النقد

رؤيته الجمالية في المشهد الروائي العربي

محمد النعاس الفائز بجائزة البوكر العربية

الروائي الليبي محمد النعاس
الروائي الليبي محمد النعاس

يشتغل الروائي الشاب محمد النعّاس، في روايته الأولى، «خبز على طاولة الخال ميلاد» والتي حصدت جائزة (البوكر) العربية لعام (2022م)، على عدة إيقاعات جمالية، سواء في المضمون الروائي وجرأة المعالجة، أو في البناء السردي وجمالية الخطاب، المتصلة بتخطيب الزمان، الاسترجاعات والاستبانات، والحذف الزمني، فضلاً عن تخطيب المكان والأحداث وبنائها الدرامي المتوتر، وتشكيل الشخصيات وبنائها جسدياً ونفسياً واجتماعياً، ما منح الرواية رؤية جمالية متميزة في المشهد الروائي العربي المعاصر.

وقد أوضح شكري المبخوت، رئيس لجنة الجائزة، أن الرواية تقع في صلب التساؤلات الثقافية الكونية بعيداً عن التناول الأيديولوجي، فعلى مستوى المضمون؛ تتوقف الرواية عند المجتمع الريفي القروي في ليبيا، لترصد مجموعة من العلاقات المتشابكة في المجتمع، وفي الذاكرة الشعبية الاجتماعية، وعلى وجه الخصوص العلاقة بين الرجل والمرأة، ومنعكسات ذلك على مسيرة الشخصيات ومسارها الاجتماعي والنفسي، في مجتمع لا يقبل الانفتاح على التطورات الحديثة في العالم،من القرى الليبية

ولا يقبل الاستجابة للإيقاعية الإنسانية في الحوار، والتواصل والاتصال والبحث عن الهوية، وذلك عبر شخصيتين محوريتين هما (ميلاد) و(زينب)، حيث نجد البطل (ميلاد) في بحث مستمر ومرهق، عن مفهوم الرجولة المثالي حسبما يراه مجتمعه، عبر مسارات حياته المختلفة، التي حاول من خلالها البحث عن وجوده وذاته، وهويته وكينونته، في مجتمع مغلق على أفكاره وسلوكياته..

إلا أن البطل يفشل في تحقيق ما يسعى إليه، ليقرر في النهاية أن يغض تفكيره عن هذا الموضوع، بعد أن تعرف إلى زينب حبيبته، وزوجته المستقبلية، ليعيش أيامه داخل البيت، يقوم بدور المرأة من طبخ وكنس وغسل وغير ذلك، بينما تقوم المرأة زينب بالعمل خارج المنزل لتعيله وتعيل الأسرة.

بهذه المفارقة التي ترتهن إلى الواقع بحس ساخر مؤلم، تشتغل الرواية على موضوع جديد في الرواية العربية، وهو موضوع الهوية الجندرية، بمعالجة موضوعية بعيدة عن أي إسقاطات؛ أيديولوجية أو فكرية منجزة، ودون أن تغلق رؤيتها بتقديم حلول جاهزة، بل تركت الموضوع مفتوحاً على تفكير القارئ ورؤيته. لتعيد مساءلة التصورات الجاهزة لمفهوم (الجندر)، منتصرة للفرد في وجه الأفكار الجماعية القاتلة.

استثمر الروائي الأمثال الشعبية الليبية لخدمة فكرته، حيث جعل العتبات النصية لفصول روايته أمثالاً شعبية، تشير إلى جانب من جوانب العلاقة بين الرجل والمرأة، وجانب من جوانب مفهوم الجندر. لتكون هذه الأمثال والمقولات الشعبية، بمثابة الرؤية المكثفة لفكرة كل فصل، وبالتالي يشكل مجموعها الرؤية التي تنطوي عليها الرواية بشكل كامل. وهنا ينجح الكاتب بتحقيق الإيقاعية المنسجمة بين الشكل والمضمون، فهو من جهة استطاع أن يفتح النص على الذاكرة الشعبية، من خلال تلك العتبات، ومن جهة ثانية استطاع أن يقدم شكلاً روائياً، يعتمد العنونة لفصوله الداخلية، ويكثف معنى كل فصل في مثلٍ شعبي.

بهذه المعادلة بين الشكل والمضمون، بين الواقع والرمز، بين الزمان والمكان، والأحداث والشخصيات، قدم لنا المؤلف بناءً سردياً جمالياً عبر رؤية فنية، استطاعت أن تستثمر الآليات الحديثة في الكتابة السردية، حيث قسم الرواية إلى فصول، والفصول إلى مقاطع.

وقد افتتح الفصل الأول (المخبز) بعتبة نصية، يمثلها المثل الشعبي الليبي، أو المقولة الشعبية (عيلة وخالها ميلاد)، ويشرحها المؤلف بأنها تعني النيل من رجولة الرجل، الذي لا يملك سلطة على النساء اللائي يتبعنه، وهو إلى ذلك يقدح في أخلاق النساء أنفسهن، وهذه المقولة هي التي استثمرها في عنوان الرواية، لتكون المقولة المحورية في بناء رؤيته الروائية.. لتأتي الأمثال والمقولات في الفصول التالية تفريعاً على المقولة المحورية، وبالتالي تخطيباً لفكرة الرواية وتوسيع معناها.

في الفصل الثاني (المعسكر)؛ يجعل عتبته النصية المثل (تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة).. مثل ليبي عن الرجولة، بأن يعيش المرء رجلاً صاحب مواقف، وشجاعاً يوماً واحداً، أفضل له من أن يعيش عشرة أضعافه خائفا ذليلاً كالدجاج. ليبدأ الفصل الثالث (دار غزالة) بالمثل (الفرس على راكبها)، مثل شعبي يعني أن المرأة تتخلق بأخلاق زوجها، وأنه هو الذي يربيها بعد أبيها. ويأتي الفصل الرابع (بيت العيلة) بالمثل الشعبي (البنات زوبعة إبليس)، والفصل الخامس (البراكة) بالمثل (اضرب الفطوسة تتربى العروسة)، لتكون المقولة الشعبية (الرجل ما يعيبه شي) عتبة للفصل الأخير (المطبخ).. ليشفع هذه التقنية في مفصلة الفصول وتناصها مع الأمثال الشعبية، بتقينة الترقيم الثنائي داخل كل فصل من تلك الفصول، وبالتالي يقدم شكلاً من الترابط بين الفصول، ففي الأول يعتمد (1 – 2)، والثاني (3 – 4) والثالث (5 – 6)، وهكذا.. فضلاً عن هوامش لكل فصل، يشرح بعض الكلمات الخاصة بالبيئة الشعبية الليبية.

ومن جماليات هذه الرواية؛ الاشتغال على إيقاعية المعادل الموضوعي، بين صناعة الخبز وتقنياته، وبين صناعة العمل السردي وآلياته، وكأن الكاتب أراد أن يختبر رؤيته السردية، كما يختبر الخباز صناعة خبزه، التي تبدأ من العجينة الأولى لتصبح بعدها خبزاً ناضجاً.

حاولت الرواية أن تجمع بين الرمزية والواقعية، بأسلوب رشيق بسيط، وإيقاعٍ سرديٍّ سلسٍ هادئٍ في ظاهر النص، هادرٍ متوترٍ في باطنه، وصيغت بلغة عربية حديثة يسيرة المأخذ، لكنها تُخفي جهداً في البحث عن أساليب في القول، مناسبة للعالم التخييلي، متدفقة بلا تكلف أو مبالغة أو ابتذال، منسابة على لسان راوٍ يطل علينا من ثنايا السرد، هو البطل ذاته، متقمّصاً دور الراوي العليم؛ ليدخلنا في عوالمه الباطنة التي يتخمّر فيها الخبز، نابضاً بحياة تجعل منه شخصية رئيسة، في النص الروائي.

يبقى أن نشير إلى أن محمد النعّاس؛ قاص وكاتب صحافي ليبي، من مواليد (1991م). حصل على بكالوريوس الهندسة الكهربائية من جامعة طرابلس عام (2014م). صدر له (دم أزرق- مجموعة قصصية 2020م)، (خبز على طاولة الخال ميلاد 2021م)، صادرة عن رشم للنشر والتوزيع.


الشارقة الثقافية | العدد السبعون، 01 أغسطس 2022

مقالات ذات علاقة

شريعة الراعي بلغة الخروف

الصادق النيهوم

قراءة في فصل لرواية: كونشيرتو قورينا إدواردو. لـ نجوى بن شتوان.

نورالدين سعيد

نص الطفولة الشاعر الليبي: علي صديق عبدالقادر

أحمد الفيتوري

اترك تعليق