لا معلومات شخصية وافية عن الفنان التشكيلي الليبي خالد قجوم أو لا معلومات بالمرة , ولكن لوحاته الجميل والغزيرة متاحة للمشاهدة من خلال الشبكة العالمية ” الأنترنت ” وهي أكثر من كافية للتعريف به كفنان ليبي يستحق التقدير لمثابرته وكفاحه لأن يصل إلى ما وصل إليه من عالمية ونجاح .
أولا يجب الإشارة إلى أن الفنان مديني بامتياز ينحاز للمدينة في أعماله بخلاف الكثير من الفنانين الأخرين , وتخلص تماما من لازمة التعلق بالتراث ورسم الجِمال والأزياء التقليدية والأثار والمناظر التي تعبر عن الأنتماء لوطنه ليبيا , ربما بحكم إقامته في كندا كما بلغنا من أخبار , وهذا بالتأكيد لا يعني أن من يرسم الأزياء والبيئة الليبية ليس فنانا , ولكن اعتقد أن العالم أوسع من أن نحشر أنفسنا في زاوية منه ونتفرج عليه وهو يموج ويضطرب ويتغير ويتجدد بلا هوادة , وبعض التجديد والتغيير مطلوب في كل ما يتعلق بالحياة وليس فيما يتعلق بالرسم فقط .
قجوم برأيي فنان عالمي يُنجز لوحات حالمة وشاعرية موضوعها الأثير هو المدينة كما أسلفنا وبوسع الرائي أن يرى فيما يرى من اللوحة تلك الغلالة الشعرية الشفيفة التي تغمر تفاصيلها , حتى أن المشاهد قد يرى فيها قصيدة شعر حالمة إلى جانب رؤيتها من جانبها التشكيلي الفني كما حدث معي على سبيل المثال , وبعكس الكثير من اللوحات التي لا تحتاج إلا لنظرة واحد حتى تفصح عن جل أو كل مكنوناتها وجمالياتها وأفكارها وإيحاءاتها تظل لوحة قجوم قابلة للقراءات من أكثر من جانب لأنها تحمل بذور تجددها بداخلها وهي كافية لوسمها بوسم جديد كل مرة تقع عليها العين انطلاقا من حكمنا السابق عليها كونها نصا شعريا ذو دلالات ومستويات وأبعاد عديدة , وملمح الشعرية هنا ملمح تم اقتراحه كمدخل عام لقراءة اللوحة قراءة مغايرة , وهذا الملمح لا يلغي بالتأكيد ملامحها الأخرى التي بمكنة المشاهد الجاد والمتفوق القبض على بعضها واكتشافها .
تأخذنا لوحات قجوم الطافحة بالألوان والغالب عليها من ناحية التقنيات اللمسات الخاطفة والنهائية والواثقة بأدة بسكين الرسم إلى آفاق واسعة ومدارات حالمة , فيما يكمن سر قوة اللوحة في تلك الحركات المحسوبة لسكين الرسم , في الختام وبعد الأنتهاء من رسم التفاصيل الصغيرة الضرورية وتحديد الإطار العام وتوضيح ما يود الفنان توضيحه وضمه للوحة , وبلا تلك اللمسات السريعة التي تتوج العمل تفقد اللوحة جاذبيتها وسر إشعاعها , وقد تصبح لوحة عادية من ذلك النوع الذي نراه كل يوم ولا يستوقفنا للتمعن فيه .
في لوحات قجوم أو في موضوعاتها تحديدا ثمة غربة شديدة وشاسعة يحاول الفنان إبرازها واقتناصها بريشته , ثمة حنين غافي بين الألوان أو هذا ما تراءى لي على الأقل , ثمة انفعالات عاصفة تموج في نفسه يسعى لأن يترجمها بهذه الوسيلة الفنية , وثمة الكثير من قصص الحب الصغيرة , هذا ما نستطيع كمشاهدين أن نستشفه من اللوحات , فالفنان وبعد تحديد إطار لوحته ووضع التفاصيل المهمة مثل المعمار والشوارع والساحات العامة والنصب والمعالم التاريخية التي لا تخلو منها أية مدينة عصرية وحديثة يتجاور فيها القديم والحديث بانسجام وتناغم , وبعد رسم السماء التي تحيل إلى العديد من الدلالات في لوحة قجوم , فتارة هي صافية شديدة النقاء وتارة أخرى هي مغيمة قصديرية الهيئة وعلى وشك أن تمطر وتارة يلفها الضباب وتحوطها العتمة , فقد برع الفنان في زرع هذا الأنطباع وبث هذا الشعور في نفس المتلقي حالما تقع عيناه على اللوحة .
بعد تثبيت هذه التفاصيل الأساسية على السطح في جل الأعمال الفنية للفنان , غالبا وبلمسات طفيفة كما يبدو وبطرف الريشة يوزع شخوص لوحاته ودون التركيز على إبراز كافة الملامح إذ تكفي لمسة خاطفة من الريشة وحركة احترافية سريعة من فرشاة أن توحي بملامح الشخصية المراد إظهارها وخلقها , وبلمسات أخرى يصنع لها ظلالها المرتعشة والواهنة , أما الضوء وإلى جانب الإضاءة العامة التي تتغشى اللوحة وتغمرها أحيانا فلابد من أن نجد فيها بعض الإضاءة الزائدة المتمثلة في مصابيح نور مشتعلة هنا وهناك حتى وإن كان نورها عبارة عن خيط مرتعش ودقيق لا يكاد يكون واضحا إلا أن الفنان لديه القدرة على بث إيحاء في نفس وذائقة المُشاهد بأن ما يراه هو مصباح بضوء واهن يحاول قضم جزء يسير من العتمة التي تحاول الزحف على المنظر , وكل هذه الحيل والتقنيات والإيحاءات التي ينطوي عليها النص البصري بحرفيته العالية قادر مثلما أسلفنا على شحن موضوعه بالحنين والغربة والحب وحتى التعاطف الإنساني , إذ تبدو الشخصيات التي تتوزع هنا وهناك كما لو انها كائن هائمة تلفها الوِحدة والوِحشة ويتغشاها الحنين الغامر كما لو أنها تعيش قصص حب خفية وجامحة تنمو وشائجها بعيدا عن الأعين بين الضوء والظلام , كما لو أنها ظلال باهتة تتساند لئلا تقع أو بقع ماء تجاهد في أن تحيا بكثافة قبل أن تجف , كما لو أنها تسير طائعة إلى مصير غامض ينتظرها سواء كانت في طريقها إلى البيت بعد يوم عمل شاق – إذ لطالما اعتقدت أن الأجواء التي توحي بها اللوحة بألوانها الداكنة تحيل إلى ما قبل غروب الشمس بقليل وهو موعد العودة إلى البيت ونشدان الدفء الأسري – , ولأن المدن المقصود تصويرها غربية بامتياز نستطيع أن نحس بالبرد والصقيع , ليس على مستوى الجسد فحسب بل على مستوى الروح أيضا كما تحس بذلك الشخصيات التي تتحرك من لوحة إلى أخرى بأحلامها المؤجلة وبإرثها من التعب والإنهاك وبملامحها المطموسة عمداً , أو سواء كانت تجلس في المقاهي على الكراسي الخارجية كما لو أنها تهرب مما لا يُرى , أو تسير هكذا على غير هدى إلى اللا أين , ولابد في نهاية الأمر من أن تحظى الشخوص المجهولة الهوية باحترامنا وتعاطفنا مع محنتها فقط لأننا ننتمي إلى ذات الهم الإنساني وتجمعنا بها أخوَّة روحية وروابط لا مرئية تظهر فقط أوقات الملمات , والفنان بأعماله المتنوعة لا يرسم إذ يرسم فقط وإنما يمد أواصر التواصل مع المتلقي ويخاطب وجدانه بما يبثه من معاني ومقاصد في لوحته وأحد أهم المقاصد التي تحملها اللوحة في تقديري هو عزفها برهافة على وتر الحنين والأغتراب وهما الشعورين اللذين اختبرهما ولا زالا الكثير من الناس في عالم يتسم بالسرعة والتباعد الإنساني مع أن ظاهره يوحي بالتقارب في ظل وجود وسائل التواصل الحديثة والغير مسبوقة .
وتجدر الإشارة إلى أن الفنان وعلى غزارة إنتاجه وتشابه موضوعاته لا نكاد نلحظ تكرارا أو اجترار لتجربته بل ان التجديد يكاد يكون ملمح من ملامح هذه التجربة , ولأن صاحب التجربة متوسط العمر كما نفترض فأن المستقبل سيكشف لنا إمكانية تطورها وقدرتها على المنافسة والمضي قدما في عالم الفن الشاسع .
وربما لأنها تعبر عن الحياة في الغرب وتشخص غربة المواطن هناك وترسم وِحدته الشاسعة التي يحياها ويحس بها دون أن يجرؤ أو يحسن الإفصاح عنها , لأنها كذلك لا غرابة في أن يتعلق بها المواطن الغربي المأزوم حين وجدها في لوحات قجوم , لأنه وببساطة وجد نفسه فيها ومن خلالها , ولأن من رسمها فنان حقيقي يمتلك أدواته كاملة ومتمكن من أدائه ولديه أسلوب خاص ومتميز لا يشاركه فيه الكثيرون على مستوى العالم . ربما لهذه الأسباب مجتمعة وغيرها , لاقت هذه التجربة التشكيلية الترحيب والأحتفاء وصادفت اللوحة نجاحا باهرا حتى أنها تباع بأسعار عالية كما سمعنا من بعض المصادر وتجد اقبالا جيدا على اقتناءها ومشاهدتها في الغرب حيث يعيش الفنان ويمارس مهنته أو هوايته بحُرية بعيدا عن مشاكل وأزمات بلده الذي يغرق في صراعات طائفية وقبلية وجهوية طاحنة ويقف على حافة مصير مجهول لن ينقده منه إلا نبذ الفرقة والأجتماع على كلمة سواء وإلقاء الماضي بكل ثقله وراء الظهر والنظر فقط للمستقبل الذي بدأ منذ زمن دون أن ننخرط في مسيرته بجدية .