من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
المقالة

تاء مربوط

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

في مقهى تاء مربوطة هناك في كل لحظة رد فعل ضد الأناقة غير المفهومة لتناسق أعضاء وقت الفراغ، في هذا المقهى بالذات يجب أن تستمتع بالتاء بحسب شروطها الخاصة، هناك مكان يتسع للجميع داخل دائرة التاء المربوطة، في وسط تلك الغمغمة غير المفهومة هناك عقول غاية في الجرأة، والكثير من الكلمات الجسورة التي فقدت نزاهتها وصفاء نيتها، هذا غير بعض الوجوه ذات الجمال المذهل والذي يقف بقوة في وجه منغصات الحياة اليومية، في تاء مربوطة هناك اتصال سري بين الجالسين من خلال فتنة موجعة بالحياة وما فيها من جمال، كل الأشياء المألوفة والواضحة بشكل فاضح تُترك خارج الباب لتذهب مع المارة في شارع الحمراء، كل شيء يتم معالجته في تاء مربوطة وفق الإغواء الذي نسيته الإنسانية بشكل متعمد، إغواء جمال العيش في مجال إنسان آخر لدقائق وربما لساعات، النظرة في تاء مربوطة غير مشتبه فيها، العالم سيبدو ناقصا إذا لم يتوفر فيه مكان تنظر فيه إلى شهوتك بعيون نظيفة وخالية من التحضير المسبق، عليك أن تعطي فرصة للشر كي يسخر من الحياة التي تسمى سليمة، رناد بكلماتها عن جنونها الذي لا تستخدمه وتخاف عليه من الضياع، يد ديانا وهي في يد عبود تفرض على الحياة أن تجلس معنا على الطاولة، حسين يزين نكتة فاضحة يقرأها من على النت بمشهد درامي هو ما يجعلني أضحك أكثر، غادة وهي تخرج فجأة من عالم أُسِييء إغلاقه، أحمد ينظر إلى جرحه بقلق يصعب التحدث عنه، في تاء مربوطة لا مكان للسلوك الفظ والقاسي، الموسيقى هناك تطلب من الناس أن يقتربوا من بعضهم أكثر للخروج من محنة اليأس بشكل جماعي، هذا ما يحدث عادة في الأماكن التي لا شيء فيها يُشعر بالخجل من نفسه، بل كل شيء فيها يتمتم بنعم، يمكن التفكير في مثل هذه الأماكن في كل ما لم يحدث على أنه حدث، كأنْ أكون جالسا في تاء مربوطة وتدخل هي من الباب ومعها الكلمات التي سأكتبها على شاهد قبري، تدخل هي فينهار العالم خارج تاء مربوطة ولن أنسى أنا أن أستعيد منه قلمي قبل أن يُدمَّر بشكل تام، حين نظرت إلى وجهها أحسست أنني جرح مفتوح قد وجد القاموس المناسب، أحسست أنني قد أختفي من تاء مربوطة دون أن أترك أثراً لأنني سأكون هناك في عينيها الجميلتين، هذا العالم البغيض مستعد دائما للإفلات من القتل لأنه يتموضع هناك في المسافة الحميمة بين شفتيها كأنه كلمة لم تُقَلْ بعدُ أو قبلة تخاف الخروج دون استئذان، ربما سمعت لفافات التبغ في أيدي النساء تتحدث عنها، ربما سمعت الحروف في الحبر تتفوه باسمها، ربما كل تاء قابلتُها في حياتي لم تكن مربوطة على شكل بخار القهوة التي ترتعش من الشوق إلى اللقاء مع شفتيها، ربما لم أفكر في أن النقطتين فوق التاء ليستا سوى نقطة للعودة ونقطة للهروب، لابد أن أعترف بدَيني لساقيها وكيف جعلتني أفهم أن العمل على إكمال الحياة مازال جاريا ولم يكتمل بعد، لا يمكن تصور الجمال الذي يحيط به زجاج تاء مربوطة في وجودها، لا يمكن تصور اللغة إلا كمعشوقة وهي توفر الطريقة الوحيدة للاتصال بها، هذا إذا كان في وسعي تفادي فهم إمكانية انقلاب اللغة وعلى نحوٍ مفاجئ إلى جسد .قليل فقط من الأماكن في هذا العالم لا تشعر فيها بأنك تخاصم نفسك، قليل جدا من الأماكن في هذا العالم قادرة على تحريك ضميرك الجمالي، قليل من الأماكن فقط يمكن أن نفسرها، يمكن أن نستفيد منها، تاء مربوطة مكان لا توجد فيه حواشٍ مسننة، لا توجد فيه وجوه ترفع الحزن من الأرض، لهذا كانت صورتها في كل أنحاء المقهى حتى قبل أن تدفع الباب ومعه كل وجع العالم لتدخل هي بنسخة منقحة منه، عن ماذا تحدثنا ؟ لا يهم، ومن يهتم بالحديث مع كل هذا الجمال إلا بسبب ضرورة أن يكون هناك حديث، الحديث المهم هو الذي يتعلق بأشكال المقاومة التي أبديتها أمام حركتها الخطرة، بأشكال المقاومة التي أبديتها حتى لا أجتاز الخط الفاصل بيني وبين طلاء أظافرها، ولن أبالغ هنا في حجم النجاح الذي الذي حققته لأن طعمه أمر من طعم كل فشل عرفته، هذا غير السخرية من نفسي التي شعرت بها بسبب الإفراط في الاعتدال الذي عرفته في تلك اللحظة، لماذا بعض الأمور يجب أن تكون مؤجلة ؟ قد أقبل أنا وأنتم تأجيل حفل شاي، لكن كيف يمكن قبول تأجيل الحب إلى وقت آخر، أو تأجيل علاقة، الحياة نفسها لن تقوى على منع نفسها من الاستدارة نحوها، لا يمكن تأجيل النظر إلى الأشياء وهي تسيل في تاء مربوطة وتسير نحو شعرها لتتمسك به، كيف يمكن التملص من الشعور بالغيرة من جمال الكادر الذي ظهرت فيه بيروت عند ابتسامتها، كيف يمكن تجاهل النظام الذي تفرضه أسنانها على العالم، كم أتمنى لو أنها عضت بها على حياتي وأعادت تركيبها وفق لمعانها، كانت تجلس هناك أمامي كثغرة في جدار الألم، الأثاث، الكتب، الأكواب، منفضة السجائر كانت تشعر بالراحة وهي تنظر إلى جلستها غير المستقيمة، فكرت في لحظة أن ما ينبغي فعله في حضورها هو عكس كل ما يتوقع منك، عكس المجامل بشكل بائس، عكس الطيب بشكل فاتر، عكس الهادئ بشكل بارد، كان ينبغي التهامها بلذة و بطء وشيء من العدوانية كقطعة تشيز كيك مقدمة في باي روك، لكنّ شيئاً في عينيها قال : ليس من الضروري أن تفعل ذلك الآن، دعني أخفف عنك وحشة العالم أولا، دعني أرمم روحك التي تناثرت إلى قطع صغيرة وأنت تشق طريقك إلىَّ، قالت ذلك ونهضت متجهة إلى الباب، حين خرجت انفجر العالم بالبكاء، وسمعت ضحكة ساد المجنونة وكلماته القاسية ” من اليوم عليك أيها الأحمق أن تعيش وسط جماعة طبيعية ”، ساد لا يؤمن أبدا بأننا بشر وعلينا انتظار حظوظنا، الحظ الوحيد الذي يؤمن به ساد هو توفر فرصة الحياة، ليس على الإنسان أن ينتبه إلى عدم إسقاط شجاعته وذكائه فقط من اعتباره، بل عليه أن ينتبه أكثر إلى عدم اسقاط قلبه وجسده من هذا الاعتبار الشخصي، كان عليَّ في لحظة ما أن أختار بين أن تكون هي لحظة ألمٍ أو لحظة نافرة ومعزولة، نقطة عودة أو نقطة هروب، نظرت إليها وهي تمشي بكبرياء وجمال وأنا حائر بين نقطتي تاء مربوطة، ثم قلت لنفسي لا تكن شديد التشاؤم ولا شديد التفاؤل عليك أن تنتظر، أليس الانتظار هو آخر ما تبقى

مقالات ذات علاقة

“المَسْدة”: بيت العفة ..ومنتهي الحكايات !!!

زكريا العنقودي

لا أحد يؤجر منزلًا يحتوي مكتبة

مهند سليمان

صَرْحٌ مِنْ جهنم

يوسف القويري

اترك تعليق