طيوب المراجعات

قراءات في الأدب الليبي: رواية (قصيل) لعائشة إبراهيم.

سالم الحريك

غلاف رواية قصيل
غلاف رواية قصيل

يخلد المكان، والزمان، والتراث، وتحفظ ذاكرته وتفاصيله المختلفة، بمختلف أنواع الأدب، والفنون، ولعلى السرد القصصي، أو الروائي، كذلك من بين عناصر حفظ كل هذا، فالروايات ليست لمجرد القراءة، والتسلية، ومتابعة أحداث متسلسلة فقط، وإنما هي وسيلة كذلك لغرس معاني نبيلة وتأريخ للشخوص، والأحداث، وحفظ لذاكرة الزمان، والمكان، في سرد كتابي عام يحظى بعدد كبير من المهتمين الذين ربما لا يطيقون قراءة التاريخ من مصادر تاريخية بحثه أو غيرها.

ألم تكن روايات نجيب محفوظ مفخرة لمصر، والشرق الأوسط؟

ألم تكن 100 عام من العزلة، مفخرة للأدب اللاتيني؟

ألم تكن البؤساء، مفخرة للأدب الفرنسي، وأقوى الأعمال التي نقلت للعالم الثورة الفرنسية، في قالب أدبي فريد؟

والقائمة تطول ربما من أعمال روائية كانت هي المعلم وهي الواجهة، التي تطل من خلالها الأوطان بتفاصيلها المختلفة.

تحمل رواية قصيل للكاتبة “عائشة إبراهيم” في جعبتها ذاكرة للمكان، والزمان، ووصفا عاماً ووصفا لعادات وطقوس اجتماعية ليبية ليست فقط في بني وليد، ولكنها عامة ومتطابقة مع كثير من القرى، والمدن، والقبائل الليبية.

فنجد في قصيل، ذكرا لبني وليد، وأوديتها، وبيوت الطين وأشجارها، وأحجارها، وأزقتها القديمة.

ونجد فيها ذكرا لفزان، و الزيغن، ونجد فيها ذكرا لمسوجي، وقرزة، وفوار زمزم، وسوف الجين، والحطمانية، و نجد فيها بطاقة تعريفية، لبعض الأمكنة، والمسميات، لمناطق ليبيا، في سرد روائي يزيل اللثام عن شخوص، وأحداث وأمكنة، مختلفة.

نجد في قصيل ايضا ذكرا للرتم، وللزميتة، والشاهي، والرغوة التي تعلوه، والتي أبدعت الكاتبة في وصفها قائلة في هذا الاقتباس:

(علينا أنا ورضوان، أن نقوم بتلك العملية المرهقة لخفق رغوة الشاي، حيث نستخدم كوبين كبيرين نفرغ أحدهما من الشاي المعقود في الآخر بطريقة تبادلية عشرات المرات، وبحركة إنسيابية حذرة، فينسكب الشاي في شكل شلال عمودي، تنبثق عنه رغوة كثيفة، نكشطها ونوزعها على هيئة قبعات بيضاء تعتلي السائل البني، في الكؤوس الصغيرة، يرتشفها الكبار بصوت مسموع، وهم يتبادلون الحديث بين الرشفات).

يتضح من هذا الاقتباس قوة بلاغية، ووصفا دقيقاً تصف به الكاتبة طقسا اجتماعياً، يعرفه كل الليبيين، ويعرفه الكثيرين ممن طبعت في ذاكرتهم هذه الطقوس، واللحظات التي لا زالت مستمرة في كثير من مدن، وقبائل ليبيا الحبيبة، حتى يومنا هذا ولم تغادر هذه الطقوس لا أفراحنا، ولا أتراحنا بعد ولكنها بقيت ثابتة، وصامدة رغم رياح التغيير التي تجتاح كل شيء بغض النظر أحببنا أم كرهنا هذه الطقوس والعادات الاجتماعية.

تصف كذلك “عائشة إبراهيم” في روايتها حالة سياسية، واقتصادية، واجتماعية، سائدة في ذلك الوقت، عبرت الكاتبة من خلالها عن رؤيتها، ونظرتها، لمختلف تلك الأحداث، في سرد روائي بليغ، بغض النظر نتفق أو نختلف مع ما تعبر عنه الكاتبة في سردها هذا وماهي نسبة نجاحها في تشخيص داء هذا الوطن ومعرفة معالم تأخره من عدمها.

تناولت الكاتبة أيضًا في روايتها (قصيل) الحالة الدينية، والطقوس الدينية السائدة، والمتمثلة في الطرق الصوفية المختلفة، وكذلك بعض الخرافات التي يعتقدها أهل ذلك الزمان، والمكان، أو المشاكل الاجتماعية، المختلفة وقلة الوعي الاجتماعي، اللامبالي، والذي يتسبب ربما في أن تفقد المدينة معالمها الضاربة أطنابها في جذور التاريخ، من أناس يستغلون قلة وعي العامة فيرتكبون جرما بحق الماضي الأصيل.

فيما تزف الكاتبة لنا في روايتها هذه مجموعة من الكلمات، والمصطلحات، الذائعة الصيت في المجتمع الليبي البدوي على رأسها (السبول أو السنبلة) وهي الاسم الذي جعلته الكاتبة إطلالة لروايتها بتعبير (قصيل).

قد يستعصي فهم هذه الرواية لمن لم يستنشق غبار تلك اللحظات، ويعيش تفاصيلها المختلفة، أو من لم يسمع عنها من أسلافه الأولين، فالرواية تمتاز حقاً بلغة عربية قوية، ولكنها أيضاً في نفس الوقت تحمل معاني ليبية، وشعبية، أصيلة، لا يعرف كنهها إلا المتجذرين، في هذه المعاني وتفاصيلها، خصوصاً أن الكاتبة عائشة إبراهيم، جعلت هذه المعاني، والمصطلحات، كرؤوس أقلام تطل منها بين الفترة والأخرى، لاستكمال عجلة الأحداث في روايتها الممتدة على طول 80 صفحة، جمعت خلالها كل ما هو دائر في شخوص، وأحداث، وتفاصيل ذلك الزمان، والمكان.

مقالات ذات علاقة

الإبداع الأردني بعيون ليبية

المشرف العام

التهامي يرصد أسرار صنعة الدراما في «سيجارة ميريل ستريب»

إبتسام إغفير

زيت القناديل رشاد الهوني

إنتصار بوراوي

اترك تعليق