انتظرتها طويلا ولم تأت، رغم أنها وعدت بالحضور. ككل مرة أقف في المرسى حائرا، أفتش وجوه القادمين والراحلين باحثا عن وجهها لعلي أجده، عبثا لا يظهر لي سوى في الحلم.
كم مرة تعدني وتخلف المواعيد؟ إن عددتها لن أحصيها.
منذ كنت في العاشرة من عمري أقف وقفتي هذه منتظرا حتى المغيب، أعود محملا بالخيبة ودموعي سيالة كالغيث.
يوم تركتني أمي في المرسى وغادرت على متن سفينة، رحلت تبحث عن علاج لمرض تكابده، يوم لا يمحى من ذاكرتي. أمي لا تبرح أحلامي وشوق لا يبرد للقائك.
أخبرني جدي أنها ستعود قريبا، هكذا وعدت في رسائلها له.
يومنا الموعود في اللقاء كان عاصفا.
غيبك عباب الموج و مازلت أحلم بلقياك، أن تلامس أصابعي جسدك، وتتشرب خلاياه العطشى حنينك.
اصطحبني جدي ذلك اليوم الشتوي إلى المرسى لاستقبالها. آه كم كنت فرحا بخبر عودتها، أتذكر قفزي وغنائي تحت المطر والريح العاصف، لم أبالي بالأمواج العالية والضباب الحاجب للرؤية.
من فرحتي لم أدرك قلق جدي وتراص الناس في المرفأ وتقدم فرق الإنقاذ نحو البحر، لهج الألسنة بالدعاء لا ينتهي في نجاة السفينة من الغرق. مرت علينا ساعات طويلة ونحن ننتظر هدوء العاصفة ونتائج فرق الإنقاذ التي أبلغتنا أن السفينة لا أمل في نجاتها.
كان جدي ينظر إلى وجهي الصغير السعيد ودموعه تنهمر، يقول لي: هيا نعد إلى المنزل، لن تأت السفينة اليوم، غدا نعود.
صدقت جدي وكذبت عباب البحر. آه من تلك اللحظة التي ودعتك فيها.
*
اعتاد البحارة رؤيته في المرسى يحدث نفسه أو ينظر لساعات في صورة امرأة يمسكها ويحضنها أو ينزل البحر وهو يصرخ في الصخور مناديا، أو سائلا الأسماك في شباك الصيد أيها تغذت بلحم إمه؟
في ذلك الصباح الباكر فوجئ البحارة بجثته ملقاة على الشاطئ محتضنا صورة أمه التي وعدت بالحضور و لم تأت فراحت روحه إليها. وليشهد المرسى رحيله أيضا…