MEO
قلما تجد اليوم أحد المبدعين يقف على الشاطئ الآخر ليعلنها في صراحة لا تخلو من المفاجأة والجرأة أنه يأبى أن يتسم العصر والزمن الراهن ويوصف بأنه زمن الرواية، لكننا كنا على موعد بغير اتفاق لتوقيت الإبداع بشاب مبدع يؤسس في صعيد مصر تحديدا بمحافظة المنيا سلسلة تُعنى بنشر النصوص المسرحية كان هو أول من ينشر بها وهي سلسلة “مسرحيات مصرية للجيب”، أعني وأقصد الشاعر والمؤلف المسرحي شديد الخصوصية والتكوين الأدبي مينا ناصف الذي أصدر مسرحيته “الأسطورة” مطلع شهر يناير/كانون الثاني من هذا العام.
وليس بغرابة على صعيد مصر أن ينهض فيها الأدب والإبداع وجرأة التحدي الباسل والإيجابي، فهذا الصعيد الذي احتضن التوحيد منذ أخناتون، مرورا بالمسئولية الوطنية المتجسدة في السيدة هدى شعراوي، وصولا إلى عبقرية طه حسين عميد الأدب العربي، هذا الصعيد بتكوينه الجغرافي بمقدره أن يتحدى المناخ السائد في الإبداع بإحداثياته وتفاصيله المكرورة والسائدة من خلال شباب واعٍ مستنير من حقه أن يُسمع صوته إلى الجميع، وهذا ما صنعه المؤلف المسرحي مينا ناصف بمسرحيته الأولى “الأسطورة”.
وعلاقة مصر بالمسرح علاقة وطيدة وخالدة، تتزامن في العلاقة التاريخية مع الشام (سوريا ولبنان) حينما كانت مصر ليست فحسب مهدًا رصينا للتأليف المسرحي، بل ومهادا أصيلا للفرق المسرحية التي أحدثت وشاركت الحراك الثقافي في تنوير المجتمع، حيث كان المسرح بجانب الصحافة وجهين لعملة التنوير والتثقيف، وكم كان محزنا لي ولغيري حينما نطالع المجلات والكتب النقدية وهي خالية من أية دراسة أو مقالات على استحياء عن الإبداع المسرحي الذي كان ـ وربما يظل ـ ناقوس خطر في وجه السلطة في الماضي لأنه مَثَّل صوت الشعب، ولأنه شكَّل في فترة تاريخية مضت حكايات الأمم عبر العصور.
وتدور أحداث مسرحية “الأسطورة” والتي يقول مؤلفها عن تلك الأحداث بأنها ساخرة، وغير حقيقية ومن وحي خيال المؤلف ولا تمت للواقع بصلة، محذرا بأن أي تشابه بينها وبين الواقع هو من باب المصادفة لا أكثرـ ولا شك أن هذه عبارة تعادل الثيمة الفنية التي تهرب بصاحبها من النقد والسلطة والهجوم على السواء رغم أن المسرح بطبيعته صوت الوطن والمواطن، ومهما حاول المؤلف المسرحي أن يهرب من شَرَك التناص المجتمعي أو رصد الواقع فسيظل صوت أمته الأبدي ـ تدور في حارة “كل واشكر” بمملكة “إنسا”؛ حيث يعاني أهل تلك القرية من فقر مدقع بغيض، ومرض متوحش، وبالضرورة جهل مستدام، وهي العلل الثلاث التي تعاني منها أية بيئة في طريقها للانهيار البطيء، ورغم ذلك يقهرنا مينا ناصف في نصه المسرحي بأن أحداث المسرحية ذاتها تقع في عام يأتي هو 3090، ولعل ما يقصده أو ما ندعيه نحن في مقصدنا أن المسرحية استشراف لمستقبل آت لا يتعلق بمنطقة وحدها قدر ما يتعلق هذا الاستشراف برؤية المبدع للعالم، تماما مثلما كان يشير إلى ذلك ت. س. إليوت، وفرانز كافكا، و كامو في أعمالهم، كونها محطات استشرافية لواقع قد يجئ.
ولكن بعيدا عن فكرة المراوغة التي لا يستهدفها المؤلف المسرحي في مسرحيته، يشير مينا ناصف إلى ثمة قرارات خطأ وليست خاطئة اتخذها السلطان “خرم الثاني” أحد أبطال مسرحيته أدت إلى ضياع المملكة، ليس هذا فحسب، بل أودت هذه القرارات بالبلاد للتقهقر خلفا مئات السنين، وهو يزعم أن المسرحية تتناول أحداثا في العام 3090 إلا أننا نطالع مشاهد مملوكية مشتتة وممزقة حسب قول المؤلف. وهذا التشتت والتشرذم أدى بالضرورة إلى تذمر أهل الحارة وبزوغ تيارات المعارضة في وجه السلطان، مما دفع الأخير بمساعدة رجاله الأوفياء له الخائنين لأهل الحارة إلى التفكير في القضاء على تلك الأصوات المعارضة.
وثمة إحالة مرجعية مهمة لا يمكننا التغافل عنها، وهي أن الرواية المسرحية تمت كتابتها في عام 2009 أي قبل حدوث الانتفاضة الشهيرة في يناير/كانون الثاني 2011 ضد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وإن كنت أحاول مجتهدا التغاضي عن مثل هذه الإحالات والإشارات إلا أنني لا أستطيع التغافل عنها لاسيما وأن المؤلف مينا ناصف ـ نفسه ـ أقر هذه المعلومة في صدر مسرحيته “الأسطورة” مشيرا لنا بغير قصد مباشر إلى إحالة الحدث والحادثة إلى التصاعد الطبيعي للغضب الشعبي في وجه مبارك ونظامه السياسي والذي أدى في النهاية إلى سقوط النظام بسدنته وكهنته أيضا.
كذلك يأخذنا مينا ناصف إلى ما فعله هذا السلطان المكلوم في تصرفاته وحاشيته أيضا، وهي الحيلة التدريجية التي افتعلها بمحاولته إقناع أهل مملكته ومنها بالتأكيد حارة “كل واشكر” بأن هناك حصارا خارجيا يقبض بكلتا يديه على المملكة، هذا ما جعل السلطان بمعاونة مساعده الذي أطلق عليه المؤلف اسم “الخسيس” في اقتراح استقدام مستثمرين أجانب؛ من أجل القيام بأعمال استثمارية داخل المملكة.
ولكي تكتمل عملية تغييب الشعب بأصواته المعارضة، قام رجال القصر بترويج الحشيش والعمل على انتشاره بصورة متسارعة من أجل وصول الشعب إلى حالة الغياب الكامل والتام، لكن ماذا فعل أهل الحارة صوب تلك الأحداث التي تدور في فلك الشتات؟ بدأ التفكير أول الأمر في البحث عن حلول سريعة أشبه بالوجبات الغذائية التي تم رفدها من الثقافة الأميركية الجاهزة مثل التنقيب عن الآثار وكنوز المملكة أو السلطنة في باطن الأرض.
وفي وسط هذه الأحداث المتصارعة والمتسارعة أيضا بين القهر السلطوي ومكره، والشعب المستسلم لغيابه الاضطراري هروبا من واقعه الأليم، ومعارضة لم تجد مساحة مناسبة لحق الاعتراض والخروج من نفق مظلم طويل، يكاشفنا مينا ناصف بشخصية أخرى في مسرحيته “الأسطورة” وهي شخصية الدرويش، الذي يمثل الوجه المشرق ـ حسب وصفه ـ لهذه المملكة الظلامية والانظلامية، فهذا الدرويش يمتلك مكتبة هائلة ربما تمثل صوت الحكمة والعقل والرؤية في المملكة، وجل هم رجال القصر هدمها للتخلص من رمز الحكمة، وظل هذا الدرويش يدافع عنها حتى رمق أخير وضعيف لكن دونما جدوى لأن التاريخ وفق صيرورة حاكمة يعيد نفسه ويجتر أحداثه بصور متباينة.
وفريق آخر من الشعب لم يتفرغ لنهب آثار المملكة طلبا للحياة، هذا الفريق أخذ على عاتقه التفتيش عن بطل شعبي مثل “علي الزيبق” الذي يمثل أسطورة في المقاومة والمعارضة أيضا، لكن هذه المرة يأتي البطل الشعبي في صورة شخص “نبيل” الذي يحمل اسمه دلالات واضحة للبقاء في وجه طغيان السلطان. وهذا “النبيل” لم يحمل سيفا، ولم يراوغ بحيله السلطان ورجاله كما فعل العبقري “علي الزيبق” بل جاء يحمل كتابا في يده، كتاب “الأسطورة” الذي يحوي بين دفتيه الحلول التي من شأنها تحل مشكلات المملكة المزمنة والمستدامة.
ويكاد يشبه ظهور البطل “نبيل” في أحداث المسرحية ظهور “الزيني بركات” في رواية جمال الغيطاني، من حيث غياب يشاكل الحضور رغم انتفاء الحوار، فهو البطل الذي لا يظهر بجسده بل بأفعاله التي يتناقلها الشخوص، ولعل المؤلف المسرحي مينا ناصف أفلح ونجح في توظيف الشخصية بعدم ظهوره؛ لأنه بذلك جسده ـ البطل نبيل ـ كمعادل موضوعي لفكرة الحرية والعدالة والبطولة والمقاومة، وكل هذه المظاهر تُعاش ولا تُقتنص. ونبيل نفسه يقول على لسان أحد شخوص المسرحية وهو “خليل” مريد أو صاحب “الدرويش” مقولة كفيله بوصفه وتوصيف دوره الغائب الذي يستحيل أكثر حضورا، إذ يقول: “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”.
ونبيل هذا هو وحده الذي يمتلك أو بحوزته كتاب “الأسطورة” الذي يشتمل على كافة السبل والوسائل لمواجهة قهر السلطان وبطشه وظلمه، لذا تظل الحكاية رغم غموضها الممكن قيد القارئ إذ أنه يشارف الحدث الرئيس في المسرحية بوصفه ـ القارئ ـ المالك الوحيد لحق تأويل ظهور البطل، أو تأويل ما يتضمنه الكتاب الذي لم يظهر.
ولم تخل المسرحية من بعض السقطات التي أفضل أن أطلق عليها ـ متجاوزا الحس النقدي ـ الافتعال التهكمي، هذا من حيث تناول القضية المهمة التي طرحتها المسرحية وتناولها المؤلف، أو من حيث الاستعمال اللغوي الذي هرع كثيرا، بل كثيرا جدا إلى لغة تداولية تذكر القارئ بمسرح نعمان عاشور وسعد الدين وهبة ونجيب سرور، وإن كان الأخير نجح في خلق حالة من التوازن الرهب والعجيب بل والمدهش أيضا بين تداولية العامية والعربية الرصينة الفصيحة.
ورغم أن المسرحية تتناول أحداثا في عام 3090، إلا أن المؤلف لم يوفق نهائيا في استحضار شخوصه أو انتقائها بعناية تتزامن مع زمنية الحدث، ففي الوقت الذي نتحدث فيه الآن عن الذكاء الاصطناعي، وعلوم المستقبل، وافتراضية المعارف التطبيقية، نقرأ الأسماء والأمكنة في مسرحية الأسطورة لمينا ناصف والتي جاءت متوازية مع طبيعة المسرحية كونها حدوتة هزلية تميل إلى السخرية أكثر منها إلى الدراما التراجيدية التي قد تدفع القارئ إلى الملل، فالمؤلف استعار أسماء بدت لي عجيبة وقد لا تتناسب من زمنية المسرحية من مثل أسماء: طراوة ـ زعلوك ـ المهبوش ـ خرم الأول والثاني ـ الخسيس ـ الراكب دار ـ الدرويش ـ بلاص.
وإن كانت هناك ثمة دلالة نصية لدى الكاتب دفعته إلى استعمال هذه الأسماء، فمن حق النقد الذي يميل إلى القراءة الإبداعية للنص أن يعلن أن أفق الانتظار لهذه الأسماء لم تتوافق مع حدث وقضية المسرحية، كونها أسماء لا تنتمي لثقافة الذكاء الاصطناعي وعلوم المستقبل والثقافات الافتراضية الكونية التي يتوقع استدامتها في هذا التوقيت.
كذلك فاجأنا مينا ناصف بأمكنة افتراضية بائدة يمكن أن نسمعها في حكايات البيئات التي لم تفطن بعد إلى الثقافة والمدنية مثل ممالك “إنسا”، و”مزيكا”، و”شيكابيكا”، ولربما يمتلك المؤلف حكمة ضمنية يكتم سرها وحده للمجئ بمثل هذه الأسماء لممالك تجئ. وربما مجئ تلك المسميات أتت متوافقة مع الحرف والصناعات التي أوردها الكاتب في سنة 3090 من وجهة نظره فحسب لا من حيث المنطق، حيث صناعة القلل، وتخريمها، واللمبات الجاز البدائية. كذلك استخدامه لعملة الدينار طوال أحداث المسرحية.
الأمر الذي لا بد من التنويه عنه أيضا ضمن المآخذ التي تؤخذ على المسرحية رغم كونها إطلالة ثقافية مستنيرة قد تتصل بأحداث حكم مبارك لاسيما في المشاهد المسرحية التي تصف مشهد ظهور السلطان على شاشة التلفاز والتي تعيد أذهاننا إلى مشهد خطابات الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك الليلية وقت انتفاضة يناير الشهيرة في عام 2011، هذا الأمر هو الدرويش الذي أظنه أو كنت أعتقد أنه يقترب شيئا فشيئا من رجل متدين على الأقل، وإن كان يبدو لنا صوت الحكمة والعقل إلا أن المؤلف تجاوز بصوته بعض حدود هذا الظن النقدي فلقد استخدم “الدرويش” لغة لا تتناسب مع مكانته داخل المسرحية أو بوصفه صوتا للحكمة وذاكرة للتاريخ.
ولكن، يبقى أن نفتخر بالمؤلف والمسرحية على السواء؛ لأن هناك صوتا جديدا من الجنوب في طريقه التصاعدي لاقتحام عالم الإبداع المسرحي صوب العاصمة، ولأنه اختار مجالا قلما بل ندر فيه الإبداع كوننا نحيا منذ عقود ليست بالبعيدة عصر وزمن الرواية، ويبقى لنا أن نتجه صوبه ـ مينا ناصف ـ بسؤال حتمي فرض نفسه بقوة: هل من ضرورة جعلتك مضطرا لاجتناب المرأة في مسرحيتك؟!