-مقتل أكثر من 25 مهاجرا غير قانوني آثر إنقلاب شاحنة بالقرب من مدينة بني وليد -170 كم – جنوب شرق طرابلس.
-مقتل 80 مهاجرليبي قرب سواحل مدينة زوارة نتيجة غرق قاربهم بعرض البحر.
هكذا كانت افتتاحيات الأخبار، خلال الأيام القليلة الماضية، حيث لم يمضي ثلاثة أيام على الحادثة الأولى، حتى تلتها الثانية.. لتسبقها المئات من تلك الصور المأساوية، التي انتهى بها المطاف للتتحول أحلام أولئك البسطاء إلى أشلاء تتقاذفها الأمواج هنا وهناك.
المُرّان.. إنتاج أدبي يضاف للمكتبة العربية، ويسلط الضوء على قضية تشغل الرأي العام، وهي “اللجوء الإنساني” كما وصفها كاتب المسرحية، الكاتب الليبي “معتز بن حميد”.
المسرحية تستند لأحداث القهر الإنساني، التي تجعل الحروب والفقر والبطالة، دافعا لهروب البشر من أوطانهم، غير مبالين بالنتائج، حيث تعرض المسرحية مجموعة من الأشخاص؛ جمعهم القدر من أصقاع الأرض المختلفة، يلتقون في مكان مشترك، وهدف مشترك؛ لقاءهم لم يكون بموعد، لم يرتب له، لم يكن بتأشيرات وجوازات سفر، بل كان بتذكرة واحدة، وهي “البحث عن الحياة الإنسانية الكريمة”.
صدرت المسرحية عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع، تقع في 81 صفحة من القطع الصغير، وتتضمن تسع فصول، كل فصل به من المعاناة ما يكفي.
يشار أن المسرحية تحصلت على درجة التنوية والإرشادة ضمن جائزة الشارقة للإبداع العربي، في دورتها العشرون (2016 -2017)، كما ترشحت ضمن القائمة القصيرة لمسابقة الهيئة العربية للتأليف المسرحي (النص الموجه للكبار) 2017.
المكان والزمان والإنسان..
المسرحية لم تحدد الزمان، ولم تهتم بالمكان ايضا، ولكنها حددت الإنسان الذي هو لب القضية وجوهرها، حيث أن أولئك البشر جمعهم حلم مشترك، في أحد المخيمات التي تخصص لللاجئين في بعض الدول الساحلية، التي تتدفق عليها الآف المهاجرين من افريقيا أو آسيا، المهم أنهم من دول العالم الثالث، التي لا تأبه بكرامة الإنسان، لذا فإنه يظل يبحث عنها خارجه، معتقدا أن الطريق لتلك الوجهة التي اختارها، سيكون ممهدا بالزهور..
يعود تاريخ المعتقلات والسجون إلى بداية وجود الإنسان على هذه الأرض، منذ الألفية الاولى قبل الميلاد، في مصر وبلاد الرافدين، وقد استخدمت لردع المجرمين، بمختلف جرائمهم، بدأت بسراديب تحت الأرض، لتكون بعد ذلك بأسوار حديدية مكهربة، أو أبواب إلكترونية تفتح ببصمة اليد، ولكنها جميعا تتفق في أنها كبح للحياة الإنسانية الكريمة.
وهذا المخيم ؛ كغيره من المعتقلات والسجون الأخرى، الذي ميز بشجرة باسقة، تسمى ” المران ” وهي التي نسجت حولها أحلام اولئك المنكوبين، ولم يخلو من صور مختلفة من القمع والإضطهاد .
كانوا من مختلف الأعمار، والأعراق؛ منهم الشباب؛ الزنجي والقوقازي، وايضا شاب وفتاة من أصول عربية ، عجوز جاءت من أسيا، ومسن من سواحل الأطلسي، وشقراء أوربية لها إدارة ذلك المخيم، أحوالهم متغيرة؛ فمنهم المتذمر ومنهم الراضي عن ما وصل إليه حلمه، الذي انتهى به في هذا المخيم.
أهم مايميز المسرحية منذ الوهلة الأولى هو عنوانها (المُرّان) فهو ينسب لتلك الشجرة التي جمعت أحلام أولئك اللاجئين، لوجودها كأحد المعتقلين داخل أرض ذلك المخيم، وقد جعلت لهم مدادا آخرا للحياة؛ من خلال الاعتقاد السائد بأن ” لحاءها يهدي عمرا مديدا لمن يشربه باستمرار”، لذا فإن ذلك الإعتقاد أعطى لهم بارقة أمل، وحالة من الاطمئنان للمخاطرة.
فصل (قوت الأرض)
يأخذ الكاتب القاريء لصورة الروتين اليومي الذي يعيشه اولئك اللاجئين؛ في مثل هذه الحالات؛ حيث تصبح الخطب والمواعظ تحريضا من جانب، وتنفسيا على الآخرين من جانب آخر.
يصرخ أحد المسنين واصفا؛ أن الأرض من شرقها إلى غربها هي للجميع، في حضور سيدة شقراء وهي المشرفة على المخيم.
يصرخ شاب قوقازي بلهجة غاضبة : نريد الحرية، فطعامكم ليس بديلا لحلمنا بالخروج.
بينما يزمجر أحد الحراس : الأرض التي تنتهك حرمتها، لا تصبح متسعة للجميع.. ويستمر التجاذب في الحديث بينهم _ اللاجئين والقائمين على المخيم – في مشهد يجعل القارئ يتفاعل معه، وكأنه يعيش اللحظة، مع تلك الجموع البائسة.
فصل (الحلم)
في ركن آخر من أركان ذلك المخيم الشاحب؛ تجلس وجوها شاحبة ايضا في بداية منتصف الليل، وهما شاب زنجي ثمل، وعجوز تنظر له بإستغراب عن كيفية حصوله على ذلك النبيذ، ليجب عليها بملل “أنها سرقها”.. هنا يتحول الحديث بين تلك الشخصيتين؛ إلى وصف ما تتبادر به أذهان ممن هم في المخيم من خوف، فهم كما وصف الكاتب على لسان العجوز – وهي أحد شخصيات المسرحية – ” أن الخوف من المجهول هناك، هو من قادهم إلى المجهول هنا “.
ومن خلال هذا الحديث بين تلك الشخصيتين، والذي يسوده التذمر من قبل الزنجي من جانب، وبالفلسفة من قبل العجوز من جانب آخر؛ التي تحاول إقناع الشاب بفكرة الرحيل مع أولئك الذين يرسمون حلما للحياة خلف الوادي.
هنا يضع الكتب صورة معاكسة؛ حيث تظهر حماس العجوز للمغامرة، بينما الشاب يظهر العكس، وأنه باق في هذا المخيم وسينتظر، وهذه حالة جديدة غير رتيبة، مما اعتاده القارئ من حماس الشباب، وحكمة العجائز في مثل تلك المواقف، مما تخلق حالة من التغيير للصورة النمطية التي اعتادها المتلقي..
فصل (جدلية الحب والحياة)
صورة من المشاعر الدافئة، يرسمها الكاتب في خضم ما تعيشه تلك الجموع المكلومة، لحالة من الحب، والحلم، والخوف معا.
فالشاب العربي الذي يحاول تهدئة حال محبوبته التي تتذمر من غياب ما تتطلع له كل أنثى، كالمرآه، ومحاولة الاعتزاز بأنوثتها.
وفي نفس الوقت يتبادلان الحديث حول الحلم المشترك الذي يجمعهم في هذا المخيم، رغم المخاوف التي تسيطر على الفتاة، والشاب المحب الذي يخفف من وطأة خوفها، وأن المران هي الأمل في تحقيق حلمهم، ويجب أن ينتزعوا الخوف الذي يسيطر عليهما.. ينهي الكاتب تلك الملحمة بوعود الرجل للمرأة التي أحبته، وصمود المرأة مع حبيبها، بصورة رومانسية جميلة بين الأمل، وتحقيق ذاك الحلم الذي جمعهما.
فصل (أرقام ممتلئة بالجوع)
مثل كل يوم تشرق الشمس لتبدأ الحياة، وتفتح الأفواه لتقتات مايمكن أن تقاوم به يومها، والمخيم كغيره من الأماكن الأخرى في العالم..
بصورة أنيقة جميلة يصف الكاتب وضع المخيم، ووضع القائمين عليه، وكيف يقومون بعد الأطباق،،لتوزيع الطعام على اللاجئين، وهم يتجاذبون أطراف الحديث فالعمال يعدون الأطباق، بينما ينتقد الطباخ حرصهم الزائد, بأنه لن يجدي نفعا، أمام المحاولات المتكررة للهرب، ويرد الحارس أن محاولات الهروب هي محاولات جنونية، بينما ينقل لنا رأي مشرفة المخيم، بأنهم ينظرون لذلك من الناحية الإنسانية، بعيدا عن أي تفكير امني.
ويستمر نقل الجدال بين الحارس والطباخ والأجنبية مشرفة المخيم؛ بشكل يعرض للقارئ تعاطف طرف، ومشاكسة طرف آخر، بينما الطرف الثالث يدعي الإنسانية بشكل ظاهري فقط..
زاوية أخرى تعرض معاناة أخرى لللاجئين؛ تبدأ عندما يبدأ تناقص عدد الأطباق التي تدلل على زيادة المضربين عن الطعام،،هذه حالة معتادة في مثل تلك المعتقلات كصورة من صور التذمر..
فصل (مونولوج التأمل)
بطريقة أخرى بها من السرد الكثير، على لسان صاحبها وهو ” الكاتب ” الذي يعد أحد الشخصيات التي تحاصر في ذلك المخيم البائس، حيث يعرضها لنا الكاتب بن حميد بصورة حديث النفس للنفس وتوبيخها ايضا؛ تتعدد فيه الأسئلة؛ وتختلف فيه الإجابات، وتتنوع فيه عبارات التذمر والوجع..
فتارة يتحدث إلى نفسه بأنه أداة جامدة، وتارة أخرى يصف نفسه كأنه شجرة، أو فزاعة طيور هرمة، ويرى أن ما حوله يكبر وهو يصغر مختزلا الغروب, وتصحر الأرض، كصورة من تلك الصور.
ويستمر القاريء مستشعرا ما تعيشه تلك الشخصية المعتضة المتمردة في تلك البقعة؛ بشكل منمق لا يخلو من البؤس الإنساني، فهو يرى أن الطبيعة متحركة وهم جامدون، وأن شكواهم لا تجدي نفعا، وأن حتى احلامهم أصبحت قاسية في وجود من سلبوا حريتهم، متسائلا ” كيف يحتجز إنسان بدافع الأنسانية واللجوء ؟ ” وأن ينتهي المطاف بإنسانيتهم في سجن اجتماعي كبير.
يستمر تذمره لاعنا وساخطا لمن يدعون أنهم عباقرة العصر، ليعرج بعد ذلك إلى أوراقه التي تحمل حروفه وكلماته, والتي هي زاده متسائلا هل لها آثرا على الواقع، كما كان لها آثرا على بياض تلك الأوراق.
هنا يأخذنا بن حميد لزاوية أكثر عنفا؛ في شخصية هذا اللاجئ، حيث يثور على ماجادت به قريحته ويرمي بأوراقه، في صورة تجعل المتابع يشعر بتمرد تلك الشخصية الحالمة التي سعدت بما قامت به، كوجه آخر من وجوه الانتقام للذات.
فصل (تدابير آخر الليل)
في هذا الفصل تبدأ رحلة ألا عودة؛ حيث يبدأ لقاء أولئك الحالمين برحلة الخلاص، لأرض ما بعد الوادي، التي تفرش فيها الاحلام الوردية، كما يعتقدون..
يبدأ الكاتب وصف ذلك اللقاء بأنه لقاء معتما، يجمع خمس شخصيات، في زاوية مظلمة بآخر الليل، يتقاسمهم القلق والخوف معا، قلق من حارس المخيم الذي قد يكتشف أمرهم في أي لحظة، وقلق تلك الرحلة مجهولة الوجهة.
الكل يطمئن من حالة القلق الأولى وهو –الحارس-، لتبدأ رحلة أخرى وهي الاستعداد لمواجهة المجهول، فأحدهم محبط، والآخر يكابر من أجل أحلامه، والثالث يرى أن يتحدى الموت بالموت، بينما يراه آخر أنه خرج من الموت ليدخل إليه من جديد، بينما يتحدى آخر أصدقائه معللا ” بأنه لابد من دخول رحم الحياة هناك؛ كي نولد أنقياء في مكان صحي “..
هنا رسم كاتب المسرحية بخطى دقيقة؛ بين حالة الذعر والأمل التي تنتاب البعض في مثل هذه المواقف المصيرية، حيث أن المسافة بين الحلم والأمل ” كشعرة معاوية “.
ينقل بعد ذلك تراجع بعضا منهم، وينقص العدد من خمسة إلى أربعة مخاطرين، حيث أن أحداهم ترى أنها لا تريد مفارقة الحياة، رغم مرار العيش وضنكه، وبالمقابل هناك من يرفض هذا الاستسلام، وهذا الخنوع، حيث يرون أنهم فرصتهم الأخيرة للحياة..
فصل (حزن لا يعرف الخوف)
يأخذ الكاتب القارئ إلى ركن آخر، وحديث آخر، في تلك البقعة الملعونة بخيبات الأمل؛ من قبل من يقطنون بها.
شخصيتان؛ أحداهما من الماضي “-شيخ مسن -، والآخر من الحاضر –شاب -، يتجاذبان أطراف الحديث؛ حول أولئك المغامرون الذين يستعدون للهروب، مستعينين بجذع شجرة لا يعلمون أين سيقذف بهم..!
بينما المسن يستغرب عدم مشاركة الشاب لأصدقائه تلك المغامرة..!
لكن الشاب يرى أن مايقومون به مغامرة ” ستلقي بهم في واد وعر ومهلك “، وأنه ضربا من الرعب والهلاك.
رغم أن المسن جمل عباراته بعظماء التاريخ ومغامراتهم، لتحفيز الشاب، بينما الشاب يضف أنه من الحمق الإنتحار تحت أي مسمى للوصول إلى حرية الحياة، لأن الموت هو ماينتظرهم، تغضب تلك الكلمة المسن، ليرسم لنا الكاتب توافق الموت مع الظلام، من خلال إنطفاء المصباح بيد المسن في تلك الخيمة.
فصل (رحلة بلا بداية)
يشرق الصباح، ويتجمع كل من بالمعتقل، وأصواتهم تعلو بكلمات ساخطة، على وضعهم في المعتقل، الذي تفوق بشاعة التعامل فيه، معاملة السجناء السياسيين.. كما وصفوها.
يصف الكاتب بهذه البداية كيفية رد الفعل لأولئك البؤساء عند سماع خبر وفاة أربعة من أصدقائهم، حيث تتعدد تلك الردود؛ بين ظلم، وعذاب مرتب، وقبر دنيوي، و تفرقة، و… و… إلخ.
وفي المقابل فإن من يديرون شؤون المخيم من حراس ومشرفة المخيم؛ يرون من جانب؛ أن هذا ليس بمكانهم الصحيح، وأنهم يتعاملون معهم إنسانيا، ويسعون لحمايتهم..
ووسط همهمات البعض وبكاء الآخرين،وومنهم العجوز التي تراجعت عن مرافقتهم، ينادي الطباخ بحمل طعام الإفطار، وبصورة مؤلمة للقاريء ينسج الكاتب ومضة، وكأنه يشاركهم أحزانهم، وعلى لسان الطباخ ” عدد الصحون كعددها الليلة البارحة.. لكن انقصوا منها أربعة “.
فصل (العشاء الآخير)
تختتم المسرحية فصولها، بصورة مأساوية؛ لمثل تلك الرحلات، التي تجمع بين الحماس، والخوف والتردد، وعذاب الضمير، يلتقي الأربعة مودعين تلك الأرض بعشاء أخير، وكأنهم يقتاتون لرحلة طويلة، بين المياه التي تنتظرهم، لتغوص تلك الأجساد، وتنتهي حياتهم ،مودعة ذلك الأمل على تلك الأرض الموعودة ، التي رسموا فيها أحلامهم، ليأخذهم ذلك الجذع من شجرة “المران” إلى عالم المجهول، في قفزة يمكن ان توصف بأنها “قفزة الموت”..
تعود الحياة بهدوئها وسكينتها، لا تتغير مجرياتها التي ألفها الناس كل يوم، فعتمة الفجر لن تطول، فسرعان ما تخترقها شمس الصباح؛ الأشجار ثابتة، الحجر صامد، والحالمون رحلوا مع رحلة الحياة، وموت الضمير الإنساني. هذه الرواية تنقل واقعا، يتكرر كل يوم، رغم إختلاف جذع المران في كل مرة.