.
لعلنا كنا البلاد الوحيدة -في العالم- التي تعتمد نشيدها الوطني طوال اربعة عقود، مستلا من “أغنية” حماسية لحنها الفنان المصري “محمود الشريف” تيمنا بتتبع مسار واقتفاء أثر خطى “جمال عبدالناصر” في طريقه الغائم، ظل خلالها نشيد “الله أكبر” رمزا وطنيا، الى حين بعث نشيد “يابلادي” كأيقونة تدل على المعارضة للحكم السابق، وطوال أشهر الثورة كان الصغار يتدربون على حفظ النشيد الجديد، حتى ان بعضهم حفظه مصحوبا ب”الهمهمة”! التي جاءت في أحد التسجيلات الحديثة، وبالمثل ظل بعض جيلنا يردد ماحذف من مقاطعه، وفقا لما يحتفظ به في ارشيف ذاكرته، بما يتضمنه من تحية للملك “ادريس” سليل الفاتحين لأنه في ليبيا رمز الجهاد!
ما أن بدأت الصحف العديدة في الصدور، كتعبير عن التغيير والفرح المؤقت على الطريقة الليبية، قامت أغلبها بنشر نشيد “يابلادي” بقراءاته المختلفة، إضافة إلى منشورات أخرى، قامت بتوزيعها عديد الجمعيات الأهلية، التي اندلعت تحت شعار “سوق خيري لصالح علاج جرحى الثوار” بوصفها من مؤسسات المجتمع المدني، تلك التي تبخر أغلبها، بمجرد انطفاء جذوة النشوة بالتحرير، لكن كل نص للنشيد سبق نشره يختلف اختلافا كليا عن سواه، ففي كل نسخة اعتمد محررها على تحليل سماعه لكلمات النشيد مغناة، فجاءت محملة بالأخطاء الإملائية، حيث قلبت الألف المكسورة الى ممدودة، او استبدلت الفتحة بحرف الألف، والكسرة انقلبت ياء!! الحقيقة ان جيلنا عرف معاني الكلمات خلال مراحل تعليمه قديما، ولم يكن النشيد مقررا ضمن المنهج الدراسي، لكننا حفظناه عن ظهر قلب، وحينما كنا نردده بهمس قبل تحرير طرابلس، ثبت لنا بأن مانتعلمه في الصغر، يغدو كنقش على حجر الذاكرة لايمحى.
لقد واجهت صعوبة كبيرة حينما صححت لأحد أطفالي منذ عشر سنوات، مايردده خاطئا من النشيد الوطني السابق، خاصة في المقطع “جيش الأعادي جاء يبغي مصرعي” لأنه ظل متشبثا بما يسمعه من بقية التلاميذ واقفا باحترام في الطابور الصباحي محييا “جيش الأعادي جاء يبني مصنعي”!!!
مايدعو إلى استدراك تكرار الوقوع في الخطأ، ولعلنا نحتاج الى ان يكون النشيد الوطني مادة لازمة لكل المراحل التعليمية اليوم، على ان يغدو من بين مقررات المنهج في مرحلتي رياض الأطفال والأولى ابتدائي، بتبسيط معاني كلماته البليغة، فالنشيد يعد غنيا بالبلاغة وفقا لمعايير ذلك العهد في قرظ الشعر، مع استخدمه لمفرادات من اللغة العربية يصعب فهمها على الاجيال المعاصرة، فهو قد اختير من بين نصوص أخرى هي نتاج مسابقة أجريت في بداية عهد الاستقلال، ألفه الشاعر التونسي “البشير العريبي” وعهد إلى الموسيقار “محمد عبد الوهاب” مهمة تلحينه، فجاء في جمل موسيقية ذات ذائقة فنية عالية.