مثلما تتزامن، في اجتماعنا الإنساني، وتتداخل الوقائع، مثلما تختلط في الروح المشاعر تختلط الأحوال وتتعدد.. هكذا تتنوع أساليب الكتابة الأدبية عن تجربة الحياة، التي نعيشها، ونخوض غمارها، بغرض رصدها وتوثيقها وللكشف عن جوهرها العميق من أجل استخلاص المعنى والدلالة.
ويصطفي الكاتب أسلوبه، الذي يعتمد الصيغ الجمالية والفنية، وفقا لطبيعة الموضوع الذي يشغله ويدفعه إلى قول ما يريد من أفكار وما يعبر عنه من عواطف، محمولا على الصدق والتوازن ليتحقق التفاعل مع جمال النص بالمتعة والفائدة.
وكتابنا اليوم رواية تتعرض لواقعة مفصلية في تاريخ الوطن وحياة البطل الفرد، عبر سرد نثري تتقاطع حكاياته الواقعية متسلسلة، تقصر أو تطول، يعتمد الرصد والوصف والتعليق، لعدد من شخصيات تتواجد في مكان محاصر، تحبطها المخاوف وتحييها الأمال، تعاني ضعفها وتعتز بقوتها، التي راكمتها أثناء تخلقها، وبما تصنعه وبما تنشده من أهداف تحققها في زمن طليق. تتداخل علاقاتها، مستندة على ما تشكل فيها من التكوين الذاتي والثقافي، فتختلف أو تتفق من أجل أن تواجه التأزم سعيا لتتمكن من تجاوز المحن.
وما أشد المحن التي يتعرض لها السجين السياسي، حيث تقيد حريته وراء القضبان، فيعزل جسدا في المكان وروحا في الأحلام والأوهام ويحرم من الفعل في الحياة التي يتخلق فيها ليكون أفضل وليعيد خلقها لتكون أجمل.. وهي ( كثيرة وأكبر من أن تحصى تلك الأسماء التي حفظها سجل التاريخ الذي لا يرحم ظالما طغى واستكبر)، و(لا يحتقر ضعيفا مهما صغر من الذين امتحنوا في لقمة العيش ونسمة الحرية ورددت مواقفهم قصائد الشعراء، وجسدتها تماثيل الفنانين ولوحات الرسامين وألحان المطربين ص 199).
لكن(السؤال الذي يثب الآن بقوة، وما من سبيل للانفكاك من هيمنته) على السجين، (هو مدى تخلي هؤلاء عن أشواقهم وساعات ضيقهم إزاء لحظات الألم الناتج من محنة السجن وهو يئد بأسواره العالية كل من وقع داخل أصفاده، فالحديث عن الصمود وقوة الاحتمال هو ما يصل عادة لكل من تنقل إليه التجربة، أما حقيقة الواقع، فهو ما نعيشه الآن، وربما لا نبوح به بعد ذلك أبدا. فكان الشاعر الشعبي صادقا في تعبيره بليغا في لغته عندما قال ذات يوم: ” ياقلب شن يبريك من لوجاعي عيطة طويلة في الخلاء فزاعي ” ص200).
وصاحبنا ـ الكاتب ـ بطل الرواية قد ترسخ اسمه في مجال الكتابة ( التي يرى طريقها حقا أوفر للبقاء في تجربة الحياة العملية والإبداعية ص 86)، منحازا إلى قيم العدالة والتقدم التي تمثلها قوى اليسار، محمولا على تيار وعي واقعي تقدمي بالحالة التي يعيشها الوطن، الخارج من ولادته المتعسرة من الفقر والجهل والمرض، والمتمزقة ولاء بين القبيلة والجهوية، إلى مرحلة بناء الدولة الوطنية، على أسس وحدة تتعلم فيها قواه درس القبول بالاختلاف، حاسما خياراته السياسية بتوكيد انتمائه بأنه ( لا يمكن أن يكون المنطلق الحقيقي للمثقف مفيدا وذا جدوى ما لم يكن البدء الأول هو الوطن ص 67).
ولذا فالشخصية المحورية، والتي تتجلى عبر راوي مفرد غالبا، قد تصبح جمعا: رفاق السجن أو الكلمة أو الرؤى والخيارات الفكرية السياسية، تواجه تحديا يعترض فرص مساهماتها، فتجاهد في ألا تستسلم للقيد، ولكنها تعاني في محاولات انعتاقها، من فترات عسر تفكك عصبتها، وتدفعها قسرا الى وحدة المفرد، فتحاصرها لحظات القلق ومشاعر الحيرة والألم في الوطن الذي يتسع في الزمن، بدءا من مراحل التكوين للذات والكيان حتى أفق المستقبل، والذي لايني يضيق في المكان ليصبح حالة سجنية مغلقة من أول الاعتقال حتى مفتتح الافراج.
وإذا كانت (مسارب) طريق البطل الفردي قد تعددت مع خطى مسيرته، مثلما يتعدد ويتنوع الحراك العام لنخبه وطلائعه، فإن الهدف هو الوصول بالكيان إلى (مولد) يحقق، بعد تراكم الخبرة ونضوج الوعي، نقلة نوعية في تاريخه تقود إلى حالة أكثر اكتمالا، ولكن سلطة العسكر التي استولت على الدولة صارت متغيرا جديدا مستقلا يئد الرحلة بمأزق يسد الطريق، أمام كل مجامع القوى الوطنية السياسية، بهدف إقصائها وإبعادها، بل ويدمغها بأوصاف مشينة لقطع روابطها مع المحيط ـ الأهل والمجتمع، من أجل أن تؤمم كل الرؤى وتهيمن على كل مفاصل الدولة والمجتمع وبدون شركاء.
فأي مولد هذا؟!! (والذي فجأة أعلن عن الاحتفال به ـ، بطريقة غير مسبوقة)، (وبات واضحا عقب ذلك المساء الذي جرى فيه الاحتفال الذي نودي له في جميع الأوساط أن ما سيحدث يتصل بالبنى مجتمعة، سياسة اقتصاد إدارة، وعلى نحو حاسم وجرئ ومخالف للمألوف بالكامل ص 15)..
هل هو المولد النبوى الذي يحتفى به في البلد، باعتباره يمثل طقسا من عنصر رئيسي في الثقافة السائدة، عبر شعائر متعددة تبجيلا وتقديسا دينيا وفرحا اجتماعيا، يشد لحمة أبنائه ويعزز المشترك، و(حيث من المعتاد أن يكون مناسبة ليعيش المرء لحظات من التذكر غير العادي، ولإيقاظ مشاعر تكون إلى حين خافتة نسبيا ص 15)، ولكن خطاب السلطة أثبت أنه (لم يتجاوز استثمار المناسبة لإثارة قضايا تشير إلى أن البلد في مجمله قد غدا على أعتاب مرحلة جديدة يوشك المجتمع ان يعيشها بضراوة ص 16).
فهل هو مولد لتحول اجتماعي سياسي تقوده سلطة عسكرية ديكتاتورية الفعل والحراك؟، تتكئ على الموروث، لبسط ظلها على البلاد والعباد، وعبر حالة من طقس فوضي يفجر في الحشود النزعات الدفينة للصخب والعنف، ويثير بوهم التغيير ما يحجب الرؤية، حتى تظل العقول عن حقيقة المستهدف من أهدافها الحقيقية؟.
أم هو مولد للقوى الوطنية في لحظة الصراع، للمراجعة والنقد لتجربتها، وحتى لا تغيب وتحرم من حقها في المشاركة عبر تطوير رؤاها وأساليبها وتنظيم بنيانها؟ والتدبر للبحث عن مسارب للخلاص، أمام مأزق الطريق المسدود، الذي لا يفتح بابا إلا إلى المنفى المكاني والزماني، وخاصة أن ما أعلن (ينذر بإجراءات محددة استهدفت من لهم علاقة بالشأن السياسي العام، وصفوا بالمرضى والمعوقين والرجعيين والمندسين والحزبيين أيضا، وبدون حاجة لمراعاة أي نص من النصوص القانونية التي تم تعطيلها؟ ص 16).
أم أن المولد الحقيقي، وهو المستقبل الواعد، سيكون هو ميلاد الطفل الذي تنتظره العائلة، وكل طفل ينتظره الوطن، حاملا الأمل، بما يعني استمرار الحياة الطبيعية وبما يوحي بأن الزمن لن يتوقف عند هذه اللحظة الموحشة؟.
كل هذا يوثقه التسجيل التاريخي للتجربة، وتضيف الكتابة الأدبية رواية أبعاد أعمق حين يدفع الحدث الشخصية إلى الكشف والبوح بما تعانيه من القلق والمخاوف حيث (أن الأوصاف لمن اتهموا بعرقلة برامج السلطة وطموحاتها الكبيرة لم تحدد لها المعايير المحددة ومما يعني أن التصرف سيقوم على أساس الاجتهاد الذي يفتح طريقا للتجاوز ص 16و17)، وبالتالي فإن (الأمر لا يحتاج إلى كبير جهد، ومن تمكن من الإفلات من إحداها مرة فلا يستطيع النجاة من التي تتلوها مرة أخرى ص 16و17).
فمن أين تأتي المخاوف؟ و الكاتب ـ بطلنا له رؤياه واختياره لكنه لم يكن منتميا يوما لحزب، وبالتالي فأن (الحزبية تهمة رغم قسوة عقوبتها فإنها ليست مخيفة وفقا لضرورات إثباتها بالدلائل الملموسة من القرائن والمستمسكات، ولكن الاشكالية تكمن فيما عداها فقد كان الاتهام من التعميم والاطلاقية التي تؤكدها لهجة الخطاب الإعلامي ما قد ينطبق على الجميع مادام من يحدد الصفة بشر يتأثر بما يسمع وبما يشعر وبما يستخرج وكل ما يقبل التأويل وسوء الاستعمال ص17و18).
هكذا (كان كل شئ يؤكد أن موعد التصفية قد حان مما جعل الوجوم والترقب وانتظار المجهول هو طابع الحياة العامة، بل شكل لونها وإيقاعها، الأمر الذي دفع بأحاسيس الذين يعيشون ويتنفسون معا ذلك المناخ المريب، إلى ممارسة سلسلة من الاجراءات غير العادية، ولم يعد من الاحاديث بينهم سوى ما بات منتظرا ص 18).
ولطبيعة الموضوع ـ القضية يتذبذب النص ويتداخل تصنيفا فيما يمكن توصيفه بـ “الرواية التسجيلية”، التي قد تبدو اصطلاحا يوحي بالتناقض، رغم محاولة الكاتب الموائمة بين التأريخي والروائي، اللذان قد يتداخلان أحيانا ويتصارعان أحيانا أخرى إلى درجة الضدية والتنافر، حيث أن عنصر التسجيل والتوثيق بالسرد التقريري للحدث الرئيس العام وروافده من الاتهام ثم الحصار ثم الاعتقال إلى السجن هو القاعدة الذي يبنى عليها النص، ويتم ذلك واقعيا موضوعيا وبتحديد الأمكنة وأزمنتها، لكنه لا يزلزل البعد الخاص لرؤية وتعايش الفرد مع الحدث، متقلبا بمشاعره الوجدانية الجوانية، مكتويا بنار التجربة، عبر مساءلة معاناته والغور في جروحها العميقة، وبما لا يمكن للنص أن ينهض كمبنى ويتكامل فنيا ويحمل المعنى إلا به. وبذلك، وكما يشير “عبد الحميد التدلاوي”، في محاولة تعريفه للرواية التسجيلية، بأن النص قد يكون بنية معرفية عقلية، إلا أنه يؤطر جماليا ضمن بنية روائية أشمل.
إن الرواية في مجملها تجربة تعايش وتجربة تعبير للكاتب البطل فيها يبني عقدتها وحبكتها وشخصياتها الثانوية المتعددة من السجناء والسجانين وبحضور طاغ لظل خصمها الرئيس وهو السلطة الغاشمة، وللمجتمع وعاداته وتقاليده وتابواته في الذاكرة وفي تفاصيل العلاقات بين السجناء في عنابر السجن وفي حجرات الزيارة مع العائلة، وحيث يتعامل مع المتغير التاريخي السياسي بمستواه العام كفضاء زمني، بموضوع رئيس وهو محنة السجن، المكان المحاصر بالأحداث والوقائع المتصاعدة والتعليق عليها وتبيان وجهات النظر المختلفة حولها، وذلك مما يضفي على الرواية الحيوية ومن أجل استيعاب كل الحراك وعيا بالتحليل والنقد في اطار حركة التاريخ والمجتمع، وأيضا بالمقابل يصوغ باللغة الواثقة الواضحة الحالة الشعورية الوجدانية للسجين، بما تتضمنه من معاناة ذاتية، كمادة أساسية للتعايش والتفاعل مع الحدث وبما يعتمل في النفس من مشاعر تتقلب بين اليأس والرجاء، وبما تمكن القارئ من الوصول إلى الرؤية والدلالة.
(وبين المضي في تصريف شؤون الواجب الوظيفي وبين الاعتقال، الذي بدأت حملته منذ أيام، وشمل معظم الأسماء المعروفة من الموسومين بهذه السمة السياسية أو تلك، وبعض هؤلاء من أخلص الأصدقاء وأكثرهم التصاقا، مما صار يؤكد أن لا مجال للإفلات ولا مهرب من اللحاق بمن سبق ص18و19)، لذا تصبح الذات أوتارا مشدودا من المشاعر بين (جحيم الانتظار القاتل والمرجح وبين الطمع في النجاة التي قد يفرضها الحظ أو اعتبارات أخرى، وبين شبح الخضوع لنظرات كالسياط من الناس والأقارب تحمل علامات الاستفهام التي ستنتج عن أي استثناء ص 19)، وبين حفظ النفس فلاشيء أعز من النفس وياروحي ما دونك روح ص 19)، هكذا تعاني الذات تقلبها (حتى أن شمس الضحى تغيب من العين رغم أنها كانت ساطعة ص19).
وفي النظر قارئا للتاريخ باحثا عن خيارات للفعل المقاوم يجد أنه (ليس ثمة من خيار متاح سوى ما تقدمه خبرة التجربة الإنسانية، في هكذا حالات، وهو الاختفاء والذي لا يعني الجبن ص34) بل هو أمر مشروع وطبيعي، ولكن كيف يمكن له هذا؟ هل يتيح الواقع الموضوعي وشروطه وظروفه هذه الفرصة، (والندرة السكانية والمساحات الشاسعة في البلد تبعث بكل القوة على اليأس الشديد ويستحيل معها أي تحرك مدني، وهي ما ثبط العزائم منذ السنوات الأولى للوعي الطلائعي الذي يقوم على استثمار القاعدة الجماهيرية، ومع النفط ازدادت الأمور سوءا بالنسبة للقوى السياسية التي صفى البعض من تلقاء أنفسهم. كم هو سيء وباعث على الحسرة هذا الخلو المخجل من أي تجربة نضالية يمكن استثمارها للإبقاء على جذوة الحماس وبقية الأمل في هذه النفوس شبه الميتة والمستعدة للقبول بكل خيار غير جيد وقول غير صادق ص 35).
ويخلص السياسي بعد النظر الى ماراكمته التجربة السياسية الليبية إلى ( إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة هذا صحيح. ولكنها لا تمطر المواقف التي نحب، ولاتقدم التجارب الجاهزة، حتى ليمكن أخذها بيسر، فالممارسة اليومية والمحاولات الجسورة وحدها التي تضع البداية الأولى التي يمكن أن تتطور مع الزمن ص 35). وبالتالي تكون الموعظة إلى الأجيال القادمة ( مادام السابقون لم يفعلوا شيئا فالأولى باللاحقين الآن أن يفعلوا ذلك الشئ، فإن لم يفعلوا فلا أمل في الثبات ورباطة الجأش ص 35).
ولكن (ما أبعد المسافة بين الواقع والكلام! ما أكبر التناقض بين الذات الراغبة في الافلات من أي تجربة شخصية صعبة، وذلك الكلام الذي كثيرا ما لهجت به الألسن وكتبت في أحيان كثيرة الأقلام، ولاسيما حين يكون القول جميلا يجسد البطولة… كاد يبصق على كل شئ يلعن البشرية منذ آدم الأول لولا أن هتف به من الأعماق هاتف: من قال إن أعظم الناس لم تمر بهم مثل هذه المشاعر، من قال إنهم لم يكونوا راغبين في السلامة، أليست الرغبة في السلام جبلة في النفس البشرية منذ الأزل وإن الرغبة لا تتناقض مع القدرة على مواجهة الحدث الجلل والخطب العظيم؟ ص 36)
وعليه عندما يحاصر البطل ـ المتهم بالمكان وعلاقاته، المقهى برواده، والمصلحة بموظفيها، والبيت بالعائلة، وشبح السجن بأسلاكه الشائكة، والأصدقاء الذين اعتقلوا بالخجل من الخيار الفردي، يقرر أن يبقي كل شيء إلى الزمن المناسب، بما يعني الإقرار، في اللحظة، بالضعف التاريخي للنخب المثقفة السياسية أمام النخب العسكرية المسلحة، فالمناسب الآن زمن يبدأ بالاعتقال ثم بالسجن (الذي يتسع له وللجميع أو يضيق بهم سيان)، ولكن ومنذ البداية تسعى الذات إلى التماسك بموروثها الاجتماعي، وبتصميم الوعي العقلاني المكتسب من ثقافة التكوين، على أن لا منقذ إلا التوازن بـ (الحذر من المحاصرة الداخلية مع المتساكنين في المكان، وعدم السماح لأي خلاف في اليومي أو بقية القضايا، والأهم تفادي الاقتراب من الثوابت وفي مقدمتها المقدسات. وقد أدت هذه الوضعية إلى وجود مناخ إنساني غاية في الجمال والطمأنينة منذ اللحظات الأولى التي أقفلت فيها الأبواب ص 52).
وهكذا تقدم الرواية درسا في التعايش حيث تلائم المعتقلون (كما لو كان حين من الدهر قد أتى على وجودهم في المكان أو كانوا كذلك طول عمرهم. سابقوا في تلاؤمهم تعاقب الليل والنهار، هذا التعاقب الذي يبدو ثقيلا على النفس ثقل الجبال الرواس. قذر كالمرحاض الذي يحتل زاوية من زوايا العنبر، محرجا بحجم ما يستشعره أي منهم وهو يقضي الحاجة فيسمع الجميع صوت ما يفعل. لقد استمرءوا ذلك كله.. بدا وكأنه جزء من حياتهم اليومية. التفوا حول بعضهم. جميعهم يبدون على هيئة جسد واحد، داخل الجدران الأربعة. لم يعد هناك ما يفصلهم. لم يعد هناك ما يشغلهم عن واقعهم، فالقدرة التي تمتلكها المحنة على توحيد الأفراد الى درجة الصهر تتجاوز كل الأواصر الأخرى. المحنة فوق الفوارق، فوق المسافات، فوق العقائد. المحنة فعل يتجاوز تأثيره كل الأفعال. انتماء يستوعب كل الانتماءات. المحنة مكان بحجم الكون ص 70)
ويتسع المجال في الرواية لرصد رؤى ومشاعر (الذين ترمى بهم الأقدار نحو هذه العوالم، ويقاسون محنتها فمن عادتهم أن يحللوا جميع الحركات والسكنات، وان يتوسعوا بشكل يفوق الواقع حتى ليخرج عن حدود المعقول، كل حركة وكل كلمة تعتبر ذات علاقة بقضيتهم كل خبر كل تصريح فمشكلتهم تفوق كل المشاكل وقضيتهم تتقدم كل القضايا حتى ابتسامة الحرس وهي حالة فردية يحرص ضحايا الأقدار على ربطها بالموقف العام، فكل المعاملات هنا ليست شخصية ولكنها تعبير عن سياسة عامة ص 75)، للسلطة التي صنعت حالة (المولد) بمعناه الشعبي وهو طقس احتفالي فوضوي يختلط فيه الحابل بالنابل، (وبالحجم السياسي المضخم كما قدمه الاعلام لابد أن يكون المستهدف من ورائه متصلا بحركة المجتمع في عمومه، وبالتالي يحتاج إلى وقت يفيض شيئا من الطول ص 80).
وبالفعل سيفيض زمن (المولد) مادامت السلطة قائمة. (غير أن القلق يظل منصرفا إلى السؤال الأكبر حول ما إذا كان النظر سيكون شاملا أم مجزئا ص 80). كل المحكومين في القضايا الجنائية جزاؤهم معروفة ومدد بقائهم محددة، (بعكس هؤلاء الذين جاءوا في خضم هذا “المولد”، مع تعطيل القوانين، بما يعني أن إقامتهم غير محددة مما جعلهم يناقشون الأمر ويتساءلون عما يمكن أن تأتي به الأيام، ومتى سيسألون عما فعلوا ومتى وكيف سيعرفون نوع وحجم ما عليه يمكن أن يجازوا، متى وجد ما يستدعي الجزاء ص 113).
ومما يضاعف الإحساس بالمرارة، ويطفئ بريق الأمل لدى الكثيرين، غياب الأطراف التي يمكن أن تؤثر في قرار السلطة وإجراءاتها تجاههم، حيث (إن مبدأ الادانة المسبق أرادت به التمهيد لأن يكون الإجراء نافذا ومقبولا من الجميع، ولكن من هم الجميع الذين يمكنهم أن يؤثروا في قرار وإجراء كهذا، والسلطة لاتزال في عنفوانها وهي تنفق بسخاء والكل يحقق الأرباح، فما الذي يمكن أن يكون مثار خلاف فكري، أو صراع سياسي معها؟ ص 132) وبالتالي فإنه لا جديد من وسطاء يمكن فعله خارج إطار مناوراتها (ما الذي يمكن أن يأتي به “الصادق”، ومن هم الذين يمكن أن يحاورهم، ومن سيستريح لنقاش “الفيتوري” وبأي هوية يمكن للرجل أن يتحدث؟! ص 132).
(كانت هذه الأسئلة مطروحة، ومثيرة للقلق، ثم تبين أن الحوار مع “الصادق” لم يؤكد حدوثه أصلا من الأساس، ذلك أن حديثه مع الجماعات الاسلامية كان قديما للغاية، ولم يكن بسبب قضايا خلافية بل من المرجح بسبب اعتقاد بعضها في بداية العهد أن من الممكن أن تفلح في الاقناع بتبني برنامجها، خاصة في فترة يكثر فيها الحديث عن المحتوى الديني كهدف من اهداف العهد، غير ان المؤكد أن الحوار توقف منذ البداية، بعد أن آلت مقاليد الأمور إلى طرف يرفض موقف المشاركة لأي طرف آخر يطرح برنامجا ص 139ـ140).
ويتأكد أن “الفيتوري” (قد قابل فعلا بعض الموجودين وأراد ان يمهد لوجهة نظر ارتآها، ولكنه لم يقنع بالرغم من اعتماده على رصيده الشعري الذي كرسه لقضايا التمييز العنصري.. بل وقد قوبل بحالة رفض وصلت الى التشكيك في نسبه الليبي. والأمر لا يعود الى رفض الوساطة كما قيل اعلاميا، وإنما يعود إلى الموقف من الرجل نفسه.. فقد كان من الذين سطع نجمهم في السنوات الأخيرة من العهد الملكي، حيث يمم وضمن أسماء عربية كثيرة شطر ليبيا، ووجدوا شيئا من التشجيع بواسطة الانفاق السخي الذي عرفته الساحة الاعلامية، وخاصة ان كل الذين تعاونوا في هذا السياق أوقفت محاكمتهم في ما عرف بقضية تضليل الرأي العام، فتكون ما يمكن وصفه بالعقدة لكل من وجد في تلك الجوقة، فكيف يجوز له أن يجئ الآن مكلفا من العهد الجديد.. حيث أنه لم يعد مستساغا أن يظهر أمثال هؤلاء في حوار أو مهمة لتطييب الخواطر على نحو ما حصل مع الاستاذين عبد الله ويوسف، بالرغم ان المقابلة قد أدت الى خروج عبدالله في وقت مبكر، فاعتبرت رسالة من النظام لمن كان في وضع عبدالله ، ولم يكن الامر سارا بقدر المطلوب ص 132 ــــ 137).
ومهما قيل عن الوسطات أو خطأ بعض المسؤولين عن التوسع في تنفيذ المهمة، وعن التغير في لغة الاعلام ونبرته، سواء في برنامج إذاعي أو مقال في جريدة، فقد تأكد أن (الأمر مجرد مناورة، أما الأذن بالتصرف فلابد ان يتم على أعلى المستويات، ووفقا لتصورات وتقديرات لا تملكها الأجهزة وربما حتى الجهات القضائية ص 218). فالسلطة قد وضعت تصنيفها لكل الفرقاء، الذين قدر عددهم بأقل من مائتي شخصا، باعتبارهم جميعا يمثلون اتجاهات فكرية او شبه سياسية، جمعوا بين الموظف والطالب والتاجر وشيخ العلم والمدرس والصحفي والأديب والمحامي ورجل القضاء، (بعضهم وصل الى القناعة التامة بما لديه، وربما وصل الى حد التحرك، وبعضهم الآخر مازال في البداية، في ذات الوقت الذي وجد من حام حول الحمى ثم عاد إلى شرنقته، بيد أنه ظل موضع شبهة ص 218). (والشبهة اليسارية بالخصوص، تبدو في أحيان كثيرة شديدة التعقيد، حتى داخل مثل هذه المحنة، وتكون الصعوبات التي يواجهها المتهمون بها جمة، مادام حتى الفرقاء الموجودين إلى جانبهم، ينظرون إليهم بنظرة مليئة بالريبة، ولا يجدون غضاضة في المجاهرة بالعداء ص 220).
وهكذا تمر الأيام (دون أن يحدث شيء من ذلك اللهم إلا النوم والأكل والشرب، وباستثناء ما أضافه الهواء ورؤية الناس لبعضهم البعض فقد بدا كل شيء ثابتا ومشاعر القلق أكثر ارتفاعا ص 113). وحيث أن (كل حركة تعني الجديد، وكل تغيير يعني الدلالة، وبين متفائل ببقاء نصف الكوب الملآن بالماء، ومتشائم يئن من انفاق النصف الذي استهلك يكون أفضل الردود التي يمكن الاستنجاد بها: ـ هات ما يفرح ص 107)
(بيد أن العودة، إلى الذات وعوالمها، وما تصر عليه من استشعار الأمل والركون إلى التفاؤل، ما يلبث أن يجر عليها حين يأوي كل إلى فراشه أثقالا مضاعفة من الحزن واستشعار المرارة وأشواقا متتالية مبعثها ما تحمله الذاكرة إزاء كل زائر ص 237).
وأيضا ما يؤكد النص كرواية تسجيلية هو الاختيار والانتقاء للمادة التاريخية، مما يفسح المجال للخاص الوجداني مساحة أكبر، عبر عرض الراوي لوجهة النظر الذاتية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، ومهما اتسع النص بالأحداث الواقعية التي يختارها الكاتب، وبسيل التفاصيل لتأكيد المصداقية، وبرؤى وحضور الآخرين، الفاعلين، جميعهم، في تصاعد الأحداث نحو الذروة، التي تكشف عن جوهر حقيقة واقعة السجن، وأيضا وبالتالي حقيقة جوهر الكينونة الفاعلة، ويكون ذلك بما لا يقيد النص بتسلسل منطقي أو بشكل فني أدبي محدد أو بناء صارم محدد وبما يجعل القارئ لا يعايره من خلال المرجع التاريخي فقط وقد لا يقبله أيضا بسهولة كنص تخييلي فقط إلا بما تعززه مصداقية الوقائع التاريخية.
والحقيقة أن الكاتب لا يعير اهتماما كبيرا في نصه الروائي، إلى أسلوب إضمار أفكاره وتصوراته، بلغة رمزية ملغزة، وإن لم تغب الرسائل المشفرة أحيانا، أو بطريقة عرض الوقائع ، بوضعها في عالم مواز متخيل، داخل أو خارج زمنها الواقعي، بل يكون التجويد بأن يترك لها العنان لتبرز واضحة وبقوة عبر مفاصل السرد الواقعي التسجيلي، والطويل المسهب لتاريخ الوطن الكيان، وشخصياته الفاعلة وقواه السياسية، وأحداثه المثيرة المؤثرة، وذلك ضمن بؤرة الحياة اليومية المثقلة بتفاصيل صغيرة لا تنتهي داخل دائرة الحصار السجني، ولبطل يتقلب متوترا داخلها باحثا عن التوازن والتماسك، مستندا على ذخيرة من حكايات وأمثال وأشعار وحكم من جواهر فكرية وعملية أخلاقية عن عالم يسقط في أتون الفوضى والقسوة.
إن الكتابة تتركز في تحقيق وظيفتها الرئيسة في النقد والتنوير عبر تقديم الحكمة والأمثولة والعظة بحكمها على الأفكار والممارسات لشخصيات أو لتيارات سياسية وللعلاقات المتشابكة بينها اتفاقا أو تشردما، ولا تتوقف عن إعلان رسالتها، حتى عندما تتحرر من أسر سجنها، متخطية مأزق مساربها، لتواصل استكمال مشروع توثيقها بغرض حفظها في الذاكرة الجماعية، حتى لا يجرفها النسيان، ولتسجل موقفها لغرض الاستفادة والعبرة، لتبدأ آخر…
ويكون بإهداء الكاتب الحكاية (إلى كل من لم يخف امتعاضه من أداء واجب ثقيل) مانحا التحية الموضوعية، منصفا من خلال التجربة المعاشة، نماذج من السجانين المسؤولين عن السجناء وأوضاعهم، (استطاعت أن تكون اكثر امتلاكا لخصائص النفس الخيرة التي تفلح في التمييز، حتى عندما يكون الأمر متصلا بالواجب، فلو كان كل شئ في السجن مرتبطا بالواجب، لما وجد المنزك الذي يؤدي واجبه غير منقوص لكن نظراته على الأقل تطفح انسانية ص 104)، (ذلك ان كل الاجراءات التأديبية المعروفة والمستساغة لدى هذه الجهات أيضا، من الصعب أن تكون مقبولة أو سهلة على كل من يكلف لتنفيذها، ولا سيما حين يكون المعرضون لها من هم في حكم الآباء الكبار والرموز مما جعل الأغلبية من السجناء تستشعر المرارة حتى الحلقوم وتتذوق طعم الألم حتى العظم حين لم تجد ما يبرر بعض الممارسات المتسرعة التي لم يكن ثمة داع لها ولا مردود يمكن ان يعود منها على أي كان ص 75).
ولذلك (كانت الفرحة بنقل الاشراف من العسكر إلى الشرطة تقارب في وقعها على النفس مغادرة الأسوار، صحيح إن الأبواب هي الأبواب والزرد هي هي الزرد ولكن الذين يقومون بإغلاقها وقفلها، لا يفعلون ذلك بأوامر يبدو منها رائحة السلطة القمعية، ولا يؤدون واجبهم الثقيل في غياب التنويه عن مثل هذا الثقل ص 216).
وبالتالي فإن الإهداء، وبمبدأ أن الشيء يأخذ تعريفه من خلال نقيضه، يوجه متحديا سهام الإدانة، مضمرا وظاهرا، لمن تبجح بفعلته المخزية من المسؤولين، بمستوياتهم المختلفة، بالتعسف في اتخاذ القرار والإجراء باعتقال العديد من رموز القوى الوطنية المثقفة والسياسية، ولمن (بادر بالإساءة في المعاملة تجاههم، أو من انصاع لنداءات الشهادة بما سوى الحق وشارك في إكراه الآخرين على التفوه بما ليس فيهم ص 105)، منذرا هؤلاء وأولئك، بأن على الباغي تدور الدوائر، فأن المكان المحاصر لحظة ولكن الزمان طليق.
ويتفتح فضاء الرواية التسجيلية، ويكتمل بناؤها الأساسي، ببانوراما أكثر اكتمالا عن المكان ـ السجن، أبوابه وأقفاله وعنابره وأقسامه التي تغص بالشباب الأحداث إلى الكهول ومن دخلوا مرحلة الشيخوخة، أغلبهم من قرى صغيرة بسبب التأثير القبلي في انتماءاتهم السياسية، من القوميين و البعثيين و الإخوان المسلمين و الشيوعيين و حزب التحرير الإسلامي والمستقلين غير المنتمين و أناس عاديين بل وحتى بعض الموالين حتى لنظام العسكر، وبشخصياتهم، الحقيقية لمجايليهم، والمتخيلة لدى القارئ، مختلفة التكوين الثقافي السياسي، وبسمات هيئات بعضهم الجسمانية، وما يعتري نفوسهم، وهم المخطوفون الى المجهول، من قلق ومخاوف حول المدة المتوقعة للبقاء داخل جدران السجن، وعن أحوال الأهل والأصدقاء، وعن أوهامهم في الحاضر وأمالهم في الغد القادم، وما يعانيه بعضهم من الضعف وسط ظلمة اليأس وبما يتجلى لدى البعض الآخر من القوة والقدرة على التحمل والصمود بما تحمله النفوس من أهداف نبيلة.
وحيث تتحول العنابر إلى فضاءات رحبة، تتسع رغم ضيق المكان وقسوة التجربة والقلق على المصير، برواية السير الذاتية، وسرد الذكريات، وخاصة مع “الأبشات ـ العبادلة”، حيث يتم أثناء الفسحة المتاحة استظهار الشعر ومناقشة المتوفر من الكتب والمجلات وترنيم الأغاني، كذلك استحضار الوقائع والتجارب في الزمن الطليق، عبر الحوار والنقاش المتبادل، الذي ينصرف معه الوقت، عن المجتمع والثقافة والتاريخ وسير المناضلين، وخاصة ممن تعرضوا للاعتقال، ولكنهم لم ييأسوا ولم ينهزموا، بسبب الادراك الواعي لواقع الحال، بل تفهموا الايجاب في قضايا التحرر ومقاومة النفوذ الأجنبي، فالمهم هو مصلحة الوطن، وليس المهم طبيعة القوى الحاكمة المتقلبة بين يمين ويسار، تتخبط في الفوضى، وتتعثر في المواقف.
(فما رأيكم في أن يروي كل منا قصة حياته؟ص 80) هذا ما اقترحه احد السجناء، لقهر وحشة المكان، وهذا ما يقترحه الكاتب الأديب أمين مازن راويا قصة المحنة التي عاناها في السجن، مستهدفا أن يقدم العبرة والموعظة في أنه (من أساسيات الحياة، حين تبدو ظاهرة في جماعة تبدو الحياة، وفي هذه الظروف، غنية بالإيجابي، الصدق في القول، الكف عن الحديث بما لا يرضي الآخرين، الحذر من الاستسلام للضغوط والانهيار أمام اللحظة، الترفع من نقيصة أن يتمنى المرء ما يتمناه قصيرو النظر ان يكون جميع من عرف عنهم نشاطا ما داخل السور! ص 61)
وبالتالي فـرواية (المولد) تكتسب أهميتها في كونها شهادة موثقة لحدث سيتنامى ليصبح أسلوب حركة لكل سلطة تستهدف، من أجل أن يدوم بقائها، إثارة غبار الفوضى لتعمي العقول وتفسد المشاعر بالهيجان المدمر، وبحصار النخب والطلائع الوطنية الحرة داخل الوطن. وبالتالي فهي بحث عن الولادة المتعسرة للوطن وقواه في زمن تتهدد فيها أحلامه بالعسف والاغتيال.
ومن أهم سمات الرواية أن كاتبها قد حاول توظيف أجناس مختلفة، تجمع الرواية التاريخية والسيرة الذاتية، كما قد يصنفها مجايليه وقراء التاريخ، أو تقيمها الأجيال الجديدة كرواية للمكان، ولكنه صهرها، بالمغامرة الأدبية الحرة، في نص يتوهج بالصدق، لأن الكاتب مرتبط بالتجربة، بكل مشاعره الدافئة وبذهنه اليقظ وبذاكرته الحاضرة، إلى درجة الإيحاء، وكما يقول “بول إلوار”، بأن الكاتب هو الذي خلقها، وبالرغم من محاولة انضباط بطلها غالبا بانتهاج العقلانية والمحافظة على التوازن، إلا أننا، ومع التفاصيل المتحررة للرواية وبالضرورة، بحثا عن المعنى والدلالة للتجربة أو الرواية، وللتحديات التي يواجهها بطلها، في الكتابة أو العيش، نتوصل إلى أن جوهر المعنى يتجلى في أنه قد يحاصر الانسان في المكان، ولكن الفعل المقاوم الذي يؤكد جوهر الكينونة، في كونه المفكر المبدع المحب، سيظل حاضرا دائما في الزمن الطليق.
_________________________
ألقيت هذه الورقة في ندوة (قراءات في رواية المولد للكاتب أمين مازن) التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون مساء الثلاثاء 3 أبريل 2018م، بدار حسن الفقيه حسن للفنون – المدينة القديمة، طرابلس.