إدريس القائد
مع اكتشاف النفط وحالة البحبحة ورغد العيش.. انتشرت عادة معاكسة النساء في الطريق.. رغم أن معظم النساء كنَّ لا يغادرن بيوتهن لكنه يحدث أحيانا، وكذلك أمام مدارس البنات بعض هذه المعاكسات قد يمكن وصفها بأنها غير مؤذية لكن الشاب الذي يحترم ذاته لا يفعلها.. وبعض هذه المعاكسات مؤذية تصل إلى حالة هي أقرب إلى التحرش اللفظي والنفسي.. ولا أسوء من معاكسات السيارات التي تتبع امرأة في شارع عمومي يسبقها قليلاً ويتوقف ويعيد ذلك ويستفز كل المارة وقد يتبع امرأة على الطريق عدد كبير من السيارات.. هذا النوع “الركيك” جعل الدولة تنشئ ما اسمته بوليس الآداب.. ويكفي هذا رداً على ذلك الواقع الغريب.
استجابت الأغنية الليبية.. لتُعلم الناس الغزل العفيف.. وخرجت عدة أغاني أكثر جرأة من أغاني “التورية”.. بعضها أعجب الناس بها ولاقت نجاحاً جعلها من أغاني الواجهة.
نقشه حلو عجبتني اوصافــه:
هذه اغنية من أغاني الغزل العفيف، كتبها سلطان الأغنية الليبية علي السُني، ولحنها سلطان التلحين كاظم نديم، وغناها سلطان الطرب سلام قدري.. ثلاثة سلاطين لا يمكنك إلا الانتباه والاستماع المرهف.. كلمات غاية في الوصف الخجول وبراءة المقصد.. ولحن مركب من نغمات النهاوند القصيرة.. تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية هي لحن المذهب أو مدخل الأغنية، ثم الطبقة تدريجياً بعزف آلة الناي لكافة الفواصل بين الكوبليهات، وهي بنفس اللحن وهذا ما يميز ألحان كاظم نديم التي سار عليها تلاميذه الملحنين الآخرين، وهي سمة لمعظم الأغاني العربية.. لقد أبقى الأستاذ كاظم آلة الناي هي المسيطرة على اللحن.. فهي تصاحب المطرب طوال الأغنية وترد عليه وتتقدمه في تغير طبقة درجة الأغنية قبل غناء الكوبليه، وهذا عين الإبداع وقد أبدع عازف الناي اللبناني سمير السبليني في جعل الأغنية أغنية ناي في أحلى صورة..
ولا أدري كيف اختار الأستاذ كاظم هذا التوزيع إلا انفعالاً بكلمات الأغنية.. فالمؤلف يعبر عن حالة الحب والتي يصاحبها حزن مخفي يشعر به العاشق وهو نوع من الحزن اللذيذ لكن لا يستطيع العاشق شرحه أو حتى إظهاره.. فقام الأستاذ كاظم بالتعبير عنه بانفراد آلة الناي بكل الشجن التي توحي به هذه الآلة.. أما الأستاذ سلام قدري فقد أدى الأغنية وهو العاشق لمقام النهاوند بتركيز والتركيز على نطق الحروف نطقاً واضحا وسليم ربما الأفضل في تلك المرحلة بعد أن انتبه الفنانون الليبيون إلى عدم وضوح نطق الكلمات في معظم الأغاني.. ايضا أداها بكل حيوية وصدق.. تقول كلمات علي السُني:
نقشه حلو عجبتني اوصافــ؟
نقش كلمة يستخدمها الليبيين أحيانا للتعبير عن جمال الملامح، وكأنهم يقولون سبحان الخالق الذي نقش هذه الملامح.. لكن كيف عرف ان وجهها حلو النقش؟ هنا يعبر الشاعر بجميل التعبير الواقعي المحلي في حركة تقوم بها النساء وهي إصلاح وتثبيت “اللحاف الليبي – الفراشية” على وجهها وغطاء الوجه يسمى عندنا ” البمبوك”. في هذه اللحظة الخاطفة وفي تلك الثانية أو الثانيتين رأى وجهها أو جزء منه:
بان الزين كيف ساوى لحافــه..
ظهر جمالها لحظة تحريك اللحاف.. كم كان منتبها ومتربصاً؟ من هذه النظرة الخاطفة وصف لنا العيون ولون بشرتها ونظراتها :
مملح في عيونــــي.. سمح اللون خزراتــه كـــووني..
ثم انتهى من الوصف خجلاً ولجاء إلى وصف مشاعره :
لو ريتوه كنتوا تصدقونـــــــــي.. زينه عجيب ما ريتش خلافـــه..
لابد وأنه القى تحية طيبة وربما كانت الكلمة “نمشي نخطبك” إذ أن التحية ردها الموافقة بالعيون وقد رد السلام :
حييته تكلـــم.. بان الشوق في عيونه وسلم..
هنا أوصلنا غلى نهاية القصة بأنه وقع في غرامها:
صاد القلب بحبه تغرّم.. وزاد الشـوق بينلي ريافـــــــه.
رياف أي أشد الشوق، ثم تأكد من مبادلة الحب والغرام :
بادلنى غرامـه.. روىّ القلب هاللي كان ظامي..
ثم تنتهي القصة بخطبة وزواج وايام العمر مع شريك حياته:
جمعنا الحب شاركني ايامــي… وعشت معاه يا محلي ولافـــه..
هذا الذي : نقشه حلو.
خطم حفني شيّع عيونه فيا:
أغنية أخرى من أغاني الستينات.. أيضاً من إبداعات الأستاذ كاظم نديم، الذي اختار أن يغنيها محمود الشريف، صاحب الصوت الصافي والسوبرانو الطربي.. الأغنية تبدأ بفزورة الثلاثة الكلمات الأولى.. (خطم.. حفني.. شيّع..) وهناك عدة كلمات أخرى غاية في اللهجة الدارجة.. لكن! ربما هذه أحد أسباب نجاح الأغنية.. وهناك الكثير من الأغاني تشهرها كلمات غير مألوفة.. مثل: الجوبة بعيدة وثلاثين مية لخديجة الجهمي..
خطم حفني: أي مرَّ بجانبي.. أما شيّع عيونه أي رفع بصره نحوي.. خطم حفني.. شيّع عيونه فيا.. ثم سلمت ما ردّ السلام عليا.. إذن لم يرد السلام.. تستمر الأغنية على مقام الكردي وكعادة كاظم نديم يبقي نفس اللحن لكافة الكوبليهات..
خطم حفني يدّاعى “يتمخطر”.. أيضا في لمح البصر رأى عينه تحت “قِناعه”: شدت معايا عين تحت اقناعه.. أيضا كلمة مبهمة لكنه حجاب المرأة الليبية “الفراشية”، حيث لا تظهر إلا عين واحدة.. وتلك التي رأها في لمحة البصر ورأى معها اليد التي تمسك باللحاف “البمبوك” حتى أنها وصفها: مخضب بالحنة رقيق اصباعه.. ووصف أهداب عيونها وضياء جبينها: بو هذب بو جبنون يشعل ضيّه.
ثم يستمر في مشواره وحكايته ويقول:
وين خطم “مرَّ بجواري” ناديته – لكنها أسرعت الخطى: في خطواته مني هرب لبيته.. أثناء الهروب: صار قلبي معاه.. وجاريته في سريع خطواته وبالخطى جاريته.. ثم يتسأل : غضبان شنو درتله من سيّة..
الكوبليه الأخير يتبين أنها يعرفها منذ الصغر.. ويصف الموقف بأنه بخل وهجران، لكنه لن يبقي قلبه في أوهام بل يتمنى أنه سيأتي يوم ليكون ملك له ولقلبه: عليا بخل فـي كلامه – هجرني ونسي رفيق أيامه – يا قلب هاللي خلفك فـ أوهامه – ايجي يوم يرجع ليك وليا.
مؤلف كلمات خطم حفني أختفى خلف تحت اسم مستعار، هو ابن الوليد، وظن كثيرٌ من الناس أنه عبد الحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا الذي له دواوين شعرية، وربما كتب بعض الأغاني تحت اسم أبو وليد وليس ابن الوليد مؤلف هذه الاغنية، والذي أفصح عن اسمه بعد ذلك وأن اسمه الحقيقي هو صالح الشنطة..
أما عبد الحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا 1967 – 1968 قصة عشقه هي قصة أخرى اسمها ليبيا.. إذ كانت كلمة حبيبتي بالنسبة له هي ليبيا.. وكان من أوائل الليبيين الذين انتبهوا إلى ثقافة ثروة النفط المفسدة لأغلبية الناس.. كان يسمي ليبيا “أم السعد”، هكذا وكتب عدة دواوين معظمها عن عشقه لليبيا وه: لا وقت للحب – مطر السكّر – الرحيل – العودة – أمل بلا غروب – قصائد من ليبيا..
من أجمل ما قال “عاشق ليبيا عبد الحميد البكوش”:
السعد وطني..
يعيش معالم الأفراح والأحزان
يزخر بالفناء وبالخلود
يحيا، يموت بلا حدود
ويعيش عبر النار..
ملحمة النعيم
فيما تكاد سنابك الأيام
تعصف بالأديم
فيما يكاد العام تلو العام
يفتك بالجديد والقديم.
وقال عاشق ليبيا في نثرٍ أخاذ:
إلى تلك الفتاة السمراء الرائعة.. التي كنتُ أراقبها كل مساء وهي تحمل على كتفها جرة ماء.. تمسكها بيد.. وتمسك باليد الأخرى طرف ردائها القطني الموشى بخطوط صفر.. لكم أحببتُ تلك الابتسامة التي تتفتح على شفتيها.. والتي كانت هي السعادة بعينها.. والتي ذابت عندما تلوث بئر القرية بالبترول.. إلى تلك الفتاة التي سأحبها إلى الأبد. إلى ليبيا..