المقالة

حول الشعر والكلام والمكان. من الصمت إلى الإيقاع المتناغم.

قد يفرض المكان عليك صمتاً، كل المسألة إنك قد تستغله، لكنك وفي أغلب الأحيان، قد تقوضه في البقاء الدائم، ناظراً في الفراغ بفم مفتوح، وقد يسرح عقلك بلا استخدام، يسرح في الفراغ بلا تأمل… عزلة بلا فائدة لا قيمة لها، خسارة كبيرة، عزلة لا يعول عليها، تلك التي تترك لنفسك فيها مساحة من أن تشغلك، بلا أن تشغلها قيد أنملة.

لم يدخل الذباب أفواه الكبار من الكلاسيين، لا امرئ القيس ولا عنترة، ولا ذو الرمة، ولا طرفة بن العبد، أو الحارث بن حلزة، ولا عمرو بن كلثوم، ولا زهير بن أبي سلمى
لم يدخل الذباب فم لبيد بن ربيعة، أو النابغة الذبياني، ولا الأعشى.. ولا عمر ابن أبي ربيعة الرومانتيكي، وإن تباعد عهده عنهم، كل هؤلاء كانوا بنائين عظام، لم يعكر الذباب لا أفواههم ولا لبنهم، بقوا حاضري العقل، وغنوا ثم كتبوا، أو جاء من حفظ ما قالوا، وكتب غناءهم في مجلدات الحكمة.
ليس ثمة عفاريت تملي عليهم، ولا أي هراء، أناس اجتهدت في أن تصنع عصائر شهية من الكلام، لتحارب به مكان خال من أي عمران، ولتغذي به فكر يستهيم مع الفراغ، شعراء كل همهم محاربة الفراغ الممزوج بالسأم، والإنتصار عليه ببناء كلمات فيه، تصبح فيما بعد أهرامات من الفسيفساء المتناغمة في إيقاع سحري، يدلل على عقل.

علق العرب ما رقشه هؤلاء الصفوة، من روائع، لتشهد انتصاراتهم على الخبل والوله والفراغ، بما أنتجوه من موسيقى تتكلم.
هل ثمة حاجة لشرح ما لا يشرح، بإفساده في تفسير من الكلمات الجوفاء؟
لا.. لا أرى داع لذلك، لقد انتصر هؤلاء على الوحش (الوحشة) التي هي أخطر من أية ضواري أخرى حية، الوحشة وحش قاهر لذوي النفوس العالية الحس، وبرغم من أنهم أظهروا دفاعهم بضراوة ضد الوحشة، كانوا من أرق مخلوقات الله بين أناسهم وقبائلهم.

نحن الآن هنا، في القرن الواحد والعشرين، لم تبلغ أحلامنا مرمى ياردة واحدة من مكاننا الذي نقف فيه، فلا عشنا ما عاشوه أسلافنا، ولا تشابهنا معهم في معاناتهم، ولا تطورت أذهاننا بما لدينا، لا شعر مهضوم كتبنا، ولا ركب حضارة ساقتنا إليه أدمغتنا… نحن هنا ننظر في الفراغ، بأفواه مفتوحة للذباب.

يحيى الشعر، بعصارة الشعر وحده، وما عداه هراء.

إليكم مقتطف للشنفرى مطلق عواءه المتناغم في لامية العرب:
فقالوا: لقد هَـرَّتْ بِليلٍ كِلابُنا****فقلنا: إذِئبٌ عسَّ ؟ أم عسَّ فُرعُلُ
فلمْ تَكُ إلا نبأةٌ، ثم هوَّمَتْ****فقلنا قطاةٌ رِيعَ، أم ريعَ أجْدَلُ
فإن يَكُ من جنٍّ، لأبرحَ طَارقاً****وإن يَكُ إنساً، مَاكها الإنسُ تَفعَلُ
ويومٍ من الشِّعرى، يذوبُ لُعابهُ،****أفاعيه، في رمضـائهِ، تتملْمَلُ
نَصَـبـْتُ له وجهي، ولاكنَّ دُونَهُ****ولا ستر إلا الأتحميُّ المُرَعْبَلُ
وضافٍ، إذا هبتْ له الريحُ، طيَّرت****لبائدَ عن أعـطافهِ ما ترجَّلُ

__________________

نشر بصحيفة فسانيا.

مقالات ذات علاقة

طرابلس

ناصر سالم المقرحي

عن جائزة الروائي الراحل الكبير أحمد إبراهيم الفقيه

عبدالله الغزال

راهب المدينة القديمة

المشرف العام

اترك تعليق