هدى الهرمي | تونس
_لماذا لا تجلس على طرف السرير، وترمي وسائد صدرك الفارغة أو تغرز اجنحتك، لترتدّ مرنة وتكٌفّ عن افتعال أحلامك الغريبة كظامئ ملقى في بركة جافّة…لكن لا حياة أخرى تدور في عروقك حين تضع رأسك بين كفيّك ليندفع صوت بوق فاجع من حلقك، ويسقط فوق اسطوانة عتيقة في بيت وحيد على الشاطئ!
ظلْ وجه احمد جامدا والسيد هيثم يهتف به في نوبة فلسفة قائلا بتوتر:
_كان من الممكن ان تكتب اكثر من اي وقت، بدل التحديق في صورتك كل ثانية، او تنفخ الغبار المتراكم فوق مكتبتك الضخمة وتتصفح ما يمكنك قراءته، كي تطعم مزاجك المتلهف لاستقبال الأصوات المشبكة بالورق.
لقد سمعه بوضوح ولم يرفع رأسه عن الارض وهو يتأمل خطواته، وانتظر ان ينهي خطابه.
رفع السيد هيثم يده ثم ربّت على كتف احمد وقال بهدوء عجيب:
_قد تفشل في محاولاتك العديدة للخلاص من جزعك، مخافة ان يضيع صوتك، كأخرق أدار ظهره لحزمة الدفاتر والكتب بكتفين ضامرين، لأنك لا تقوى على الامساك بها، فيراودك شعوك بالحنق كلما وقفت امامها الى حدّ تودٌ فيه تمزيقها… وستفكّر حتما في رميها للبحر، لتطعم الأسماء الفضيّة حين تتحلّق حولك، لكنك تنسى انّ السمك يقتله الورق ويفتكّ بمعدته الصغيرة… تراه لو ابتلع مثلا مثلا رواية “كافكا على الشاطئ” لهاروكي موراكامي، هل يتقيّأ للوهلة الأولى جميع الشخوص؟ ام تنبت في البحر عوالم غرائبيّة تلقنها حكّ خياشمها؟ او يحدث ان ينتابها سعال حادّ وتشربَ فصلا دراميّا يشوّه فطرتها… ربما يظهر شرخ كبير فوق جلدها السميك ويهتك زعانفها، فتتحوّل وتصبح برمائيّة، وتغادر الأعماق السحيقة دون رجعة.
طوال الطريق، استشعر احمد قلقا يشقّ صدره بلا هوادة، وهو يغوص في دوامة من الهواجس، كأنه لا يهتم لثرثرة رفيقه.
وصلا اخيرا الى البار، وكانت هذه المرة الثالثة التي التقيا فيها لقضاء بعض الوقت معا. وقبل ان يتوجه الرّجلان ناحية الباب الازرق العريض، أردف السيد هيثم قائلا:
_لكن صوتك المجوّف يسري مع الجداول الجبليّة بجنون، ثم يصعد الى الغيوم المترحّلة، ليعوي من ذلك العلّو الشاهق.
هزّ احمد راسه فجأة، وهو ينظر الى رفيقه باستغراب. وقف في مواجهته وقال متحمّسا:
_ لا بدّ ان يعود اليّ كشيء ذي قيمة، لكنك لا تدري غالبا انني كاتب يصطاد الأصوات العجيبة فوق تلّة صغيرة.
خطا السيد هيثم نحوه ببطء وكان مبتسما:
_هكذا جرت العادة حين تبحث عن نقطة بدء ثانية. ولم تزل كذلك حتى الساعة !
هنا، وقبل ان ينغمسا في متعة مرفوعة بين الكؤوس، بينما العيون المنفرجة تتحرّك صوب زجاجيتين كبيرتين من النبيذ، غادر احمد فجأة المكان تاركا بعض الأوراق النقدية فوق الطاولة المرتفعة قبالة الساقي. كان يحسّ بأنه لا يوجد شيء يضمّد صوته الراجف في حانة ضيّقة تكبّل عنقه، وتسكت قرقعة ذهنه ولسانه المتحمّس لصياغة افكاره المجنونة، وسمع صوت رفيقه يهتف به:
_ ما بك…الى أين يا صاح؟
ركض للخارج هاربا من المكان، وبحث لهنينة عن الطريق، فاطلّ من فوق الحاجز الاحمر امام بهو الحانة، ثم اعتدل في وقفته…كان مرّة يهزّ رأسه معتقدا ان السماء تجاريه في ايجاد معنى لصوته المندلق كالمطر حين يتكبّد مشقّة الصراخ في اوج وجعه من ثقل السكوت، لكنه يفتقد لبوصلة واطئة ليضع الأمور في نصابها.
رفع يده إلى رأسه وحرّك شعره الكثيف كأنه يغرف هتافاته المحظورة والغامضة، فتنزلق بطيئة وتلتصق بوجهه، ثم تدور الى ان تصل الى فمه المنبسط وتهجع فوق شفاهه الباردة، ويصبح الأمر كلّه حكاية سكوت تتحرّك بحذر في حلقه المنغلق، ثم تباغت جسده، فتنتفض أطرافه طوعا لأصوات مزّقها السّياج وهو يرفع جبينه بالكاد محاولا أن يتكلّم. وخُيّل إليه انّ العالم برُمّته واقفا أمامه…فيهزّ رأسه ويبتسم.
_ ماذا حدث لك؟
صوت هيثم، كان مثل البوق وهو يصرخ ويبحث عن مبرر لصاحبه، ثم يتبعه وهو يقرع الأرض، محاولا ايجاد تفسير لما حدث في لحظات، ومستغربا تجاهله له.
توقّف أحمد فجأة كأنه مُستعدّ ليلتفت خلفه ويمدٌ يده ليربّت على كتف رفيقه وهو يحدٌق إلى وجهه ويشعر بتنفسه الثقيل. ثم أكمل سيره بكل برودة دم.
_ هل أبدو ثرثارا ومزعجا؟
صاح السيد هيثم ثم اندفع وراءه مرة ثانية في محاولة يائسة ليلتحق به. كانت عيونه تلتمع بالقلق والحيرة، واحسّ فجأة بدُوار شديد بعد الجهد الذي بذله بسبب ما يعانيه من سمنة غير ملائمة للهرولة، جعلته يشعر بمغص في الأمعاء وثقل في الرأس.
لكن أحمد كان يراوغ رفيقه لإعفائه من ملاحقته ويخدش صمته المزعوم بالهروب الى وجهة غير معلومة. على حين غرّة أمسك بتلابيب سترته شيء ما، ثم غرز في عنقه إبرة حادّة شلّت حركته تماما، لكن صوته بدأ يتقافز في الحنجرة ثم يتلعثم كأنه يهذي وهو يقول:
_ تبّا لكم…اتركوني وشأني!
* شاعرة وقاصة من تونس