.
كتابة السيرة أو المذكرات تدوين للتاريخ الموازي في كل مرحلة، أو بمعنى أصح، توثيق للمسكوت عنه عبر شهادة أشخاص كان لهم دور او حضور في عديد الأحداث والوقائع المهمة، كونهم جزءاً من هذه الأحداث، وفيما سبق عانت كتابة السيرة من قبل كتاب ليبيين من الابتسار أو الغربلة في التكنم على احداث يصعب الحديث عنها في ظل نظام أمضى عقودا وهو يسعى إلى كتابة تاريخه بحبر انتقائي يغربل وقائع المرحلة بشكل يؤكد تلك الوساوس القهرية لمجده المزعوم، فسكت البعض وابتلع سيرته، أو كتبها بحذر، أو كتبها بجرأة كعمل سري مؤجل النشر حتى ينقشع الظلام، وفي هذا الصدد تأتي مذكرات المحامي والناشط الحقوق د. جمعة عتيقة : “في السجن والغربة .. مذكرات” الصادرة عن دار الرواد، حيث أختار لندن عاصمة الضباب كمكان مناسب لجرد الذاكرة ولتسجيل وقائع كان شاهداً عليها وجزءاً منها .وبعد اعتقاله التعسفي بتهمة ملفقة، وعندما كان الأفق مغلقا، بعد تنحيه عن عمله الحقوقي بجمعية حقوق الإنسان، يقول في تمهيده: (حينما كتبت هذه المذكرات سنة 2007 أثناء تواجدي خارج ليبيا وكتب الفصل الأخير سنة 2010.. لم أكن اتوقع أن تنشر في حياتي فالظلام كان حالكاً وخيوط الأمل تتبدد مع مضي العمر وقد أوصيت أولادي بنشرها حينما ينقشع الظلام ويغمر ليبيا ضياء الحرية… غير أن الله قد منَّ علي بأن أشهد لحظة الانتصار العظيم وانكسار جحافل الطغيان والتخلف والجريمة وها أنذا أقدمها للقارئ كما كتبت حينها.).
تصارع الجانبان؛ القانوني والسياسي، في داخل الكاتب طيلة هذه السنين، ومارس مهنته كمحامي وأستاذ للقانون ونشاطه كسياسي معارض ومشاكس في الوقت نفسه.
السياسة كانت فن الممكن لديه الذي يقوده حس وطني عالٍ، والقانون كان مدونة الضمير التي تجذر لمسألة حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، وتجربة المعاناة الذاتية كانت الضلع الثالث المغذي لسبيلين اختارهما للعراك مع سلطة مطلقة شرسة ومتخلفة، لا تعرف الرحمة ولا تؤمن، مثل سجونها، بأية نوافذ للتنفس أو النور، فهو لم يأت إلى تلك المعركة من مكتب فاره للمحاماة أو من مقاعد الجامعة كترف يقوم به الأكاديميون، لكنه جاء من تجربة مريرة وملاحقات لا تنتهي تعرض لها في أصقاع الدنيا، كان كل صباح فيها يتأكد أنه مازال على قيد الحياة، جاء من زنازين معتمة عانى فيها الجوع والتعذيب والخوف اليومي.
لكل ذلك كان نشيده الأساسي هو حقوق الإنسان في كل ما فعل وما كتب وما قال، فحين يطبق الاستبدا مشفوعا بتواطء خارجي وداخلي في سوق المصالح، يصبح أقصى ما يطمح إليه إنسان حقوقي أن يخفف الألم ويسلط الضوء عن بعض ما يحدث في تلك الأنفاق السرية الشرسة البعيدة عن كل شعاع.
يقسم الكاتب كتابه ـ الذي أهداه إلى شهداء مجزرة بوسليم الذين عاش مأساتهم عن قرب ـ إلى أربعة أجزاء رئيسة : فترة الاعتقال الأولى من 1973 إلى 1974 ـ فترة الغربة والترحال من 1977 إلى 1988 ـ فترة السجن الثانية 1990 إلى 1997 ـ فترة الاعتقال الثالثة 2009.
ويبدأ عتيقة سرد مذكراته برصد ذلك الحراك الثقافي في الجامعة الليبية حين كان يدرس بكلية الحقوق إبان سني الانقلاب الأولى متطرقا لمفاصل تلك الحيوية الثقافية والسياسية في جامعة بنغازي المشاكسة التي كانت منذ البداية مصدر أرق وصداع للسلطة، وكان الهامش الذي تركه النظام الملكي للعمل الطلابي مجالا للمشاكسة رغم أنه آخذ في التقلص يوماً بيوم.
شارك الكاتب في عديد المحاضرات والندوات، وكتب المقالات التي تنتقد منذ البداية توجه العسكر تجاه سلطة عسكرية مطلقة تحاول أن تلغي كل ما يعكر صفوها أو يشكك في يقينها، لذلك سيرصد تصاعد وتيرة التيار الثورجي الذي بدأ هذه المرة يتشكل داخل رحاب الجامعة عبر تجنيد العديد من الطلاب الذي يحملون نفس أحلام العسكر في التسلط والنفوذ، وكان الصدام حتميا بين تيار وطني مثقف، وتيار ثورجي يقف مباشرة خلف طابور الجنرالات، وتحققت مخاوف الكاتب عبر القبض عليه وإيداعه السجن مع العديد من الناشطين من طلاب وأساتذة ومثقفين، وهو إذ يرصد تلك المرحلة لا ينسى تلك المقاومة للجلاد بالشعر والسخرية داخل السجن . ولاينسى الكاتب ذكر جل الأسماء التي شاركته تلك المحنة وذكر الكثير من الحوارات الوطنية التي جرت داخل المعتقل، والحديث المتشنج الذي جرى مع الخروبي في زيارته إلى السجن والذي أودى به إلى الحبس الانفرادي، حتى تم الإفراج عنه في ديسمبر 1973 وقدم استقالته من نيابة بنغازي لينتقل إلى طرابلس ويشرع في العمل كمحام مستقل ليخض صراعات أخرى عبر تطوعه للدفاع في قضايا سياسية، محاكمة ضباط حركة المحيشي، ومحاكمة الأبشات وجماعة الجبل التي كانوا يسمونها جماعة المفتي. ومع بداية شلال الدم كما يسميه حيث (كان البلد يتشح بالكآبة والحزن ويلتحف بالتوجس والخوف) وبداية تنفيذ أحكام الإعدام بطريقة بشعة في 21 من الضباط بعد أن أجبر أصدقاؤهم على تنفيذ حكم الإعدام بالأمر العسكري، إضافة إلى إعدام محمد بن سعود، عمر دبدوب، وعمر الخزومي في ساحات بنغازي يوم 7 أبريل عام 1977 وتركهم يتأرجحون في المشانق لعدة ساعات.
حينها قرر الرحيل (محاولا الهرب من عرس الدم) كما يقول لتبدأ رحلته مع الغربة والترحال والخوف من رصاصات النظام التي تلاحق الليبيين في كل مكان من العالم.
بدأت الرحلة إلى إيطاليا لإكمال دراسته العليا في القانون الجنائي وبقى حتى تم الزحف على السفارات وبداية التصفيات الجسدية عام 1980 لناشطين في الداخل والخارج، فيمم صوب المغرب في فترة كانت العلاقات بين المغرب وليبيا وصلت إلى حد سحب الاعتراف من قبل المغرب بالنظام الليبي، ويسجل في تلك المرحلة حراك التنظيمات الليبية المعارضة في ظل التوجس من المزاج السياسي للأنظمة العربية ولعبة المصالح والمقايضات الدنيئة، ومع تسرب معلومات عن صفقة تسلم بموجبها حكومة المغرب بعض المعارضين إلى النظام الليبي غادر عتيقة إلى روما مرة ثانية لاستكمال دراسة الدكتوراة (تلك الصفقة التي تم فيها تسليم عمر المحيشي ونوري الفلاح وغيرهم). لتحط به الرحال بعدها في بغداد إبان حرب الخليج الأولى وليعيش هناك مواقف محرجة عندما كانت بغداد تقصف من قبل الإيرانيين بصواريخ ليبية.
أصبحت الأرض تضيق بكل ليبي عارض النظام وغدا الكابوس كما يقول كافكا في كون الإنسان لا يجد مكانا يهرب إليه في هذه الدنيا الشاسعة، وكان الحنين إلى الوطن المختطف يضيف ألما آخر لكل الآلام . ومع الإفراج عن السجناء فيما يسمى بأصبح الصبح بدأت فكرة العودة إلى البيت تلح 🙁 لم أسع إلى وساطة في العودة فحالما علمت أن أمر الرجوع ميسر بلا عوائق في تلك الفترة عدت مع أطفالي ومحبوبة إلى وطن تركته مكرهاً وعدت له طوعا) وهي العودة التي يضعها تحت عنوان فرعي (العودة المحزنة إلى الوطن) وبدأ العمل في مكتبه السابق في مجال الاستشارات القانونية، لكن الشبهة كانت تلاحقه.
بعد أقل من سنة من إطلاق السجناء وفي أوائل سنة 1989 بدأت حملة واسعة لمجموعات كبيرة من الشباب ممن عرفوا لدى الليبيين بشباب السنة وكان الطاغية يصفهم بالزنادقة، فبدأ التوجس من جديد لدى الكاتب، والذي لم يطل به حتى اعتقل يوم 13 أبريل 1990، لتبدأ رحلة السجن الثانية المليئة بالألم والعذاب، والتي عايش خلالها أحداث مجزرة بوسليم الشهيرة وتنفيذ الإعدام في جماعة بن وليد، ليروي الكثير من التفاصيل داخل سجن بوسليم الوحشي، حتى تم الإقراج عنه عام 1997 ليستأنف عمله بمكتب المحاماة بعد أن سمح من جديد بنشاط المحاماة الخاصة.
كيف عرفت سيف الإسلام . تحت هذا العنوان يرصد عتيقة تعرفه على سيف الإسلام الذي طلب استشارته عندما كان يفكر في إنشاء مؤسسة خيرية على غرار مؤسسة (زايد الخيرية)، والتي انبثقت عنها جمعية حقوق الإنسان . والتي من خلالها ركز على الملفات الداخلية، وعلى وضعية السجون الرهيبة، وما يعانيه السجناء في ليبيا من ظروف لا إنسانية، ذلك الجهد الذي تمخض عنه إطلاق دفعات كبيرة من السجناء على رأسهم أقدم سجين سياسي: أحمد الزبير، ليترك هذه الجمعية يوم 20 ـ 3 ـ 2007 وهو يشعر بالرضا عما قدمه كما يقول، ليعرج بعدها تحت عنوان : كيف عرفت العقيد القذافي قبل 1969 .عن انطباعه حول شخصيته وتقييمه لها عندما كان يتردد على شقة صديقه مفتاح كعيبة والذي كان عتيقة يشاركه السكن بها بمميدان البلدية.
بعد تركه للعمل بالجمعية انتبذ مكانا قصيا وانصرفت اهتماماته ضمن نقابة المحامين ورابطة الأدباء، لتعود خيوط مؤامرة جديدة عبر النائب محمد المصراتي وموسى كوسا رئيس جهاز الأمن الخارجي عبر تلفيق تهمة جديدة (متهم بجريمة قتل والانضمام إلى تنظيم محظور) . ليفرج عنه يوم 17 فبراير عام 2009 قبل انطلاق الثورة التي أفرجت عن ليبيا بأكملها بعامين كاملين.
في الفصل السادس (على هامش السيرة .. شذرات وطرائف) يسرد الكاتب العديد من الوقائع الهامة في سياق اقتصاره في كتابة مذكراته على محطات السجن والمنفى، مثل لقائه العاصف مع المقريف والمرحوم أحمد حواس بالرباط، ولقائه بالليبيين الأفغان داخل السجن، وعمر المحيشي قبل جريمة تسليمه للنظام الليبي السابق، وغير ذلك من الوقائع الهامة.
تميز الكتاب بلغته السردية السلسة وتحليله لكثير من الوقائع بروح القانوني أحيانا وبروح الشاعر أحيانا أخرى، وكان ذلك الخيط الذي تمسك به الكاتب عبر مراحل السجن والمنفى هو العشق للوطن وروح والمشاكسة السياسية والقانونية التي لا تتوقف، والتي تظهر في كتابه الملحق بعنوان “أوراق ليبية” صدر عن منشورات حركة الكفاح الوطني الليبي عام 1987 تحت اسم أبوغسان، وهي كما يقول ( أوراق تناثرت على امتداد مساحة الغربة كتبت بمداد القلب وحبر المعاناة وعناء طافح بالشوق) نشرت في مجلة الطليعة العربية الصادرة في باريس، وفي بعض مجلات المعارضة الليبية.
إن كتابة مثل هذه السير مهمة ليست فقط لتوثيق مرحلة هامة من تاريخنا تم التعتيم عليها، ولكن من أجل أن نعرف أين خسرنا وطننا وحريتنا ولماذا؟ وماذا نفعل حتى لا يتكرر مثل هذا الطغيان؟.
قرأت في الوقت نفسه كتاب “أشخاص حول القذافي” لعبد الرحمان شلقم، وكان الكتابان مكملان لبعضهما، شلقم كان يرصد في كتابه حبال المؤامرة التي تدار في المكاتب والفنادق الفارهة، وكتاب عتيقة يرصد ضحاياهم في الأنفاق المعتمة والمقابر السرية، ونتساءل كيف استطاعت هذه العصابة أن تقمع شعبا ليبيا عرف عنه الإباء والعناد لأكثر من أربعة عقود؟ إنها آليات القمع المرضية التي تحللها مثل هذه الكتب وربما كتب أخرى ستظهر، والحكمة من كل ذلك أن نعمل قصارى جهدنا حتى لا تتكرر مثل هذه الحقبة السوداء، نؤسس وطنا لن تؤول فيه المقاليد لشخص واحد سواء أجاء من معسكر أو أو جامع أو أيديولجيا، فهذا العسكري ــ الذي جاء على لافتات طنانة تهتف بالحرية وبالوحدة وبالقرآن شريعة المجتمع وبحروبها المفتعلة على الصليبية والتغني بقضية الوجدان العربي فلسطين ـ كان يؤثث طريقه بالشعارات لينفرد بالسلطة هو وعائلته، ويفتك بكل وجهة نظر أخرى أو نبض، ولذلك لا نمنع تكرار هذه الرغبة الهستيرية سوى بعقد اجتماعي حديث يرسخ لمؤسسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء، مجتمع يحتكم إلى دستور تحميه حيوية الشارع والمجتمع المدني، يتحول فيه الرئيس إلى موظف من الممكن أن يسقطه صحفي أو ينحيه برلمان يمثل كل الناس، فنحن شعب مسلم متدين، لنا تاريخنا ولن يضحك علينا مرة أخرى أحد بشعارات فضفاضة تحاول أن تعطل فعالية الدستور قبل أن يبدأ، سواء عبر دغدغة المشاعر الدينية أو القبلية أو الشرعية الثورية الجديدة التي تحاول تقفي خطا النظام السابق . هذه المرة لن يحكمنا من يعتقدون أنهم أوصياء على الليبيين أو يفكرون بالنيابة عنهم، لأن الطغيان الذي يعد الناس بالجنة قد يأتي بأشكال مختلفة، وأن الفاشية قد تعود في أكثر الأشكال براءة.
تعليق واحد
معرفتى بالسيد د.جمعه عتيقه عائليا ليست شخصيه ،، ولكنى دائما اتدكر يوم خروجه من السجن عام 1997 كانت ساعات الافراج ووصوله لبيته تحتاج لمدكره لى وصف كمية المشاعر الحنين والشووق اتدكر دموعى التى انهمرت لى تلك لحظات الانسانيه التى اراها لا امت لها بصلله سوى انى متفرجه ولكن ثأثرت جدا بها وحفرت بداخلى ،،،اتمنى ان يظل دائما السيد جمعة عتيقه بشخصية المناضل المغامر وان لا تسلبه سياسه بهجة الكفاح