مجتمعات الصوت الواحد، أيا كانت المظلة التي يستظل بظلها النظام السياسي الحاكم في هذا المجتمع: دينية أو قومية أو سياسية، هي مجتمعات معاقة فكريا وثقافيا، مهما حققت من إنجازات مادية.
ذلك أن أنظمة الصوت الواحد تعمد إلى إخلاء الميدان من الأصوات الأخرى ليتصادى صوتها مثلما يحلو له في المجتمع بضمانة أنه لن يجد من يعارضه جهرا، مع تسليمه بوجود كثرين يعارضونه سرا. لكن المهم لديه أن أصواتهم تظل حبيسة دواخلهم دون أن تتعدى حناجرهم.
يلعب هذا الصوت في الميدان وحده، دون منافس، مسجلا أهدافا وهمية على خصومه الفكريين الصامتين، وبذا يحرم نفسه من تمتين أسسه وتطوير قدرته، لأنه لا يحتك بأصوات أخرى تخاصمه وتحاكمه، وتحفزه على تطوير إمكانياته.
لقد ازدهرت الحياة الفكرية في العالم الإسلامي حينما لم يعد الصوت الإسلامي وحده في الساحة. بل واجهته أصوات من ثقافات وحضارات أخرى موجهة نقدها إلى بعض الجوانب في الدين الإسلامي، فانبرى المفكرون الإسلاميون للرد على هذه الأصوات الناقدة. وفي هذه العملية اكتسب المفكرون الإسلاميون طرقا جدالية وخبرات فكرية وثقافية وتعرفوا على علم المنطق اليوناني واستثمروه في نقاشاتهم. إلى جانب أن الكثيرين منهم جاءوا إلى الإسلام بحمولة ثقافية كبيرة من ثقافتهم الأصلية. من هنا نشأ علم الكلام، الذي هو علم لاهوت لأنه، على خلاف الفلسفة، ينطلق من المسلمات الدينية. ذلك أن ما يطور الفكر هو الاختلاف، وليس الاتفاق. الاتفاق الفكري العام يميت. والاختلاف يحيي ويُنشط.
في هذا الإطار نشأ المعتزلة، العقلانيون الإسلاميون، وأحدثوا حركة فكرية موارة نشأت في خضمها فرق كلامية أخرى. ثم نشأ الفلاسفة وازدهرت الحياة الفكرية التي بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي.
لكن البيئية الحاضنة أصابها، لأسباب موضوعية تاريخية، الانكماش والضمور. فتراخت حركة الفكر الحر، ثم أصابها الشلل لصالح الصوت الواحد وخنق التجديد والإبداع.
عاد الصوت الواحد الذي يخاطب نفسه في ساحة خالية، ولم نعد نشهد سوى شروح على المتون وشروح على الشروح، وهكذا في نوع من الاجترار الذي يؤخر ولا يقدم، و، بذا، سجنت ثقافتنا في الماضي. في لحظة مجمدة من التاريخ، أو قل هي خارج التاريخ، إلى حد أننا وجدنا، في أواسط العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، من ينكر، في وسائل الإعلام التي يصل بثها إلى أقصى أصقاع المعمورة، كروية الأرض.
_______________
نشر بموقع بوابة الوسط