من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
قصة

السباحة مع ذكر البط…

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

 

بقعة مائية واسعة وسط غابات البلوط والصنوبر والأرزية والقيقب… يطرّفها شاطئ ضيق.. انهمرت فيها طبقات ثلجية تراكمت بلا هوادة طوال الشتاء القارس، ما أن داهمها دفء الربيع حتى ذابت واستسلمت لمسارها الطبيعي نحو تلك البقعة الواسعة في مجار مائية لا تتحكم في رحلتها… تحررت بعد جمود… تدافعت بعد سكون…وهامت بعد جفاء.. وانسكبت نحو مستقرها.

لم تعتد اجسادنا الانغمار في المياه العذبة.. أملأ فمي، أتذوق زلالها…يقلقني، فأريقه من فمي. داكنة، قاتمة حد الخوف.. يغمض علينا سكانها أو مستوطنوها من نبات وأسماك وحشرات وطفيليات…

أسبح، تقترب مني حشرة طائرة تحوم حولي ترتطم بسطح الماء ثم تفر، أعثر على قوقعة حلزون فارغة طافية، أتوجس من حركة خاطفة قريبة تخلف دائرة سرعان ما تنقبض ويجرفها التيار …

سبحت مبتعدة عن الضوضاء حتى عمّ سكون بعمقها ولم أعد أرى سوى ألوانا تتحرك عن بعد.. فجأة رأيته على مقربة مني، يتحرك بمقدمة جناحيه ويتمايل كراقص تارقي و يسبح في ذات اتجاهي. رأسه دامس كمنحوتة فحم وعنقه الأسود مرصع بنقاط بيضاء كأنها لؤلؤ منثور، و تزينت أطرافه بريش أخضر قاتم.

لم يلتفت اليَ، فيما كنت مأخوذة به وقد استدار رأسي نحوه و تمعنت فيه نظراتي طوال الزمن الذي استغرقته رفقتنا.. يسبح بتؤدة واعتدال كأنه يملك تلك البحيرة و لا يمانع من أن أكون فيها… استغرقني الزهو ونحن نسبح متجاورين على بعد أمتار قليلة. ابتسمت لفكرة أنه حتما يشعر بي لكنه لا يبالي…

تجاوزني.. فتبعته إذ كان مسارنا واحدا نحو الشاطئ البعيد الذي بدا كمغارة وسط الغابات.. شيئا فشيئا بدأت اقتربت من الشاطئ و تبينت لي ملامحه وحركة رواده.. فجأة جفل رفيقي بسرعة واتجه يسارا مبتعدا مخلفا خربشات هادئة، واستمر في سيره الاسطوري الجميل وهو يحرك مجدافيه اللا مرئيين بينما جسده ثابت وطاف على السطح الساكن، ورأسه الاسود مرتفع بخيلاء.

ظللت أضرب الماء بذراعي الواحد تلو الآخر في اتجاه الشاطئ حتى ظهر لي برج المراقبة والفتاة التي تجلس أعلاه تراقب بعيني صقر ما يدور في المنطقة المحددة أمامها.

توقفت لبرهة ألتقط أنفاسي قبل المواصلة، فإذا به يمر أمامي بذات الثقة والبهاء، وهو يتجاهلني ملتفتا نحو الشاطئ وكأنه يراقب رعيته عن بعد.

انتعشت روحي مجددا، وأنا اراوح مكاني، وهمست في نفسي ضاحكة لعله يطمئن عليَ.. راقبته وهو  يواصل سباحته في بحيرته.

ملكا كان، ونحن رعيته.. له البحيرة ومحيطها وأطرافها الصخرية وأشجارها المغمورة في الماء وفروعها المتعانفة وتلك المتصارعة وأوراقها الطافية وتيارها المتعرج.. وما نحن إلا متسللون، عابرون.. سنرتمي على عشب الشاطئ مبللين، ثم نجف ونرحل حين يسيح قرص الشمس و يتخلل رحيقه الأحمر الاشجار المحيطة ويلونها، ويضيء حوافها.

يهبط الليل، يهجع ذكر البط في عراء مملكته يلقي برأسه على جانبه و يخفي منقاره بين ريش جناحه ويغمض إحدى عينيه.. لا يهاجر بقعته إلا متى أذنت له حين تتلون أوراق أشجارها وترتعش ثم تتعرى أعرافها ويكسر بعضها الريح، وينزلق مجدافاه البرتقاليان على جميد مائها قبل أن يغمرها الثلج  فتهمد ويستقر فيها سكون الموت.

________________________________________

14-7-2018

مقالات ذات علاقة

شمروخ في بيتي

المختار الجدال

البنت

المشرف العام

من حصاد ذلك الزمان – الرجل يموت مرة واحدة

يوسف الشريف

اترك تعليق