من أعمال التشكيلي صلاح غيث.
تشكيل

بورتريهات ليبية

البورتريه يعني في الفن التشكيلي رسم الوجوه وهو جزئية من جزئياته وتفرعاته الكثيرة وهي جزئية هامة بقدر أهمية باقي الجزئيات إذ ينبغي على الفنان لا سيما في بداياته أن يتعلم رسم الوجوه لناحية أنها تحتوي تقريبا على كافة ما يحتاجه المرء ليكون فناناً من معلومات أساسية في الفن التشكيلي، فمن خلال رسم الوجوه يُفترض أن يتعلم المبتدئ أساسيات الضوء والظل وحدود المنظور والأبعاد وكذلك أساسيات التشريح ودراسة تجاور التفاصيل وعلاقة القرب والبعد فيما بينها وقياس درجة الأتساق والتناغم بين مكوناتها ودرجات الألوان، إلى جانب استبطان الشخصيات المرسومة وجوهها، باعتبار أن كل ما نريد معرفته عن شخص، يرتسم على الوجه، ولهذا يقال عن المقالات الأدبية التي تهتم بتشريح شخصية معينة أنها رسمت لها بورتريهاً إذ أحاطت بها من الداخل والخارج، وعلى الفنان من خلال التركيز أن يتعلم هذا الحدس وهذه الخبرة من خلال رسم الوجوه ونقلها عبر وسائله إلى الأسطح المعدة لذلك سواء استثمر في ذلك الأقلام أو الألوان أو حتى المواد الأخرى المختلفة مثل الرمل والمخلفات التي يُعاد بطريقة أو بأخرى تدويرها أو أية مواد أخرى لا يعجز الفن على اختراعها كل مرة واستغلالها فنياً، وكل رسم لوجه هي في حقيقة الأمر محاولة للنفاذ إلى أعماق الشخصية وملامسة الجوهري والقصي فيها بغاية فهمها، لذا على الفنان أن يجيد قراءة الوجوه عامة والوجوه التي يبتغي رسمها بوجه خاص واكتساب ذاك الحدس والقدرة على تشريحها أنطلاقا من الخارج إلى الداخل وبالعكس عدته في ذلك التأمل العميق والكثير من الصبر والإرادة.

والمهم في العملية بالنسبة للفنان إلى جانب الأستعانة بالصورة تعلم أو تدريب اليد على الرسم المباشر للوجوه والتقاط أهم سماتها وما يميز كل وجه عن الوجوه الأخرى، وسيكتشف الفنان بعد تحصيل خبرة معتبرة، الأختلافات بين وجه وأخر والتي قد تكون طفيفة وغير ظاهرة تخفى على العين الغير مدربة كما في حالة التوائم، وكذلك التعود على الرسم من الذاكرة بعد استحضار الوجه المراد رسمه وتجيير الخيال الخلاق للفنان في هذه الناحية، وفي كل الأحوال ليس مطلوبا من الفنان النقل الحرفي للملامح، بل يكفي التقاط أهمها لتبيان ما يفرق بين وجه وآخر، إذ أن رسم الوجوه مرحلة لابد للفنان من أن يخوضها، هذا إذا ما أراد حقاً أن يصقل موهبته ويصل إلى مراتب أعلى فنيا.

من أعمال التشكيلي صلاح غيث.
الصورة: عن الفيسبوك.

وقد تعاطى هذا النمط من الرسم في مرحلة من المراحل الكثير من الفنانين منذ بدايات عصر النهضة وحتى الوقت الحالي وإذ نشير إلى ذلك لابد أن يتبادر إلى الذهن دافنشي ورائعته الموناليزا، وللفنان الإيطالي موديلياني طريقته الخاصة في رسم الوجوه التي جسد منها على القماش وجوه المقربين منه، وكذلك فعل من بعده فان جوخ الذي رسم نفسه أكثر من مرة، وصولا إلى الفن المعاصر الذي قدم من خلال بيكاسو لوحة وجه متميزة تمتزج فيها الخطوط المستقيمة بالزوايا الحادة بالألوان وفق ما اصطلح على تسميته بالتكعيبية متأثرا في ذلك بعدة روافد من بينها الأقنعة الأفريقية التي شدته وسحرته بقوة تقاطيعها وعمق خطوطها ووضوح تعابيرها، هي التي أقرب للفطرية من أي شيء آخر رغم أن جذورها تمتد إلى معتقدات غيبية ماورائية، ولا نجد من العدل ونحن نتحدث عن هذا الموضوع ألا نحيل إلى تجربة الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو التي رسمت العديد من البورتريهات لوجهها كمقترح منها لتوثيق حالاتها النفسية المتبدلة بتبدل الظروف وتصوير ألامها وأفراحها، أو لعلها من حيث لا تدري كانت تنزع نحو الخلود هي التي ماتت في عمر قصير نسبيا بالنظر إلى عشقها للحياة وتقديسها والأحتفاء بلحظات البهجة التي تتيحها، غير أن مسحة الواقعية السحرية التي تغلف اللوحات تمنحها بُعدً تخييلياً وتضفي عليها من دلالاتها الواسعة.

ولابد من الإشارة قبل هذا وذاك إلى ما تركه الرومان من لوحات فسيفسائية تحتوي الكثير من الوجوه على جدران وعلى أرضيات قصورهم وفي دور أثرياءهم وفي مجالسهم، وما وضعه الفراعنة انطلاقا من دوافع دينية في المقابر والمعابد أسَّسَ لهذا الفعل الإبداعي الذي أخذ ينزاح قليلا قليلا عن وظيفته الغيبية ليدخل في إطار الفني والجمالي والتعبيري كما نجده اليوم.

وعلى المستوى العربي لاحقا تميز بعض الفنانين في رسم الوجوه في مصر وفي لبنان وفي تونس، وزاد من انتشاره هذا الفن ورسوخه إقبال الأثرياء وأفراد الطبقات الأرستقراطية على رسم وجوههم ووجوه أبناءهم وزوجاتهم في مصر تحديدا، هذا بالإضافة إلى ما أنجزه الفنانون الأوربيون الرحالة في مصر وفي الشام وفلسطين والجزيرة العربية قبل ذلك، ممن سحرتهم من ضمن ما سحرهم في الشرق الذي اعتُبِرَ إلى ذلك الوقت غامضاَ وساحرا وأسطورياً، وجوه سكانه التي لفحتها الشمس وطبعتها البيئة بخشونتها، والرسم كان أحد الطرق التي ساعدت الغربيين على فهم الشرق وتذوق سحره وفض شيئا من غموضه.

أما في ليبيا التي تأخر فيها رسوخ الفن التشكيلي في صورته الحديثة بالمقارنة مع دول الجوار، فقد تعاطى هذا النمط العديد من الفنانين كلٌ حسب طريقته وأسلوبه وتأثراته، وإذا ما تجاوزنا البدايات وصولا إلى فناني اللحظة الراهنة، نجد الفنان أحمد غماري الذي اختار مثلا أن يرسم الوجوه كما هي تماما أو بواقعية قصوى، لاسيما تلك التي انجزها بأقلام الفحم والرصاص لكي يحافظ على الدقة التي يعمل على إبرازها حتى أن الناظر إلى بورتريهاته تشده بحيويتها وبنظراتها التي يتخيل لوهلة أنها تكاد تخترقه وأن ما يراه أمامه أكثر من مجرد لوحة لأن شخصية صاحبها تتجسد فيها حتى أن الناظر لبرهة قد يعتقد أن باستطاعته تبادل الحديث معها وأن النظرات الموجهة نحوه من داخلها كسهام حارقة تحمل الكثير من التساؤلات والتوق للبوح وهي في انتظار من يبادلها توقها وبوحها المكتوم وبعضها ينافس صورة الكاميرا بل أنه يتفوق عليها أحيانا، في حين أتجه الفنان عبدالرزاق الرياني إلى ذات المنحى ورسم الوجوه بحرفية وواقعية عالية بالإضافة إلى أقلام الفحم، بالألوان المائية والزيتية، غير أن تركيزه على الجانب التراثي في شغله غلب على أو بالأصح غطى على جانب رسم الوجوه، إذ غالباً ما يرسم الوجوه مع إبراز الأزياء والفضاءات التراثية، وذلك يجعل اللوحة تميل قليلا إلى نواحي أخرى وتشتت المتلقي عن تأمل الوجوه وقراءة ما وراءها، أي أن الفنان تقريبا لم يرسم لوحة بورتريه خالصة، هذا إذا ما استثنينا تلك اللوحات التي وضعها لوجوه الأطفال.

ومن جهته برع الفنان صلاح الشاردة في رسم الوجوه هو الآخر بطريقة واقعية، فيما بدت بعض الوجوه التي رسمها بألوان الأكريليك مصقولة إلى حد بعيد وناعمة لا تعكس إلا نعومة حياة أصحابها والرفاهية التي يعيشون فيها، أو هذا ما توحي به على الأقل، حيثُ الوجنات الوردية تصطبغ بحمرة النعمة وبحبوحة العيش والقسمات مسترخية تماما، بل أن الأبتسامة الطفيفة التي تظهر بها الوجوه لا تشي إلا بالرضا التام والتصالح مع الحياة، مع أن بعض الوجوه لشخصيات متوفاة، وبدت البورتريهات في أحايين أخرى كصور الديجيتال أو تلك المُعالجة ببرامج الحاسوب الحديثة جداً واجتازت عدة فلاتر ومصفيات قبل أن يقع عليها نظر المتلقي، وذلك يُضفي عليها بعض الأصطناع أو الأفتعال ويجعلها تفقد صفات التلقائية والفطرية التي هي من أهم اشتراطات نجاح العمل الفني عموما والوجوه خاصة، وطبعا لا يعني هذا أن الشاردة ليس فنانا قديراُ، وفقط عليه الأنتباه إلى هذه التفاصيل البسيطة والدقيقة، بل أن بعض الخشونة والندوب وحتى إظهار مسام البشرة إضافات تجعل من اللوحة اكثر واقعية وتبتعد بها عن سياقها الرومانسي الذي استنفده الفنانون أو استنفدته الحياة بالأصح، ولاشك في أن هذا يساعد على التقليل من ايحاءات بأن الوجوه تعود لأناس ارستقراطيين منعمين وتنزل بهم إلى أرض الواقع، وتبتعد باللوحة في ذات الوقت عن الرصانة الأكاديمية.

من أعمال التشكيلي صلاح الشاردة.
الصورة: عن الفيسبوك.

أقول ذلك وأقصد بورتريهات الموسيقار الليبي كاظم نديم والكاتب رضوان أبوشويشة والملك ادريس والصادق النيهوم التي رسمها الشاردة ونشرها على صفحته بالفيس بوك، والتي سنحاول إرفاقها بالمقال حتى يكون القارئ على بينة.

وتُشي اختيارات الفنان صلاح الشاردة بأنه قارئ للأدب الرفيع ومتابع جيد له إلى جانب شغفه بالموسيقى برسمه للكاتبين الصادق النيهوم ورضوان أبو شويشة والشاعر علي صدقي عبدالقادر والموسيقار كاظم نديم مثلا، فالفنان لا يرسم إلا ما يحب أو يٌفترض ذلك، وهذا النوع من الرسم يفضح لا شك ذائقة الفنان ويرسم بعض حدودها ويشي ببعض ما يهوى ويحب، ويؤكد هذا بشكل أو بآخر نظرية تضافر الفنون فمثلما يحب الموسيقار الفن التشكيلي والأدب على سبيل المثال لا بد أن يميل الفنان التشكيلي بدوره إلى الموسيقى وقراءة الأدب، وهذا هو بالتحديد ما يفعله الاديب مع بقية الفنون التي اسهمت ثورة الأتصالات الحديثة في أنتشارها، فما ينقص من فن تكمله الفنون الأخرى، إذ نجد في الموسيقى ما لا نجده في الشعر والرسم ونجد في الرسم ما لا نجده في الموسيقى والشعر وهكذا دواليك.

ورسم الفنان بشير حمودة الذي لا نزعم أن لدينا اطلاع عميق على تجربته، الوجوه بطريقة نكاد نقول أنها خاصة به، وبدلاً من أن يذهب إلى رسم الوجوه مباشرة فضَّلَ الأنحراف عن ذلك ورسمها برؤيته الخاصة، والوجوه التي أغلبها تعود لشخصيات أنثوية، مُحددة بخطوط طولية وعرضية عريضة وبزوايا حادة بحيثُ بدت كما لو أنها وجوه تكعيبية تعود جذورها إلى بيكاسو وبعض رواد التكعيبية مع مراعاة اختلاف البيئة التي رسم فيها هؤلاء والبيئة التي رسم فيها بشير حمودة وباختلاف الثقافات وباختلاف ملامح الوجوه المرسومة أيضاً، وبدا الفنان بهذا الفعل كما لو أنُه يؤسس لتكعيبية ليبية خالصة، وساعد الفنان في التحكم في مُنجزهُ أنهُ يرسم على الورق الأسود بألوان التمبرا، وفي حالة الفنان بشير حمودة على المتلقي أن يجتهد في التقاط الملامح أو تفكيك العمل الفني في محاولة لتأويله والفوز بمعانيه الغير ظاهرة وعليه التعامل مع اللوحة ومساحاتها اللونية بشيء من الجدية لا كما يتعامل مع الرسم الواقعي الذي لا يحتاج إلى تأويل، وكثير اجتهاد من المتابع.

وبلوحاته ذات المقاسات الكبيرة نسبياً رسم الفنان جمعة الفزاني الوجوه بلون واحد هو البُني وبدرجاته المتفاوتة واللا نهائية التي تبدأ بالباهت والخفيف والفاتح وتتدرج حتى تصل الغامق وشديد الدكنة مُظهِراً ومُبرِزاً الظِلال والأضواء التي تمنح اللوحة بُعدها الفني وعمقها التكويني وقوتها كمُنجز بصري مُقنع، ولعله باختياره لتقنية اللون الواحد المتدرج والمتماوج ما بين الدكنة والخفوت أراد النأي بلوحته عن المسار التزييني والتجاري الذي إذا ما وُصِفت به اللوحة فإنها تفقد الكثير من قيمتها كعمل فني، وراعى في ذلك الدقة والألتزام بالواقعية، ولم يُركز في الوجوه التي أختار رسمها ومحاورتها فوق البياض على وجوه بعينها ورسم الوجوه المغمورة وغير المعروفة كما رسم وجها لشخصية مشهورة هي شخصية الشاعر الليبي الراحل أحمد قنابة، وإلى ذلك لم يكتفي بالرسم باللون الواحد لأن لديه تجربة للرسم بالألوان الطبيعية في السابق ودائماً في إطار المدرسة الواقعية الصرفة كما لو أنه أراد فقط تقديم شخصيات لوحاته للرائي والأحتفاء بها وإظهار جماليات تقاطيعها ومحاولة نقل إحساس المتعة الذي عاينهُ عند الأشتغال عليها والأستمتاع بها للمرة الثانية لمَّا تلاقي استحسان المتلقي، ذلك أن اللوحات لا تعكس برأيي إلا هذا الجانب ولا يمكن قراءتها وتأويلها إلا وفقا لهذا المنحى، واللوحة ليس لديها ما تقوله أكثر من ذلك، وهذا سبب كافي باعتقادي لأن يجعل منه أثراً فنياً راقياً بالأستناد إلى نظرية الفن للفن، ومراكمة الجمال في هذا العالم البائس عمل لا يقل روعة عن أي عمل إنساني آخر، هذا إن لم يكن عملاً بطولياً، مثلما تجدر الإشارة أن للفنان تجربة أخري لرسم الوجوه وبدقة عالية بالتنقيط بالحبر الصيني الأسود بالأقلام ذات الرؤوس الدقيقة المخصصة لذلك وللإستعمالات الهندسية.

وتبدو وجوه الفنان جمال دعوب التي أبرز فيها مهارته في النقل الحرفي للواقع هي الأخرى مصقولة ولامعة سواء رسمها بالألوان الزيتية أو بالباستيل ” الألوان الطباشيرية ” أو بأقلام الفحم، وهي لا تتجاوز في مجملها وجوه الطوارق وسكان الصحراء الليبية بعمائمهم الملونة ذات الطيات والثنايا الكثيرة والمتداخلة، بجمالياتها العالية اثر سقوط الضوء عليها، فالفنان يبدو مأخوذا برسم هذه الألتفافات والتجعدات التي تتكون على ظاهر القماش المتزمل به أصحاب البورتريهات، وليس نحن من يقول هذا بل لوحاته العديدة التي تحتوي على هذه المفردة التشكيلية، وغالبا ما اجتذبته تلك الوجوه التي تحمل قدراً من السمرة ليرسمها ويُشرحها بريشته، ودائما كجُل فناني البورتريه الليبيين تبعا للأسلوب الواقعي في الرسم والتشكيل.

بينما يختلف الفنان صلاح غيث بألوانه المكثفة في أسلوبه لرسم الوجوه عن كل من سبق استعراض تجاربهم، بدءاً بوجوهه التي تعود لشخصيات ليبية قريبة منا ونجدها في كل مكان حولنا تقريبا في السوق وفي الشارع وفي الدوائر الحكومية، وتلتقط ريشته المُدربة التجاعيد والخطوط الغائرة المرتسمة على الوجوه مُظهِرة أثر الزمن وتعاقب السنون عليها، والفرشاة هنا في حركة سريعة ذائبة ولا تهدأ إلا بعد تجاوز البدايات والحصول على الأثر والأنطباع المطلوب والمتوخى، وبلمساتها الخاطفة والجريئة والنهائية التي لا تعتمد على الالوان الفردية الأولية الصريحة وبألوانها المتراكمة على الوجه تحاول اقتناص الأنطباع الذي ارتسم في ذهن الفنان، ذلك أن الفنان صلاح غيث لا يتقيد بالواقعية المحضة وإنما ينزاح بلوحته إلى الأنطباعية وليس من المهم عنده وهو يراكم طبقاته اللونية على السطح بكثير من الفطرية ويضع اللون مع اللون واللون فوق اللون ويكثف من رؤيته أن يحصل على نتيجة مباشرة وواضحة للوجه بقدر ما يهتم برسم انطباعاته عنهُ أو رسمه كما يراه هو من زاويته وليس كما هو في الواقع أو كما يريده المتلقي المتكاسل الذي يميل إلى اللوحة الجاهزة التي لا تحتاج إلى إعمال الفكر، وإذ يرسم الفنان الوجه ويستغرقه هذا العمل ويركز على تثبيت انطباعاته عن الموضوع يبدو كما لو أنهُ يرسم موضوعاً آخراً لا علاقة له بالوجه الذي يباشر رسمه لأن الوجه لا يعود كما هو بعد اشتغال الفنان عليه وإدخاله لمختبره مع أن الملامح هي ذات الملامح والتفاصيل هي ذات التفاصيل، ويبرع الفنان في استخدام الألوان الزيتية والمائية الثقيلة، وعند نقطة معينة لم تعد الألوان تلبي حاجة الفنان، أو أنهُ أراد لتجربته مزيدا من الزخم والثراء والتجريب والتوسع فاتجه إلى رسم الوجوه المحيطة به بأقلام الرصاص ووضع لوحات عدة لأصدقائه من الفنانين ومن العامة والناس العاديين، وكما في الزيتي والأكريليك نرى الفنان لا يلتزم بالخط العام ولا بالأسس المتعارف عليها أكاديميا ويكاد القلم أن يتحول بين أصابعه إلى أداة خلق وابتكار بحركاته السريعة وخطوطه الواضحة وخربشاته الواثقة قبل تدخل الممحاة لتُضيء جهة ما أو لِتُحدث انطباعا معيناً بإزالة بعض الخطوط والتخفيف من دكنة بعض المساحات، وغالباً ما يكون هذا التدخل الضروري في حدود ضيقة، وبلمسات ماهرة يشطب الفنان خط هنا وظل هناك حتى يستوي البورتريه الذي فيه من الواقعية شيء ومن الأنطباعية شيء ومن روح الفنان وخصوصيته شيء آخر، وهنا الحرية الممنوحة للفنان أكبر وأوسع منها في الواقعية المحضة، بيد أن هذا الأسلوب يحتاج إلى حرفية عالية وخبرة طويلة يكون الفنان قد تحصل عليها بعد طول ممارسة ومران وتعويد اليد على الحركة السريعة، وبهذا يقل حتى الوقت الممنوح لإنجاز اللوحة بعكس الأساليب الأخرى التي تأخذ وقتا أطولاً، ولكي يطور من أدواته على الفنان أن ينسى ولو مؤقتاً ما علمته أياه الدراسة إن كان قد التحق بها ويتعلم من الحياة والواقع اللذين فيهما ما لن يجده في الكتب وعلى المقاعد.

وجوه الفنان معتوق ابوراوي الذي تجاوز المرحلة الواقعية وهو الآن يتحرك داخل مرحلة تتسم بالتجريد تختلف كلياً عن كل الوجوه السابقة، وجوه بعضها مغمضة العينين كما لو أنها تكتفي بما رأت من هذا العالم أو تحتج على قبحه المتفاقم، كما لو ان الشخصيات – سواء كانت رجالية أو نسائية – هنا مكتفية بما داخلها ولا تحتاج للخارج إلا بالقدر الذي تستزيد فيه من قيم الخير والجمال، وبما أن هذه القيم غير متاحة في الواقع المنظور لا تجد داعٍ لأن تفتح عينيها لترى ما لا يسرها، وكأن لسان حالها يردد ما جدوى الأنخراط في هكذا عالم لا يحتفي بالجمال ولا يحث على الأتساق، والوجوه هنا تحمل شيئا من الفنان الذي يحاول بما يمتلك من ألوان وخيال أن يصلح من حال العالم، سوى أن الخراب أكبر من أن يُرمم، وهنا الفنان لا يفعل أكثر من أن يغمض عينيه وفي خياله عالم اجمل قد يلوذ به، يفعل هذا بدلاً من أن يصرخ في وجه الخراب كما فعل إدوارد مونش التشكيلي النرويجي ذات لوحة، والإغماضة تلك طريقة من طرق الأحتجاج وإلا فبماذا نستطيع أن نفسرها.!.

وجوه أبوراوي، تلك التي ينجزها بألوانه المائية الثقيلة والشفافة لا تحمل ملامح معينة وهكذا هي لا تخص إنسان بذاته وتخص الكل في نفس الوقت، ذلك لأنها بملامحها المشوهة والمضخمة وبألوانها التي لا تنتمي للألوان الطبيعية للوجوه – وجوه زرقاء وأُخرى مبقعة بالأخضر والأحمر – والتي ينجزها على عجل كما لو انها اسكتشات أو تخطيطات أولية وبضربات حاسمة وتمريرات من الفرشاة العريضة دونما كثير تخطيط ودون اكتراث بالتشخيص، وجوه ما أن تأخذ مكانها فوق السطح حتى تبدأ في محاكمة ومساءلة العالم المشغول بتكرير الخواء.

الفنان التعبيري الذي يبدو وإلى حد بعيد مشغولاً بهموم العالم ومتعاطفا مع فئاته المطحونة، ويدل على ذلك تناوله تشكيليا لمأساة المهاجرين الغير شرعيين الذي يبتلع البحر الكثير منهم في محاولتهم للعبور إلى الضفة الأخرى، حيث فرص الحياة أفضل وهربا من الموت المحتوم بفعل الحروب والمجاعات والاقتتال إلى الموت المحتمل، وحتى عندما تكون فرصة الحياة لا تتجاوز الواحد بالمائة مقابل التسعة وتسعون بالمائة الباقية التي ترجح كفة الموت، لا يتأخر هؤلاء في الانحياز لخيار الواحد بالمائة ويبادروا بركوب الخطر، والفنان إذ يرى ويسمع عن هذه المأساة المتكررة كل يوم، لا يستطيع السكوت وإدارة ظهره في لا مبالاة، وإلا فما قيمة الفن إن لم يكن في خدمة الحياة، منحازا للمحرومين من حقوقهم الطبيعية وما قيمة الفنان إن لم يُسخر فنه للفت انتباه من لا ضمير لهم والمتاجرون بحياة البشر للتقليل من منسوب الخراب وكبح القبح، يفعل الفنان هذا الذي يرى أنهُ واجبا إنسانيا في ظل الشعور الجمعي بعدم قدرة الفن على تغيير الواقع إلى الأفضل، فكل المؤشرات تحيل إلى الإحباط والاستسلام واليأس، سوى أن الفنان لا ينفك يحاول كما لو انه غير معني بهذا الشعور الجمعي، لعله بذلك الإصرار وتلك المثابرة يؤسس لوعي جمعي إيجابي ويرسخ لمنظومة أخلاقية ينتمي إليها لاحقا كل من يؤمن بأنه إنسان يحمل هذه الصفة عن جدارة وليس بحكم العادة.

وجوه ابوراوي في عدم تناسق ملامحها وتضخم تقاسيمها تحاكي ما ينطوي عليه أصحابها من وجع ومن تيه وحيرة وقلة حيلة لإحساسها بأنها متروكة في عراء الأيام ومُتخلى عنها ولا سند لها في هذا العالم، وعلى سكونها وهدوءها الظاهر، تضطرم دواخلها بما لا تستطيع الإفصاح عنه، فهي وإن لم تتحدث، تُفصح نظراتها الزائغة والحزينة أكثر من اللازم ووجوهها التي ترشح بالألم وعشوائية ألوانها عما يكتنفها من وجع، وتحيل الوجوه مطموسة أو ممحوة الملامح التي رسمها أبوراوي ذات تجلي إلى فكرة تشيؤ الإنسان بتصوري وعجزه عن تحقيق إنسانيته المهدورة كونهُ مفعولا به أكثر مما هو فاعلاً أو كونه مجرد رقم في قائمة طويلة لا نهاية لها، سيما وأنه رسمها بالمائية الشفافة التي توحي بالزوال السريع بعكس الألوان الأخرى التي تتسم بالوضوح والثبات والبقاء لفترة أطول.

وبعد هذه الرحلة القصيرة نستنتج أن فن البورتريه الذي هو فرع من فروع الفن التشكيلي عامة يحوي بداخله على العديد من الأساليب والطرق باختلاف رؤية واتجاهات وحتى مهارة كل من يتعاطونه، وفي هذا الاختلاف والتباين بلا شك إثراء وغنى ما كان له أن يحققهما في غياب التنوع والرؤى المتعددة، ولا يمكن بحال من الأحوال فصل تجربة عن أخرى لأنها تصب في سياق واحد وتُكمل بعضها البعض، وكما لأنَ لكل أسلوب منتجيه لكل أسلوب متذوقيه، وفي هذا إثراء للمشهد التشكيلي ككل.

وغني عن القول أن كل فنان من الفنانين الليبيين السابق استعراض تجاربهم والذين تم اختيارهم لتمثل هذا الجانب الفني في المشهد التشكيلي الليبي الذي ظل غائبا ولم يحظى بالاهتمام اللائق لا سيما عربياً، كل فنان لديه تجربته المتكاملة ومشروعه الناجز ورسم إلى جانب الوجوه، الكثير من اللوحات في موضوعات أخرى استقطبت اهتمامه، ولعلنا إذا ما أُتيحت لنا الفرصة في إطار تتبع حيثيات هذا المشهد والتوثيق له سنعود إليها بشيء من التفصيل في مناسبات لاحقة.

مقالات ذات علاقة

مغامرة الليبيات التشكيلية

منصور أبوشناف

الفنان الليبي أسامة النعاس: التخطيطات العابرة لليد الواثقة

عدنان بشير معيتيق

نوستالجيا

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق