأحداث التي تعيشها البلاد، وخاصة التي مصراتة طرف فيها.
هناك سببان سبب من داخل البنية الثقافية ذاتها، فالتداخل ما بين الواقعي والفني والسياسي والفكري لم يمكّنا من رؤية الأمور بوضوح لاتخاذ قرار مناسب بشأنها .. إلخ .. لأنه لا يوجد لدينا فرز وتطور مستقل لكل البنيات الفكرية والثقافية، وهذا أدى إلى غياب مؤسسات يتحرك ضمنها الفنان والمثقف، حتى أصبحت المؤسسات نفسها ما يشبه ثكنات عسكرية.
مثقفو مصراتة والحرب
لمثقفي مصراتة آراء متعددة ومتنوعة حول الحرب الأخيرة والحملة المسماة (فجر ليبيا) لكن الرأي الأوحد والوحيد المسموح بالتعبير عنه هو الموقف الذي يصب في خانة التحريض، والقائل أنه (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) .. في حين أن بروز تلك الآراء المسكوت عنها، في ملتي واعتقادي، تكون مجدية لمستقبل ليبيا، بل ومصدر قوة حتى لمعركة حربية أيًا كانت مبرراتها.
ويواصل التشكيلي جهان أحد المؤسسين للحركة التشكيلية «إضاءة 77» المعروفة في مصر كلامه لكن بشيء من الانحياز لمصراتة سيكتشفه القارئ حتمًا، فيقول: «المثقف لا يمكن أن يقبل مدافع الهاون والغراد وهما يدكان شوارع طرابلس، ولا يمكن أن يقبل البراميل المتفجرة المنهمرة على رؤوس أهالينا في بنغازي ومن ثم في طرابلس».
التشكيل في ليبيا
بعيدًا عن دور المثقف وسلبيته نعود إلى التشكيل، ولكي يتألق محليًا (مصراتة) وليبيا ماذا ينقصه؟
لا ينقص التجربة الفنية التشكيلية في مصراتة كما، وصلني من انطباعات (بين قوسين) بعد معايشتها سنة كاملة، سوى أمرين مهمين؛ الأمر الأول ما أطلق عليه اسم التساوق، بمعنى وجود مؤسسات ثقافية، تعنى بالفنون مجتمعة مسرحًا وسينما وأدب وفنون تشكيلية. فالتشكيل بتطور الرواية والمسرح وبقية روافد الإبداع يتطور هو أيضًا، فالجسم الإبداعي وإن تعددت أشكاله هو واحد. الأمر الثاني لا تزال ثقافة سطوة الآيديولوجيا وقيادتها للفن والأدب، تطل برأسها الكريه، ولا أعتقد أن هناك تطورًا للفنون، دون ديمقراطية وحرية فكر وصحوة ضمير.
سؤال آخر طرحته على عمر يخص استقبال لوحاته التي تركها في مصراتة عندما غادرها لمدة 37 عامًا.. المشاعر .. الأحاسيس .. أين وجد اللوحات؟
تركت لوحاتي مبعثرة في حجرة المرسم ببيت العائلة دونما ترتيب ولا توثيق، ونظرًا لموقفي السياسي المناهض لديكتاتورية العقيد في تلك الفترة، أصبحت لوحاتي الحبيبة غير مرغوب فيها، وهكذا عرفت فيما بعد أنها تفرق دمها بين الأصدقاء والأحباء.
شعرت بالأسى كثيرًا لأن لوحاتي صارت منبوذة، وربما عرضها في إحدى الصالات أو مرابيع الأصدقاء تسبب حرجًا، بل بوشاية صغيرة مع تقرير أمني قد يزج بمن يقتنيها في السجن.
عندما عدت إلى مسقط رأسي أول ما فكرت فيه بعد اطمئناني على العائلة الكبيرة أن بدأت أبحث عنها وساعدني ابن أخي الفنان عادل الفورتية وبذل معي مجهودًا للعثور على اللوحات، 10 منها احتفظ بها الدكتور خالد القايد وتسلمتها منه بعد أن قدمت له الشكر والامتنان .. كان لقائي مع لوحاتي حميميًا، ورغم أني اشتغلتها في بداياتي، إلا أن قيمتها الفنية لدي ارتفعت أكثر، فهي الأساس الذي انطلقت منه.
بجولة في أروقة المرسم لاحظت أن الرسم حاليًا معظمه بالأسود والأبيض ودرجات الظل بينهما، سألته لماذا خنت معظم ألوان الطيف وأهملتها؟
يجيب عمر وهو يصب لي كوب شاي كيس أخضر: صدقني لا أدرى لماذا الأبيض والأسود، ربما أحاول أن أختزل الوجع المر في كلمات لم أستطع بعد أن أبوح بها .. ورغم كل شيء، سأستمر في المحاولة.. لا أستطيع أن أقول أني سعيد بعيدًا عن ألوان الحياة الأخرى بما فيها الأحمر.
لاحظت أيضًا أنه رسم عدة لوحات هي عبارة عن رؤوس متناثرة من دون أطراف رسمت بشكل هلامي مضبب.. نظرت في عينيه وقلت هل فقد الليبي أطرافه الآن وكيف ترى الأمر؟
كان الإنسان في ظل النظام السابق بلا رأس، أما هذه الأيام فهو بلا حواس، فقد السمع والبصر والذوق، ولم يبق له سوى العقل لإنقاذه، وإنقاذ ليبيا من هذه الحفرة المظلمة.