دراسات

دراسة لقصة أقدار ساخر لإيمان السنوسي وهلي

الجزء الثاني: السرد – الراوي – التداخل الانواعي

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

1.2 السرد والراوي في القصة

تم إنجاز الخطاب القصصي للقصة بطريقتين، الأولى عن طريق راو عادي يؤطر السرد والأحداث، وينجز حكاية قصة موضوعها حضور لومومبا حارسا منذ أربعة سنوات وذلك الموقف تلك الليلة الذي أنفضح فيه أمر أمل امام الحارس لومومبا.

بينما الجزء الثاني كان يحكي قصة لومومبا وتاريخه الأسري على لسانه بعد أن تعرف بشكل اكبر على أمل واندمج معها، وصارت مشتاقة لمعرفة قصته.

أولا. الصوت الأول: بداية الحكاية والراوي الخارجي

في بداية القصة يحدثنا الراوي عن ذلك اليوم وهو يوم خاص بالنسبة للفتاة ويحدده بكونه بعد أربعة سنوات من عمل لومومبا حارسا لبيت أسرة الفتاة:

” (أ) حرارة شديدة ورطوبة أشد، ورتابة عنيدة لا تتبدد، مر ذلك المساء على الجميع كغيره من مساءات أغسطس القائظة التي لا تحمل أي جديد، (ب) المدينة مصابة بلعنة اللا مبالاة ، لا شيء يستثير الناس، لا الجمال ولا القبح .. لا الخير ولا الشر، غرقى في نوع من الروتين المريع الذي لا يكسره سوى أصوات الرصاص التي تخدش السكون من وقت لآخر ، والسباب الذي يتبادله سائقوا السيارات خلال شجاراتهم التي تحدث لسبب ودون سبب ؛ لم يكن ثمة ما يميز هذا المساء عن غيره بالنسبة لكثيرين ممن يراوغون شبح الإكتئاب، (ت) ولكن بالنسبة لأمل فقد كان يوما لن يشبه في سائر الأيام، بل سيظل نقطة فاصلة في تاريخها الشخصي.

(ث) أربع سنوات طويلة انقضت على اليوم الأول لذاك للعامل المنزلي محمد لومومبا ، الذي جاء ليعمل كحارس لمنزلهم”

تبدأ القصة في (أ) على صورة عامة يسربها الراوي عن الوضع الطقس في طرابلس شهر أغسطس، وفي (ب) نتابع صورة المدينة وأهلها وهي صورة تأملية مميزة ترسم الوعي الجمعي وما يفعله الجميع غالبا بلهجة عمومية وتصوير للخلفيات، ثم نجد بداية تحديد الشخصيات من خلال تحديد طبيعة هذا اليوم بالنسبة لأمل في (ت)، وهذا نوع من الاستباق لحدث قادم أو بذرة تتطور فيما بعد، في (ث) نتابع تحديدا زمنيا لأربع سنوات من عمر عمل محمد لومومبا العامل الأفريقي في خدمة العائلة. تستمر القصة بنفس الطريقة حيث نتابع قصة لومومبا وعمله في خدمة العائلات وتطور العلاقة بينه وبين الفتاة التي يخدم في بيتهم.

ثانيا. الصوت الثاني: القصة تنجز من راو مندمج مع لومومبا وموجهة لأمل

للمزيد من رسم الشخصية ووضعها أمامنا هي وقيمها التي قد تكون غريبة، فإن الراوي قام بأسطرة موضوع حكاية والدي لومومبا من خلال تلك الرغبة الشديدة لدى الفتاة لمعرفتها،  فقد تمّ وضع لومومبا في وضع السرد من خلال الحاح الفتاة لمعرفة قصته وقصة أسرته لنتابع بداية ذلك هنا:

“… (أ) وذات مساء سألته عن عائلته وأهله، وعما إذا كان مرتبطا أو له زوجة وأطفال في بلاده البعيدة ، (ب) راوغ دون أن يمنحها جوابا ودون أن يدري قدح فضولها (ت) فأضرم فيه نارا لن تطفئها سوى روايته للحكاية، (ث) بعد عدة أيام تخيلت خلالها سيناريوهات عدة أعادت طرح السؤال بإلحاح عنيد، (ج) فرضخ لفضولها وحكى لها حكايته .

(ح) اخبرها عن والده”

تابعنا في المقطع السابق كيف قام الراوي بأسطرة حكاية أهل لومومبا من خلال تلك الرغبة الباهرة لدى الفتاة في معرفة القصة؛ حيث بدأ في (أ) من خلال تحديد زمني عام (ذات مساء) يحكي من خلاله الراوي عن سؤاله للومومبا عن عائلته، بينما نتابع في (ب) حرقة الفتاة لمعرفة القصة، ثم في (ت) نتابع الراوي يحكي لنا بشكل رمزي عن حرقة أشعلها لومومبا في صدر الفتاة رغبة في معرفة قصته وهي حرقة متعددة في مستويات فعلها ولا تقف عن موضوع الحكاية فقط. ثم في (ث) تعاود طرح السؤال بعد تحديد زمني لعدة أيام، ثم نتابع الراوي يرسم قيام لومومبا بالرضوخ لفضول الفتاة وهو يحكي قصة حياته؛ حيث بدأ مباشرة في (ح) بالحديث عن والده. المميز في هذه القصة أن الحديث عن الوالدين كان مجرد مدخل لوضع خلفية الشخصية لومومبا وفي الوقت نفسه لغرض جعله يتكلم عن نفسه وكان سردا مميزا باعتبار أنه هناك مروي له محدد هي الفتاة، وأن الوضع بينهما غاية في الاندماج، لنلاحظ أن الراوي وهو يضع لومومبا الأفريقي الكادح صاحب الماجستير أمام فتاة بسيطة من عائلة غنية لغرض وضعنا في الخلاصة النهائية الطبيعية وهي أسطرة لومومبا مقابل الفتاة التي تشعر طبيعيا بالدونية أمامه. ويستمر الرواي (لومومبا) ليحكي قصة والديه وزواجهما، ثم موت والده ضمن الصراع الأوغندي، ويسرد كذلك حكاية أمه المسلمة وحربها لرئيسها الذي كانت تحب (عيدي أمين)؛ لأن مجند ليبي معه قتل زوجها. وبنفس الطريقة يلخص الراوي حياته مع أمه وما حدث له بعدها ، ونجد أن أساليب السرد وتقنياته تتباين في كل جزء من أجزاء القصة.

2.2 مدخل حول التداخل الأنواعي في القصة:

تتميز قصة أقدار ساخرة بتداخل أكثر من نمط من أنماط الكتابة يجمعها السرد العادي وصوتين سرديين مختلفين، كنا قد فصلنا فيهما قبل قليل. وهذه الأنواع كما يلي:

قصة الشخصيات العادية (السرد النمطي):

 هي قصة لومومبا مغامراته قديما في بلده والفتاة وأسرتها والمجتمع في طرابلس، وقد تابعنا جزءا من السرد وطريقته في الجزء السابق من الدراسة.

الحكاية ذات البعد التاريخي:

وهي حكاية الحرب في أوغندا وما صاحبها من أحداث سياسية واجتماعية، وهي أحداث تاريخية تمّ سردها على لسان لومومبا وكان حديثه موجها للفتاة التي يحرس بيتهم، وقد تابعنا بداية ذلك عند تفصلينا في طبيعة الخطاب في هذه القصة.

السرد التأملي:

وهو تصورات وتأملات مميزة كان الراوي يبثها هنا وهناك وكانت تأتي لتقدم فكرة أو ترسم شخصية أو تضعنا في خلاصة ما.

3.2 التداخل الأنواعي في القصة:

نتابع فيما يلي بعض التفاصيل حول ذلك التداخل المميز للخطاب السردي في القصة:

أولا. السرد العادي النمطي:

كما تابعنا في دراسات سابقة فإن بنية السرد في القصة والرواية تتكون (غالبا) من السرد النمطي العادي مع دخول سرود نوعية أخرى، والسرد النمطي هو الذي بدأت به هذه القصة وأستمر، وهذا النمط من أنماط الخطاب السردي هو الأكبر حضورا والأكثر ربطا لكل الأحداث، ويحكي غالبا عن قصة لومومبا أو الفتاة بنت الحاج بدر التي يحرس لومومبا بيته، كما تتناول قصة لومومبا في الماضي وكفاحه مع أمه أو حياته لوحده، لنتابع مقطعا حواريا بين الفتاة ولومومبا بعد تعارفهما:

أطرق ثم أجاب بعد ثوان من الصمت: الآن استيقظت .. شكرا على القهوة.
الموقف برمته كان مربكا وغير اعتيادي ، أن تقف ابنة السيد الغني ذو الوجاهة مع العامل الافريقي وتحادثه وتحضر له قهوة بيديها الللتين ما اعتادتا خدمة أحد ، لذا كان الارتباك الذي ظهر في سلوك محمد الأخرق طبيعيا جدا .

بعد دقيقة جاهدت فيها الخجل قالت بصوت خفيض :

– أشكرك على موقفك النبيل، أعني .. أنت تعرف عم أتحدث .
– لا عليك ، أفهم .. أنا لم أر أي شيء”.
تابعنا مقطعا سرديا عاديا من النوع سابق الذكر وهو غالب مادة القصة.

ثانيا. السرد التاريخي

يتحقق حضور البعد التاريخي في هذه القصة من خلال انتقال لومومبا للماضي وسرده لقصة أهله في أوغندا؛ حيث نتابع قصة الصراع العسكري و السياسي بين الجانبين المسلم والنصراني، متمثلا في عيدي أمين المدعوم من نظام القذافي والثوّار المدعومين من تنزانيا ومن الطيران الإسرائيلي. وبغض النظر عن الحقيقة التاريخية التي ليست هي موضوعنا بقدر ما يكون موضوعنا في طريقة توظيف الراوي لها كنمط من أنماط السرد ضمن خطاب القصة الكلي. القصة تقدم من خلال سرد لومومبا وهو يتحدث عن أهله، والده ووالدته، وماضيهم، كما نتابع تلك الأحداث التاريخية من خلال رصد مواقف الأشخاص ضمنها، لنتابع المقطع التالي:

أخبرها عن والده:

(…) وحين استولى عيدي أمين على الحكم اصبح حانقا من الأحوال وهو المثقف الحالم بدولة مدنية ديمقراطية فانضم للمعارضة وعندما إندلعت الحرب الاوغندية في عام 1978 ، كان يدعم الجبهة الوطنية لتحرير أوغندا بشكل سري ويجند لها الشباب ، ويكتب المنشورات ، ويصيغ الخطابات حتى قرر ذات يوم أن يحارب مع الجبهة ضد قوات الرئيس أمين جهارا ؛ مما سبب خلافا مع والدته أيشا، التي كانت تحب الرئيس حب عبادة ، فاتهمته بالخيانة وبالاستهتار وتركته إثر هذا الخلاف الذي لم يدم طويلا حيث إن الموت خطفه على يد مجند ليبي كان يحارب مع الرئيس في مدينة ماساكا”

تابعنا في المقطع السابق الذي يدخل ضمن إطار ما يسرده لومومبا للفتاة، قصة الصراع في أوغندا، كما تابعنا قصة قتل مجند ليبي لوالد لومومبا ونتابع تبدل موقف الأم بعد ذلك، نلاحظ على المقطع السابق اندماج التاريخي بالذاتي فالصراع يقدم لنا من خلال مواقف وتصورات لومومبا لأمه ووالده ودورهما فيه.

الصراع حول الحكم في أوغندا أتخذ شكلا دينيا كما تظهره القصة بين عيدي أمين المسلم وبقية المعارضين له من النصارى، ونجد في القصة حدثا مهما يتضاد مع حدث الصراع هذا، وهو حدث زواج والد لومومبا النصراني من والدته المسلمة وما تسبب لهما هذا الفعل من مشاكل مع الطرفين المسلم والنصراني.

 نتيجة لهذا الزواج وضمن هذا البعد التاريخي للصراع ولد لومومبا، وكان شاهدا على الحرب والقتل والموت، كما تابعنا صورة أمه التي كانت تتحول من حب عيدي أمين، إلى كراهيته بعد قتل مجند لزوجها وقيامها بالحرب ضده، إلى حسرتها على ما رأته من انتقامات من المنتصرين طالت الجند الليبيين وجنود عيدي أمين. الصراع يستمر بطرق مختلفة، حيث يجد لومومبا نفسه بعد زمن طويل في مواجهة شاب ليبي قتل والده في رب أوغندا ولديه كراهية شديدة لمن لونه أسمر. إننا إذن امام بنية توازي تعيد تصور وتعيين الأحداث التاريخية من خلال أفعال آنية كما لاحظنا بين لومومبا الأفريقي الذي قتل مجند ليبي والده وبين الشاب الذي قتل مجند أوغندي والده، لنتابع ذلك هنا:

في إحدى المرات جاء إلى محطة الوقود شاب ظاهر العجرفة والتهور ، تجاوز الشاب من كان قبله وطلب مني مخاطبا إياي بالعبد أن أملأ له الخزان فورا ، فأجبته بأني سأملاه له فور انتهائي من الزبون الذي كان قبله ، ودون أي مقدمات تقدم مني ولكمني على وجهي وبدأ ينهال علي باللكمات والشتائم ، رأيت في عينيه كرها لم يسبق لي أن رأيته في عيني انسان، كره جعل عينينه وحشيتين ومرعبتين كعيني شيطان ، كنت مذهولا لدرجة أنني لم أحاول حتى أن أحمي وجهي، وقبل أن أتخلص من ذهولي أخرج سكينا صغيرا وطعنني به ، وللأسف لم أكن وحدي المشدوه فكل من كان حاضرا بهت  من هذا العدوان الغريب ، وأول من أفاق من هول الصدمة كان والدك حاج بدر”، (…) فيما بعد أخبرني الحاج انه حين سأل عن الشاب اتضح انه من أسرة …. وأبوه كان ضابطا كبيرا في الجيش قتل في الحرب الاوغندية ، و بأن عمه مسؤول مهم في الدولة وكان هو الآخر من المحاربين المشاركين في حرب تشاد وأوغندا ، وأنني لولا لطف الله لكنت قضيت بين يديه لأنه معروف بكرهه للأفارقة وأن ثمة حكايات تروي أنه قتل اثنين منهم، ضحكت وهو يحكي لي كل هذا ، أضحكني كيف أن ما تتجاوزه لا يتجاوزك بالضرورة ، الغبي وحده هو من يظن أنه قادر على فهم جنون هذه الحياة ؛ ومن يعتقد بأنه قادر على التخلص من جنسيته الملعونة وتجاوزها أكثر غباء ، وقد كنت وافر الغباء هه.”

إذن فحياة محمد لومومبا في ليبيا هي تكرار لبنية تاريخية سابقة في النص، تمثلت في ذهاب الليبيون هناك ومقاتلتهم بجانب عيدي أمين، وهو الأن يأتي لليبيا لا ليقاتل ولكن باعتبارها معبرا إلى أوربا أو مكانا للعمل.

نتابع هنا تحسر الوالدة التي تباينت مواقفها من تلك الحرب، بين مقاطعتها لزوجها المعادي لرئيسها المفضل (عيدي أمين) إلى المشاركة في الحرب ضده (عيدي أمين) بعد مقتل زوجها، إلى تحسرها على القتل والموت وهي تراه يلاحق جند (عيدي أمين)، هذا الوعي الضاج بالتناقض المكتنز بالتأمل هو أحد أهم عناصر قوة هذه القصة لنتابع ذلك هنا:

كانت هي تكابد الضياع وتعيش صراعا داخليا ، كانت ترى كيف كان الشعب المسعور يفجر غيظه وغضبه في وجه هؤلاء الجنود المذعورين الذين كانوا يسحلون أحيانا وهم أحياء ، كانت تبكي طويلا كل ليلة حتى يطلع الفجر كمن لا سبيل له لتكفير ذنبه إلا بالدموع  ، وتتوه نهارا بين فرح خبيث لأنها ثأرت لزوجها وبين تعاطف إنساني وأسف على مصير هؤلاء الذين يدينون بدينها ، كانت تستغفر كثيرا جدا حين تتذكر أنها خانت دينها وتتساءل عن سر تناقضها هذا ، هي التي تركت زوجها لأنه يحارب رئيسها ثم شاركت في قتل من يقاتلون لاجل الرئيس ذاته ، حتى في النقاشات التي كانت  تخوض بها مع النساء الثرثارات كانت تائهة ، فكانت تارة مع المعارضة التي دعمتها بشدة ، وتارة أخرى تدافع عن أمين ونظامه وعن الفدائيين الفلسطينين ، تسرد الحجج وتدحضها في آن ، في مبارزة أزلية لن يعرفها سوى من علق يوما بين مطرقة العقل وسندان القلب.”

هذا الصراع وهذا التباين في الرؤى هو أداة الراوي ليجعل ما يقوله منطقيا على الرغم من كونه بذلك يتجاوز أحداثا تاريخية وإرثا لا مناص للكل من أن ينظر له، فما عاشته الأم من تباين في مواقفه واضطراب في مشاعرها هو مادة لومومبا الشاب ليكون خارجا عن تلك الصراعات كما يتصور من خلال خروجه من التصنيف الديني نفسه.

ثالثا. البعد التأملي في القصة:

تميزت هذه القصة بمكون ثالث هو البعد التأملي في السرد، وهو كما اسلفنا في دراسات سابقة، يوقف السرد ليفتح أفقا نفسيا من خلال الإبعاد الإدراكية التي يستحضرها، كما يدعم تحقق الحكاية و بناء الأحداث وضور الشخصيات من خلال طرح تصورات موازية لحياتهم.

1. التأمل لوضعنا في إطار القصة وشخصياتها

نتابع في بداية القصة تصوير الراوي للمكان من خلال توظيف البعد التأملي وهو تأمل في المكان وأهله في زمن محدد:

(أ) حرارة شديدة ورطوبة أشد ، ورتابة عنيدة لا تتبدد ، (ب) مر ذلك المساء على الجميع كغيره من مساءات أغسطس القائظة التي لا تحمل أي جديد ، المدينة مصابة بلعنة اللامبالاة، لا شيء يستثير الناس، لا الجمال ولا القبح .. لا الخير ولا الشر، غرقى في نوع من الروتين المريع الذي لا يكسره سوى أصوات الرصاص التي تخدش السكون من وقت لآخر.
يبدأ السرد بتأطير الحدث من خلال الرتابة المتواترة؛ حيث لا شيء مميز، ويتم إبراز ذلك المتواتر والعادي من خلال المقطع التأملي في (ب) الذي يجعل للرتابة السابقة حضورها، حيث الراوي يتصور وضع المدينة بكاملها والتكرار فيها لدرجة التبلد. هذا البعد التأملي أداة لجعلنا جاهزين للانتباه للحدث المتفرد الذي يخص الفتاة (أمل) في  المقطع التالي:

“لم يكن ثمة ما يميز هذا المساء عن غيره بالنسبة لكثيرين ممن يراوغون شبح الإكتئاب ، ولكن بالنسبة لأمل فقد كان يوما لن يشبه في سائر الأيام ، بل سيظل نقطة فاصلة في تاريخها الشخصي.”

2. التأمل لبناء الشخصية ورسم أبعادها وفهم حقائق عميقة في الإنسان

المقطع التالي يقوم الراوي فيه بتقدم لومومبا أمام المروي له وهو في الآن ذاته يتأمل في طبيعة البشر وما يشعرون به وما لا يشعرون به:

“(أ) كان محمد  أو لومومبا وهو اسمه الرسمي يقوم بكل ما لا يقوم به الرجال ؛ بسبب الانشغال وضيق الوقت ؛ أو بسبب الأنفة المعروفة عن الرجال الليبيين ،(ب) يوما بعد يوم أصبح اعتمادهم عليه شبه كلي ، فتوزع رقم هاتفه عند كل الجارات بعد أن كن يتصلن بأم أمل كي ترسله إليهن ،(ت)  بمرور الوقت أصبح هو بمثابة المحرك الاساسي لكل تلك البيوت ، (ث) ومسؤولا عن المهام الحيوية التي تكون عظيمة التأثير ولكن لا أحد يدرك أهميتها تلك سوى حين يتوقف من كان يؤديها عن ذلك ، إذ ذاك يختل توازن المنزل (ج) .. وهكذا فقد كان محمد هو من يحفظ توازن بيت الحاج وبيوت جيرانه كذلك.
في (أ) تابعنا بداية التعريف بلومومبا وما يقوم به، ويتضمن التعريف به تأملا في طبيعة الليبيين الذين يخدمهم لومومبا أو يقوم بالأشياء بدلا منهم، بينما في (ب) يسرد الراوي الوضع الجديد للومومبا بعد أن صار يخدم الجميع، التأمل سيكون أداة لتصور أشياء قد لا ندركها بسهولة لأول وهلة لفرط دقتها، ولطبيعة ديمومة الحياة التي نعيشها؛ حيث تواتر حاجة الجميع للومومبا، ثم نجد في (ث) التأمل العميق عندما يحدثنا الراوي عن المهام الحيوية التي لا نشعر بأهمية من يقوم بها إلا عند توقفه.

3. التأمل في تحولات الإنسان وفي سوء فعله:

الراوي يضعنا في سوء طباع البشر من خلال شخصية لومومبا ومعاملة نساء الحي له، ففي البداية كن يعاملنه معاملة جيدة كما في (أ)، ثم حدث تبدل يسرده الراوي في (ب)، ثم في (ت) يفلسف الراوي متأملا في طبيعة البشر أسباب ما حصل من إهمال للومومبا رغم كل ما يقوم به. التأمل كما في المرتين السابقتين جاء ليضعنا في البعد النفسي لتلك الشخصيات، لنلاحظ في المقطع (ت) كيف غير الراوي أسلوب خطابه وجعل يحدث المروي له بشكل مباشر ليقترب منه متحدثا عن نفسه وعن ذلك المروي له (نبذل جهدا لنضمن استمراره ، ككثير من النعم التي نتوقف عن الإمتنان لوجودها؛ لأننا اعتدناها ولم نعد نرى). الراوي يضعنا في تصّور مميز لتلك الخصال البشرية السيئة المتمثلة في عدم رد الجميل وعدم الإحسان لمن أحسنوا لنا، يفعل ذلك من خلال سرد تأملي وحيل سردية مميزة. لنتابع المقطع المذكور سابقا:

“… (أ)  في البدء كانت خدماته تقابل بالإمتنان والتقدير وكن – نساء الحي – يحيينه حين يمر بهن ، وأحيانا يرسلن له بعضا من الطعام الذي يطهينه، ويتذكرنه في المناسبات وبخاصة في مساءات رمضان التي تدفيء الروح، (ب) إلا أن كل ذلك تغير بفعل مرور الوقت واعتيادهن على خدماته، (ت) فبعد الشهور الاولى بات وجوده هاما ومن ذاك النوع الذي لا نبذل جهدا لنضمن استمراره ، ككثير من النعم التي نتوقف عن الإمتنان لوجودها ؛ لأننا اعتدناها ولم نعد نرى فيها نعمة تستحق الشكر.”

4. التأمل في طباع الشخصية لخلق سرد أكثر منطقية:

نتابع في المقطع التالي كيف قام الراوي في (أ) بسرد أشياء متواترة تخص لومومبا، ثم قام بعمل سرد تأملي في (ب) تناول فيه طبيعة لومومبا الخاصة، تمهيدا لكي يكون فعله بعدها في (ت) منطقيا وهو يستجيب سلبيا للموقف الذي رأي فيه الفتاة مع صاحبها، وهو بالطبع فعل غير تواتري ولكنه خاص ومتفرد وله تأثير في الأيام القادمة على حياته:

“(أ) ويمضي ليله أمام باب الفيلا برفقة كتاب يزجي به الوقت، ويشغل به عقله وتفكيره كتعويض عن الحياة الاجتماعية التي يفتقدها كثيرا في عزلته تلك، (ب) كان  محمد بطبيعته انعزاليا نوعا ما ، ولكن حياة العامل الغريب ضاعفت انطوائيته وجعلته ريابا كثير الحذر، (ت) لذا حين فوجئ ذات ليلة برؤية أمل  مع حبيبها في الشارع الخلفي ، تظاهر بأنه لم ير شيئا، كان  كمن بوغت”.

في (أ) فعل تواتري يخص لومومبا، ثم في (ب) تأمل في شخصية لومومبا، ثم في (ت) تصرف لومومبا وحدث فردي خاص للفتاة. بنية المقطع السابق تتوازي مع بنية مدخل القصة التي سبق أن تحدثنا عنها في بداية حديثنا عن التأمل في القصة، حيث سرد الراوي تواتر عدم المبالاة في الشارع، ثم أنتقل للتأمل في الشارع وطبيعة المجتمع، ثم تحدث عن فرادة ذلك اليوم بالنسبة لأمل؛ حيث فُضحت أمام الحارس لومومبا هي وصاحبها في سيارته.

5. التأمل لجعل الحدث أكثر حضورا لتفعيل الوضع السردي لأقصى حد:

يقوم الراوي في المقطع التالي بالتأمل في الموقف وأوضاع الشخصيتين الاجتماعية وذلك لخلق تفسير لارتباك لومومبا:

“(أ) الموقف برمته كان مربكا وغير اعتيادي، أن تقف ابنة السيد الغني ذو الوجاهة مع العامل الافريقي وتحادثه وتحضر له قهوة بيديها الللتين ما أعتادتا خدمة أحد…”.

الراوي في (أ) يضعنا وهو يتأمل في (الموقف برمته)، ثم في (ب) نجد النتيجة وهي أن موقف لومومبا المرتبك منطقي جدا.

6. التأمل في الحوار بين الشخصيتين لرسم أفق العلاقة بينهما:

(أ) في البدء كانا يتحدثان على استحياء وباقتضاب، ثم تشعبت الاحاديث وتنوعت فتحدثا عن كل شيء تقريبا، (ب) كانت الأحاديث تولد تلقائيا ودون بذل أي جهد ، يقفزان من موضوع لآخر دون أن يتسبب ذلك في بترها أو تشويهها“.

في (أ) يصور الراوي العلاقة بينهما وكيف كانا يتحاوران، ثم في (ب) يتأمل في طبيعة العلاقة بينهما من خلال تصوره لكيفية ولادة الأحاديث بينهما دون جهد تعبيرا عن حجم التقارب والصداقة.

7. التأمل في وضع الأم وأسباب تحولها من جهة عيدي أمين لعداوته:

يتحدث الراوي عن موقف الأم بعد موت زوجها عن طريق مجند ليبي تابع لعيدي أمين، وكيف قررت (هي التي فارقت الأب سابقاً) أن تنتقم له. لغرض جعل هذا التبدل منطقيا، قام الراوي بالتأمل في عديد الأسباب الممكنة لتحول الأم من أقصى اليمين إلى الشمال لنتابع ذلك في المقطع التالي:

“(أ) آنذاك قررت أمه – والتي كانت حاملا به أخيرا بعد 6 أعوام من الزواج – الثأر لابيه، (ب) ربما إرضاء لروحه التي أوجعتها حين كان على قيد الحياة، وربما لتخرس بذلك صوت ضميرها المعذب، (ت) فانتقلت به بعد أن وضعته وهو بعد رضيع إلى قرية صغيرة في أطراف عنتيب، حيث كانت تستغل عملها ببيع الثمار التي تجنيها من المزارع القريبة للاحتكاك بأفراد الكتيبة الليبية وجمع المعلومات وتسريبها للتنزايين وللمعارضة

في (أ) قرار الأم بالثأر لزوجها، ثم في (ب) الراوي يتأمل في سبب تحولها ذلك ويضع تفسيرين لذلك، ثم في (ت) يسرد ما كانت تقوم به بعد تحولها.

8. التأمل في مشاعر الشخصية (الأم ومواقفها) تفعيلا للدراما السردية

نتابع في المقطع التالي سردا عاديا يكون أحيانا تصويريا يرسم موقف الأم المتناقض من الحرب وما آلت إليه:

(أ) كانت ترى كيف كان الشعب المسعور يفجر غيظه وغضبه في وجه هؤلاء الجنود المذعورين الذين كانوا يسحلون أحيانا وهم أحياء، (ب) كانت تبكي طويلا كل ليلة حتى يطلع الفجر كمن لا سبيل له لتكفير ذنبه إلا بالدموع،(ت) وتتوه نهارا بين فرح خبيث لأنها ثأرت لزوجها وبين تعاطف إنساني وأسف على مصير هؤلاء الذين يدينون بدينها، (ث) كانت تستغفر كثيرا جدا حين تتذكر أنها خانت دينها وتتساءل عن سر تناقضها هذا، هي التي تركت زوجها لأنه يحارب رئيسها ثم شاركت في قتل من يقاتلون لأجل الرئيس ذاته، حتى في النقاشات التي كانت  تخوض بها مع النساء الثرثارات كانت تائهة ، فكانت تارة مع المعارضة التي دعمتها بشدة ، وتارة أخرى تدافع عن أمين ونظامه وعن الفدائيين الفلسطينين ، تسرد الحجج وتدحضها في آن، (ج) في مبارزة أزلية لن يعرفها سوى من علق يوما بين مطرقة العقل وسندان القلب”.

في (أ) يضعنا الراوي فيما تراه الأم من أحداث بعد نصر المسيحين مدعومين بالتنزانيين على قوات عيدي أمين والشباب الليبيين معه. الراوي يصور ما تفعله من بكاء يومي بشكل متواتر، ضمن سرد تواتري طالما وجدناه مندمجا مع السرد التأملي في هذه القصة، ثم في (ب) يتأمل الراوي التناقض العميق في وعي الشخصية وافكارها، ثم في (ث) يعبر عن ذلك التناقض في صورة أشياء مسرودة مختلفة منها الاستغفار والشعور بالذنب وكذلك الشعور بالرضا لانتقامها من عدوها قاتل زوجها، ثم نجد في (ج) البنية الحقيقية التي تلخص حالها ذلك في تأمل عميق في شخصيتها وما يخصها من خلال الحديث عن سندان العقل ومطرقة العاطفة.

9. التأمل في تبدلات الحياة والبشر:

يبدأ الراوي بسرد التحول الحاصل في حياة أم لومومبا (أيشا) التي كرمت كزوجة مناضل، ثم في (ب) يتأمل الراوي في تبدلات الحياة والبشر ليكون ما حدث في (ت) منطقيا:

“…(أ) وتولت المعارضة الحكم فرجعت للعاصمة حيث تم تكريمها كزوجة مناضل ومناضلة وخصص لها راتب ضئيل لتعتاش منه، (ب) ولكن الحياة كشأنها بعد كل الأزمات لا تعود تشبه نفسها في شيء؛ لأن تبدل الاوضاع السياسية يحدث تبدلا رهيبا في كل شيء، حيث تتنكر كل الأشياء آنئذ لذواتها القديمة، (ت) فوجدت آيشا نفسها دون أهل ولا سند، تربي طفلا صغيرا لوحدها في بلد غير مستقر، وبعد ثلاثة أعوام عجاف قررت أن ترجع لأسرتها التي تبرأت منها.

كما تابعنا التأمل في الجزء (ب) من المقطع السابق؛ حيث يحدثنا الراوي عن طبيعة التحولات بعد الأحداث والتغيرات  السياسية، ويحدثنا عن التنكر الذي هو طبيعي بعد كل ثورة، لنجد وضع أيشا الجديد البائس في (ت).

10. التأمل في شخصية الحاقد لجعل فعله  منطقيا:

ضمن قصة العراك الذي حصل بين لومومبا والشاب أبن الضابط القتيل في أوغندا، الراوي هنا على لسان لومومبا يرسم شخصية الحاقد متأملا في صورته:

“(أ) رأيت في عينيه كرها لم يسبق لي أن رأيته في عيني انسان، كره جعل عينينه وحشيتين ومرعبتين كعيني شيطان، (ب) كنت مذهولا لدرجة أنني لم أحاول حتى أن أحمي وجهي”.

في (أ) يتأمل الراوي في على لسان الشخصية لومومبا في صورة الفتى (الحاقد)، ثم في (ب) يرسم لنا شعوره بالذهول وهو شعور منطقي لطبيعة صورة المجرم التي رسمت في (أ).

الخلاصة

لهذه القصة عديد الجوانب الفنية، يظهر ذلك من خلال تمثل الراوي للتاريخ الأوغندي والأحداث الحاصلة هناك، كما نجد المزيد من حضور البعد الثقافي من خلال رصده للأوضاع الدينية والثقافية والقبلية للمكان هناك. كما تابعنا كون بناء الشخصية كان معتدلا والراوي قادر على رسم الشخصيات بعديد الطرق والأساليب، كما كان قادرا على بناء قصة فيها تضادات مميزة منها قتل ليبي لوالد لومومبا، ثم محاولة ليبي في طرابلس الانتقام من قتل والده هناك؛ بمحاولة قتل لومومبا. قصة مميزة وأحداث تدل على ثقافة كبيرة عند الراوي والقاص خلفه.

تميزت القصة كما يمكن أن نتابع من خلال الجدول في الجزء الأول الخاص ببناء الحكاية ببنية حكاية ذات عناصر متكررة عبر الزمن، وكأنما هو دين يتم رده، أو حدث يعاود الظهر، ولكن من خلال شخصيات أخرى، كما تابعنا في ذلك الجزء الأول طبيعة بناء الشخصيات المميزة، وأسلوب الراوي في المناورة حولها هنا وهناك لتقدميها مختلفة وفاعلة في القصة.

من زاوية أخرى فإن القصة تميزت بفعل ذلك الراوي الخاص، الذي كان راويا عاما في البداية ثم تحول لينطق بلسان لومومبا بعد أن صار مؤهلا وحاضرا في ذهن المروي له وهي الفتاة أمل.

تميزت القصة بتداخل الأنواع، حيث قام الراوي بالمزج بين السرد العادي بالتاريخي وكان لحضور البعد التأملي في السرد دورا مميزا في جعل كل ما تمّ سرده وتصوره وفعله من الشخصيات وتحولاتها منطقيا ومقبولا.

مقالات ذات علاقة

اتجاهات في الأدب الليبي الحديث

المشرف العام

قصيدة النثر في ليبيا*

رامز رمضان النويصري

ليبيا واسعة – 15 (ترفاس)

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق