المقالة

الفـنان والقـرد

سلسلة: الصورة والخيال

من أعمال التشكيلي رمضان أبوراس
من أعمال التشكيلي رمضان أبوراس

9 – الفنان والقرد

كتاب “في الشعر” Περὶ ποιητικῆς – Perì poiêtikês يعتبر من أهم أعمال أرسطو، يعالج فيه مفاهيم الفن الشعري عموما وبشكل أكثر تحديدًا، فنون المأساة أو التراجيديا –  والملاحم وفكرة “التقليد” التي هاجمها إفلاطون من قبلة بعنف وحدة. يعرفه أرسطو بقوله بأن هذا الكتاب ” يعالج علم إنتاج الشيء المسمى بالعمل الفني”، ربما يكون قد كتبه حوالي 335 قبل الميلاد، وقد أثر هذا العمل تأتيرا كبيرا في تكوين الفكر الفني الأوروبي والغربي قرونا طويلة، وأثار الكثير من المناقشات والتعليقات والنقد، وما تزال مبادئه الأولية تدرس في المدارس والمعاهد المسرحية. ولد أرسطو Ἀριστοτέλης في عام 384 قبل الميلاد في Stagire ستاجرا وهي مستعمرة يونانية وميناء على ساحل تراقيا. و كان ابوه نيقوماخوس Nicomaque طبيب في بلاط الملك إمينتاس المقدوني Amyntas III de Macédoine ومن هنا جاء إرتباطه ببلاط مقدونيا، الذي أثر إلى حد كبير في حياته ومصيره الفكري والسياسي، فكان مربي الإسكندر الأكبر وأستاذه. دخل أكاديمية أفلاطون للدراسة فيها في السابعة عشر من عمره وبقي فيها عشرين عاما، ولم يتركها إلا بعد وفاة أفلاطون في حدود ٣٤٧ قبل الميلاد. كان من أعظم فلاسفة عصره وأكثرهم علما ومعرفة ويقدر ما أصدر من كتابات بـأكثر 400 مؤلف.عرف بالعلمية والواقعية، يعرف الفلسفة بأنها علم الجواهرessence الكلية لكل ما هو واقعي، على عكس أفلاطون الذي يحدد الفلسفة بأنها عالم الأفكار idea  قاصداً بالفكرة الأساس اللاشرطي للظاهرة. وعاش أرسطو حتى سنة 322 قبل الميلاد.

 نعرف أنه في الميتافيزيقيا، يميز أرسطو بين ثلاثة أنواع من العلوم: العلوم النظرية la science spéculative، وتشمل الفلسفة الأولية أو الميتافيزيقا والرياضيات والفيزياء. ثم العلوم العملية la science pratique، أو البراكسيس وتخص مجال الأخلاق والسياسة. وثالثا، العلوم الإنتاجية la science productive، وتتعلق بالنواحي التقنية وإنتاج كل ما هو خارج نطاق الإنسان، مثل الزراعة والصناعة والخطابة وكل ما يتعلق بالفنون. أما المنطق فهو لا يدخل مجال العلوم ولكنه الوسيلة التي بواسطتها يمكن ممارسة العلوم وإمكانية تطورها. ويدرس في العلوم الإنتاجية الجزء الشعري من منظور وصفي ومعياري، ويصنف أرسطو الإبداع الفني والإنتاج الحرفي كإنتاج شعري ποίησις – poesis وليس “عملي” πρᾶξις – praxis. وهذا يعني أن هدف وغاية هذه الفنون ليس “في ذاتها”، بخلاف الممارسة أو البراكسيس، التي لها غرضها في حد ذاتها ، كالممارسة الأخلاقية مثلا. أرسطو في كتابه هذا “في الشعر”، يعتبر الشعر والتصوير أو الرسم والنحت والموسيقى والرقص هي الفنون الرئيسية، رغم أنه لا يعالج في الكتاب بطريقة شاملة سوى التراجيديا والملاحم وقليلا من الموسيقى. في دراسته للتراجيديا يأخذ مفهوم المحاكاة mimèsis – μίμησις من أفلاطون، ويبدو وكأنه  يتبع المذهب الأفلاطوني بإعتباره أن الإنتاج الفني ناتج عن تقليد الطبيعة، ولكنه لا يدين في الواقع هذه الحقيقة. يشرح أفلاطون في الكتاب العاشر للجمهورية أن العمل الفني هو مجرد تقليد للتقليد، نسخة باهتة من نسخة أخرى. الفنان  يقلد الشيء الذي ينتجه العامل الحرفي، السرير أو الطاولة وما شابه من صناعات بشرية، أو ما تنتجه الطبيعة ذاتها من أشجار وجبال وأنهار، وهذه الأشياء هي في حد ذاتها نسخ من جوهرها أو مثالها المتعالي – الفكرة أو النموذج. إن الفن بالنسبة لأفلاطون، كإنتاج للكائنات أو للأشياء المادية المتعينة، هو مجرد تقليد من الدرجة الثانية، نسخة من نسخة الفكرة. إن العمل الفني، الذي يتعلق بالتمثيل فقط ليس له قيمة أو أهمية تذكر، لأنه بعيد عن الحقيقة، ويقع في المرتبة الثالثة في سلم الموجودات. ويظهر الفنان المقلَّد نفسه كخطر على مشروع الجمهورية المثالية التي يريد إفلاطون تشييدها، لأنه ينشر الأوهام والأكاذيب، ويزيف الحقيقة، ويمكنه بذلك أن يقلب القيم الأخلاقية أو السياسية التي يعالجها إلى نقيضها. عند هذه النقطة يبتعد أرسطو عن أفلاطون، فهو لا يفكر في استبعاد الفنانين المقلدين ولا طردهم من المدينة، رغم قناعته بأن دور الفنان ليس كتابة الأشعار التي تقلد الطبيعة أو الأحداث، وإنما التعبير عن الواقع وتقديم الأحداث، ليس بالضرورة كما حدثت فعلا، ولكن كما يمكن أن تحدث، فالشاعر يختلف عن المؤرخ اليومي للأحداث. لهذا السبب الشاعر أقرب إلى الفلسفة من كاتب التقاريرhistorien-chroniqueur لأنه يهتم بالعموميات وليس بالوقائع والتفاصيل الخاصة. ففي التراجيديا، أحداث القصة ككل ومعناها العام، يمكن إعتباره أكثر أهمية من تفاصيل شخصيات الأبطال أو حالاتهم النفسية.

 يقدم أرسطو فكرة “التقليد” في ضوء جديد تمامًا، وينقيها من مثالية إفلاطون. بالنسبة له، الإنسان بطبيعته، لا يحب التقليد فقط، ولكنه من خلال التقليد يبدأ الإنسان تعلمه للحياة. وهناك سببان لهذا، في البداية لأن العمل الذي يقدمه الشاعر أو الفنان كتقليد لما هو كائن، عادة ما يكون أجمل من النمودج الأصلي ومن الواقع، وهذا مصدر للذة والمتعة للمشاهد أو للمستمع. ويأخذ أرسطو لوحة ما تصور جثة ميت مثالا على ذلك. في الواقع لا نستطيع تأمل هذا المشهد، لأن الموت والجثت تبعت في الإنسان نوعا من النفور والغثيان، ولكنه يمكننا أن نتأمل هذه اللوحة بهدوء، بل ونشعر بنوع من المتعة في ملاحظة دقة الفنان وبراعته في وضع الخطوط والألوان والظلال وواقعية المشهد. اللوحة ممتعة في نهاية الأمر لأنها ترينا ما لا يمكن مشاهدته مباشرة بدون ألم أو قرف أو خوف، كالجثث البشرية أو الوحوش البرية، أو الحروب والإغتيالات. أما السبب الثاني، فهو أنه من خلال عمل الشعراء والفنانين، يمكن للإنسان الوصول إلى شكل معين من أشكال المعرفة. ذلك أن الفنان والشاعر يستطيع أن يقدم، ليس الأشياء في ذاتها، ولكنه يشير بطريقة ما إلى “جوهر” هذه الأشياء وماهيتها الحقيقية. وهكذا فإن المتعة الجمالية plaisir esthétique تظهر لأول مرة في تاريخ الفلسفة وتاريخ الفن، وتصبح عاملا مهما في تقييم جمالية العمل الفني. هذه اللذة والمتعة الحسية ناتجة عن الأحاسيس والعواطف التي يثيرها العمل في نفس الجمهور المشاهد، والتي تلمس وتثير المشاعر، والتي تجد فيها منفذًا ومتنفسا “. المسألة ، ليس فقط تقليد فعل ما ككل، ولكن أيضًا تصوير أحداث ومشاهد قادرة على إثارة الرعب والشفقة، وتولد هذه العواطف خاصة، وبطريقة أكثر إثارة عندما تتتابع الأحداث بطريقة غير متوقعة. وأرسطو بطبيعة الحال يشير إلى وجود مسافة فاصلة ضرورية ومن المستحيل تجاوزها بين عمل الفنان وبين الموديل الواقعي الذي ألهمه عمله الفني. فالعمل الفني يشبه الشيء المقلد، ولكنه ليس “هو” ويختلف عنه بالضرورة، لأن الإنتاج الفني ناتج عن عمل الفنان والطريقة التي يشكل بها ما يقلده ويصوغ بها نموذجه. والعمل الفني يكون جميلا بالضرورة لأنه بناء وتكوين وتشكيل أبدعه الفنان إستلهاما من أي نمودج مهما كان نوعه، ولو لم يكن جميلا في الأساس. وفيما يتعلق بالمعرفة ، فإن أرسطو يعارض بشكل جذري أفلاطون، الذي يحضنا على فصل أنفسنا عن المظاهر المحسوسة والتحول أو الإنتقال من الواقع الملموس إلى المثالي. أما بخصوص التراجيديا فيعرفها أرسطو بأنها “تقليد عمل نبيل ، ينجز من بدايته إلى نهايته، وله امتداده إلى حد معين، بلغة مشوقة، وبإضافة العديد من المقبلات الجمالية مثل الإيقاع واللحن والأغنية. إنه تقليد يرتكز على شخصيات تقوم بأفعال معينة على المسرح، وليس عن طريق السرد كما هو الحال في الملاحم، ومن خلال خلق أحاسيس كالشفقة والخوف، يقوم العمل بتطهير نفسية المشاهد من هذا النوع العواطف. الأمر يتعلق بتقديم أحداث قصة لها مقدمة وتطور ونهاية، ويجب أن يكون تصرف الشخصيات معقولًا ومبررا ومن المستحسن أن تمثل أحدى الشخصيات على الأقل، شخصا أو شخصية لها وجود تاريخي حقيقي، وذلك لكي يتمكن المشاهد من التعرف على نفسه في شخصيات المسرحية وأبطالها. وفي مرحلة “الذروة الدرامية”، وهي أهم لحظات المسرحية، يجب أن نجعل المتفرج يشعر بالشفقة أو الخوف على هذا البطل المأساوي الذي يعاني من مصير لا يستحقه فرضته عليه الآلهة أو الأقدار، أي أن يكون هناك تعاطف مع هذا الشخص الذي يعاني من سوء الحظ الذي هو نتيجة الأخطاء التي ارتكبها والخوف من القدر الذي يمكن أن ينزل عليه مصائب أخرى غير متوقعة، وهذا الخوف والتعاطف مع البطل التراجيدي هو ما يسمى بظاهرة الكاثارسيس.

مقالات ذات علاقة

وهم الديمقراطية العربية

يونس شعبان الفنادي

أحلام ما بعد الحرب (رؤوس وأبجدية الشوارع)

عدنان بشير معيتيق

كيف نستعيد ليبيا التي تسكن فينا ؟ .. زكريا العنقودي

زكريا العنقودي

اترك تعليق