إبراهيم الحجري – المغرب
يواصل الروائي محمد الأصفر الليبي نزيفه السردي عبر إصدار جديد موسوم بـ”وزارة الأحلام”. ويشكل هذا العمل إضافة نوعية إلى رصيده الروائي، وتعزيزا لخطابه الإبداعي، الذي بقدر ما ينشدّ إلى الحكي الساخر المراهن على المفارقة والنقد، يظل أيضا موصولا بالسؤال المجتمعي والهم الإنساني.
لكن هذا الانشغال بقضايا الناس وأحوال المجموعة البشرية التي ينتمي إليها لم يُثنه عن تطوير آلياته السردية وأساليب صوغه الفني، فهو يسعى عقب كل تجربة روائية إلى تبديل خطابه وتجديد أدواته وفق ما ينسجم مع طبيعة المحكي وموضوعاته، مما يجعل إيمانه بقضايا الأمة موازيا لوعيه بقضايا الفن والأدب وأشكال الخطاب.
وكلما كان هذا التوازي حاضرا في العمل الروائي، كان أشد بلاغة وقربا من المتلقي وأكثر انسجاما مع روح العصر. ويقول الأصفر للجزيرة نت حول إصداره الجديد: “الرواية كتبتها عام 2009 وأنا صاحب قضية، فأخي قتل في مذبحة بوسليم وهو أخي الوحيد… وزارة الأحلام هي وزارة اليأس، عندما ييأس الإنسان في الحصول على حريته، فعليه أن يستنفر الأحلام كي يتحصل عليها. الطفلة في الرواية هي الديمقراطية التي ننشدها في ليبيا، هي عمق الحرية وصهريج الروح الذي لا ينضب. المقصود هو أن نبدأ الديمقراطية من الصفر من الولادة، من البداية حتى لا نأكل ثمارها زائفة”.
حكايا متوازية
يفصح محمد الأصفر ضمن متن روايته عن الطقوس المحيطة بالسياق الإبداعي الذي أَنتج فيه روايته سواء ما يتعلق بالغاية من الكتابة أو المكان الذي يحتضن تجربته “طنجة”، حيث يؤطر الواقع العياني تجربة المتخيل ويحفزه، وكأن الروائي لا يريد من لحظة الكتابة أن تجافيه، فيعمد إلى تدوين التفاصيل التي تلتبس بفعل الحكي ومشاعر القلق والخوف، والإحساس بالألم، والانغماس في المعيش، والشعور بجمال العالم من حوله، في انتظار أن يعود المتخيلُ، وتجود “المخيلة”.
ويصور الروائي الليبي تجربته في بانكوك مثلما يرصد عادات أهلها، ويصف زوارها الباحثين عن المتع “بانكوك سوق الحرية والمتعة”. لذلك يطلق الراوي العنان لذاته كي تلهث لتتسكع بحثا عن مادة طيعة للحكي بعد ما ضاق ذرعا بالمحيط الذاتي. دون أن ينسى الحديث عن علاقته مع الكتاب والورق والحاسوب والنت. ويتذكر حياته مع التقشف والفقر والإفلاس وحياة التسكع في بعض بلدان العالم.
في النص الروائي تتناوب ثلاث حكايات متوازية: حكاية الرواية ذاتها وما يتعلق بطقوس كتابتها، وأسباب تأليفها، وأساليب صوغها، إذ سرعان ما يوقف الراوي السرد ويقحم خطابا آخر لا علاقة له بما سبق، فينتقد أسلوب الرواية ويتراجع عنه مقترحا أسلوبا آخر مغايرا للأول مبينا عيوبه ومساوئه.
ويقول في إحدى التدخلات وما أكثرها في النص “طبعا السطور الماضية معظمها حشو ورومانسية فارغة يمكن حذفها على رأي التيوس النقاد، لكن لن أفعل. هناك قراء يحبون الكلام الفارغ ولديهم وقت طويل له، أنا نفسي غير مقتنع بها، ولا أستخدمها في حياتي العامة، لكن ثرثرتها عمدا لأنها انهالت على مخيلتي، فقلت لا بأس، سأتبع نزوات حدسي، وسأطبع هذا الحشو، حتى لا تكون الرواية جيدة. فيكتبون عنها كثيرا وتتاجر بها البغال والحمير من موظفي الثقافة”.
وينتقد بشكل صريح الروايات التي لما تزال متمسكة بالحوار والوصف معتبرا إياها موضات متهالكة، رابطا بين أسلوبه الساخر في الكتابة ووضعه النفسي وحال بلاده ليبيا قبل الثورة، يقول: “لن أكتب جيدا، أنا أبكي الآن… بلادي الآن ليست جيدة، ليست جيدة بالمرة، علي الطلاق بالثلاثة لن أكتب جيدا الآن. فالكاتب بلاد”.
ضمير الكتابة
وفي الرواية حكاية صورة الطفلة التي تدخل في حوار تأملي مع الراوي الرئيسي مؤججة أحلامه وهذياناته وجنونه اللغوي والنقدي، ويقول عن علاقته بهذه الصورة التي تشحذ طاقاته للكتابة وتشد حواسه إلى المتخيل: “أظل فاتحا جهاز الكمبيوتر متأملا في صورة الطفلة الرابضة وسط الشاشة، أتأملها بعمق وأفتح حوارا بيني وبينها. أتخيلها تكلمني، تسألني أسئلة كثيرة، ولأني كبير تظن أنني أملك الإجابات”.
وتمثل تلك الطفلة ضمير الكتابة الذي يوجه ويتدخل معاتبا بشكل مبطن بعض سلوكات الكاتب وتعمل على إيقاظ صوت في الراوي ينزع إلى التدين والصلاح والطريق المستقيم، صوت الفطرة السليمة التي لم تفسدها المدن.
يعود الأصفر من خلال عتبة الصورة المثبتة على شاشة الحاسوب ليعانق مطلق طفولته، ويهرب من جحيم الواقع الذي يشعره بالمرارة والحرمان واللاحرية، فهو غير حر ولا طليق (هناك دوما من يراقبه). هناك شيء ما بداخله يراقب كل حركاته وسكناته، لذا فهو يتمنى لو يعود رفقة تلك الطفلة إلى الرحم ليعانقا معا الحرية المطلقة على الحلم هربا من جحيم التطرف والقتل الجماعي ومصادرة الحياة باسم الدين أو السياسة أو العرق، داعيا من خلال هذه الصورة الطفلة إلى التسامح والتآخي.
وضمن محكيه الذاتي يروي صاحب كتاب “ثوار ليبيا الصبورون” فيه تفاصيل صعلكته في فضاءات مختلفة ومشاهداته من عادات المجتمعات التي يزورها، كما يتطرق لمعاناته مع الفقر، معوضا ذلك بالتقشف والإصرار على الكتابة حتى في حالات الضيق والملل.
في “وزارة الأحلام” يفتح الراوي الباب واسعا أما المفارقة والسخرية، ساردا أحداثا فوضوية لا ناظم لها سوى الأحلام المجهضة التي تنكص بالشخوص وتحيد بالعالم عن جوهره الإنساني.