تستيقظ طرابلس مِن أحلامها هلِعةً على حشود عسكرية ضخمة تمخر الشوارع وتحتل الساحات تعلن عن انتصار قوات الحلفاء في حرب عالمية مزّق رصاصها الأكباد والأفئدة، فيتأهب مونتغيمري لاستلام المدينة في مراسم رسمية من الطبيب الحاكم “ألبرتو دينتي دي بيرا إينو” الذي لم يمهله الزمن لسوء حظه للبقاء في منصبه الجديد، وعلى خلاف القالب النمطي الذي يتسم به الرحالة والمغامرون عادةً في مناسبات اكتشافهم لمجتمعات الشرق العربي، لا يُظهر هذا الطبيب أي انبهار وشغف واضحين بالشرق وخصوصيته بل إنه لاينفك أحيانًا عن تبيان جلافته كمستعمر رغم تعامله الدمث مع مرضاه.
السرد الحكائي الذي ارتقى للنص الروائي يشرع في رسم ظلال سرّه من قرية بويرات الحسون مرورًا بمصراتة ونالوت ووصولاً لغدامس، ظواهر ثرية يرصدها الطبيب الإيطالي “ألبرتو دينتي دي بيرا إينو” في ترياق للثعابين، كانت سائدة في مجتمعنا المحلي في ليبيا مثل النظرة المشوبة بالشفقة تجاه شريحة البغايا هذا يُذكّرنا بتوصيف بيوت البغاء التي كانت منتشرة قبل زمن ببيوت (البناويت) من باب اللياقة والتهذيب، وفي المقابل يسترعي انتباهنا عنوان الكتاب الذي قد يحمل في طياته ما يسيء ربما للعوام في ليبيا حين يصنّف المؤلف من يرتادون مستوصفه في خانة الأفاعي أو الثعابين هنا نتوقف في السياق ونلمس بوضوح لا لبس فيه الفاشية الموتورة لهذا الطبيب ولا ندري كيف مرّ هذا التأويل المُسيء على المترجم فالسيد “جمعة بوكليب” على تثميننا لجهده المحمود في نقل هذا العمل المهم للعربية بيد أننا نأخذ عليه عدم الانتباه لهذه النقطة الخطيرة وهو في هذا الصدد نوه من خلال مقدمته بأنه استعاض بـ (للثعابين) عوضًا عن (للأفاعي) عنوان النسخة المُترجم عنها ونحن إزاء ذلك نعتقد أن الاساءة تنطوي على كلا المعنيين وأظهر المترجم أن تغييره جاء لدواعي بلاغية وجمالية لا أكثر وحسن النوايا هنا لا يكفي لتبرير الغرض. !
وعودًا على ذي بدء يقودنا السياق الاجتماعي بتؤدة نحو مطامح الأمهات الساذجات لاسيما في نجوع البدو التي عمل فيها الطبيب بشأن أبنائهم وربطهن فحولة أبنائهم الأولاد بقدرتهم على ممارسة سلوك الحرابة وقطع الطريق والاغارة على الآخرين وفرض وجباية الأتاوات والجزية، إذ يروي الطبيب أن امرأة ما بان لها في جسد طفلها ما أوحى لها بمستقبله الفتيّ فخرجت من خيمتها لا تلوي اعتبارًا لحالة الطقس السيئة التي سادت المضارب وقتذاك تزغرد وتهلل وسط تموجات الرمال الهائجة وولدها في غمرها توصيه بالغرباء مكرًا وجلافة، ناهيك عن تفشي ممارسة السحر والشعوذة والأساليب الفجة التي يستخدمونها نحو من يترددون عليهم طلبًا للاستشفاء ودفعًا للبلايا فهؤلاء السحرة يحاولون تسخير الضفادع والعقارب في مداواة مرضاهم ما يجعلك في فيلم رعب لا تكاد تصدق فيه أن هذا ما كان يحدث فعلاً في مجتمعنا وربما مايزال وإن بأشكال جديدة، قد لا يبدو الأمر غريبًا إنما الغريب حقًا هوأن تكون هذه المسالك مدعاة للاعتداد والفخر.
وما حاول الكاتب رصده أحيانًا يبعث على الريبة والاستهجان ! وكأن لسان حال الطبيب يقول بأن الناس ترتاب من أهل الطب والطبابة إلا عند مستوصفه يقفون مُبجّلين لأدواته ومهارته كطبيب أوروبي يدرء عنهم المكاره والآفات مع غرابة اغفال أو جهالة الطبيب ربما للجوء شريحة كبيرة من أبناء المجتمع في المقابل للطب البديل والتداوي بالأعشاب وما نحوها !!
على أية حال مسألة أن تُعزى كل نائبة تعترض أحدهم يتعاطى معها الوعي الجمعي باعتبارها أرواح شريرة وشياطين فكّت أصفادها، سنحاول فهمها وفق الظرف التاريخي لمسار أحداث ذاك الزمن، ونلحظ بأن الطبيب قد أستغل مهنته بحال ما ووظّف واقع الحفاوة التي حظي بها من قبل المجتمع كطبيب معالج لخدمة المشروع الاستعماري للحكومة الايطالية في ليبيا ومارس دورًا مشبوهًا في بعض الأحيان، لكن نجد بأننا قد حظينا بشيء من الاحاطة بمعرفة صور بانورامية متفاوتة للأوضاع المجتمعية في ليبيا ثلاثينات القرن المنصرم بعين موضوعية فاحصة حتى وإن جاءت بصورة قاسية نوعًا ما ،فعلى سبيل المثال نلج مع الطبيب الذي تغويه نزعة المغامرة فيمتطي الجِمال ويشق تيه الفيافي لنتعرف معه على الخصوصية الثقافية والتاريخية لشعب الطوارق في واحة غدامس الغنّاء خصوصًا فيما يتصل بحال النساء اللاتي بمجرد أن يبلغن الحُلم حتى تسمو منزلتهن بين بني قومهم ليصرن يتمتعن بامتيازات متعددة كاختيار الشريك أو الزوج أو تعدد العشاق وتكون لهن حرية جنسية مفتوحة وما شابه ولدى هذه الجزئية ما يفتح شهية التساؤل عن واقع الحقيقة في هذه الطقوس والعادات فمن كلام الطبيب نلمس انطباعًا ينزع الطوارق كمكّون تاريخي لليبيا من عقيدتهم الدينية وموروثهم الشرقي …!! وهذا يُحيلنا أيضًا للتشهير الذي طال أحد القبائل في منطقة مزدة والتي يروي الطبيب أنها والت الإيطاليبن دون اكراه حتى بعدما هُزم الفاشيون في الحرب حرصت على مبايعتهم !!
وبغض النظر عن أية تحفظات جانبية، يظهر الكتاب في مجمله بطابع جيّد وبترجمة رصينة أحلّت المتعة في نفوسنا اضطلع بها الكاتب “جمعة بوكليب” ولاريب في أهميته المتمثلة في الاضاءة على مذكرات مَن استوطنوا أرضنًا يومًا ولعله من المفيد جدًا رؤيتنا من خلال عين الآخر فلربما ساهمت هذه الرؤية في تخلصنا من عُقدة الخواجة والجنوح المزمن للتحديق في مرايانا المحطّمة .