بقلم وعدسة: زياد جيوسي
ربما لعب الحظ دوره معي بالعودة إلى رام الله بعد غياب استمر عدة شهور، فتمكنت من حضور معرضين للفن التشكيلي، للفنانتين الأم والابنة آمنة بعجور وكنان الربيعي في مدينة البيرة، والفنان الشاب وائل ربيع في مدينة رام الله التوأم السيامي لمدينة البيرة، فحلّقت روحي ما بين الإبداع في المعرضين، وإن كنت قد سبق أن حضرت معرضاً سابقاً للفنانة كنان الربيعي، بينما كانت المرة الأولى التي أحضر فيها معرضاً للفنان وائل ربيع، وإن كنت قد شاهدت له الكثير عبر الشبكة العنكبوتية، ولكن بالتأكيد، وكما أقول عادة، إن الصورة الفوتغرافية للوحة تعطي المتأمل الصورة الجمالية، ولا تعبر فعلياً عن اللوحة، فالصورة تتغير بها درجات الألوان، إضافة إلى إخفاء العيوب والهنات الصغيرة التي قد نراها باللوحة، أو إخفاء الرمزيات الصغيرة باللوحة، وهي لها تأثير على قراءة اللوحات، لذا سعدت أن تحلق روحي بأعمال ولوحات الفنان مباشرة.
من يجول في لوحات معرض الفنان، والذي حمل اسم: (ألوان خلف الجدران)، يدرك مباشرة أن الفنان يبحث في معرضه فكرة التعبير عن الوطن المحتل الذي يقبع داخل جدران سجن الاحتلال، وتتقطع أوصاله بين الحواجز العسكرية والأسلاك الشائكة وبنادق الجند والجدار البغيض، والأراضي المصادرة التي تحولت إلى مستوطنات بشعة ومعسكرات تحمل في ثناياها الموت، من خلال ثلاثة أشكال لرسم ألوان الوطن باللون والريشة، وقد رأيتها في المعرض تحت ثلاث مجموعات حسب قراءتي للوحات وهي: الألم، الأمل والاصرار، والأطفال فرح ومقاومة، وهي من ثماني لوحات، وسأتناول بعضاً من هذه اللوحات التي تلخص الفكرة في كل مجموعة من المجموعات.
الألم، وهي تتكون من خمس لوحات، وفي هذه المجموعة لخص الفنان الإحساس بالألم الذي يعتصر النفوس، ففي لوحة “عناق” يظهر وجه كهل فلسطيني تُظهر ملامحه الألم وهو يرتكز بذقنه على قبة الصخرة المشرفة ويرتدي الكوفية الفلسطينية. وفي لوحة أخرى تحمل اسم (زغرودة وطن)، نجد المرأة الفلسطينية وهي تربط الكوفية الفلسطينية على منديلها الأسود والألم يعتصر وجهها والدموع في عينيها، وهي تطلق زغرودة وداع الشهيد الشاب الذي نراه كأنه طير يبدأ رحلة التحليق للسماء من تحت شجرة عارية من الأغصان ترمز لوطن أصابه الجفاف من طول فترة الاحتلال، وخلفه شمس الحرية تبزغ من بين الغيوم. وفي لوحة (تقاطع) نجد مشهداً رمزياً كبيراً من خلال مشهد الطفل “عيلان” الذي أصبح رمزاً للمهاجرين قسراً من أوطانهم وقد غرق في البحر، و”حنظلة” الرمز الفلسطيني الذي ابتكره الشهيد الفنان ناجي العلي وهو يرفع جثة “عيلان”، وفي مقدمة اللوحة يد فنان ترسم المشهد، ولكن يظهر الطفل الغريق “عيلان” وهو يرفع “حنظلة” عن الشاطئ، وهذه إشارة رمزية إلى أن المعاناة واحدة بين الشعوب التي تجبرها الأحداث على الهجرة. بينما في لوحة (عَبرات) نرى فتاة شابة ترتدي الثوب الفلسطيني المطرز بالنقوش الكنعانية، وتحمل على إصبعها عصفوراً ألوانه أشبه ما تكون بألوان العلم الفلسطيني وهي تنظر للقدس بكل الألم والدموع نتنسكب من عينيها، وفي هذه اللوحة نجد حجم الرموز التي استعملها الفنان في لوحته سواء بالرمز اللوني أو الرمز التشكيلي، فهناك الثوب الفلسطيني ذو الأكمام الواسعة وهو من أزياء منطقة القدس التراثية، وبرزت النقوش الكنعانية على فوهات الأكمام الواسعة وأنها إشارة إلى أن الحرية ترتبط بمحافظتنا على تراث وتاريخ يسعى الاحتلال لشطبه، وكان العصفور إشارة إلى وطن من خلال تواشيحه وألوانه بألوان العلم الفلسطيني، وفي الخلفية برزت القدس والأقصى ومسجد قبة الصخرة الواقع في ساحات الأقصى من خلف الأسوار، بينما كانت السماء ملونة باللون الأرجواني الموشح باللون الأحمر بتدرجاته واللون الأسود والأصفر، بتعبير رمزي واضح للغضب الساطع القادم والفجر الجميل.
الأمل والإصرار، وهي مجموعة من سبع عشرة لوحة، وفيها أبرز الفنان العديد من ألوان المشاهد التي تشير إلى فكرة الأمل بالعودة، والعودة، وفكرة الإصرار، برغم كل ما تعرّض له وما يتعرض له الوطن الفلسطيني من ظلم وقهر من الاحتلال، إلا أنه لا يفقد أبناء الأرض وأحفاد كنعان الأمل، ولا يبعدهم عن الإصرار على حرية الوطن والشعب، فنحن كنا وسنبقى أبداً أسياد الأرض، وربما يكون من الصعب الحديث عن المجموعة كاملة وإن كانت كل لوحة فيها تستحق حديثاً خاصاً، لكن مَن يشاهد مجمل اللوحات يجد حجم الأمل والإصرار في العيون أو الرمز فيها، وسأتحدث بشكل خاص عن ثلاث لوحات اختصرت المعنى والفكرة، فكرة الأمل والإصرار، حيث نشاهد في اللوحة الأولى، وحملت اسم (يافا عروس البحر)، الفلسطينية الشابة بثوبها المطرز بالرموز الكنعانية وعلى رأسها (الوقاة) التراثية وهي مزينة بالليرات الذهبية وتقال باللهجة المحكية الفلسطينية (وكاه)، وفوقها الشال الفلسطيني المطرز وخلفها بحر يافا وشاطئها ومركب شراعي، ونظرة الأمل تظهر في عينيّ الشابة بوضوح مع عزم وإصرار على العودة، ونلمس الرمزية بوضوح من خلال الزي أولاً، ومن خلال المركب الشراعي الذي كان يستخدم في السابق، ومن خلال عمر الشابة التي لم تعرف يافا، ولم تعش بها بعد طرد سكانها في نكبة 1948، وهي إشارة إلى أن الأجيال التي ولدت في المهجر لم تنس فلسطين كما راهن الاحتلال أن الكبير سيموت وأن الصغير سينسى. بينما في لوحة (نداء الفجر) نجد الخيول الأصيلة تتجه للقدس من خلف مبنى المسجد الاقصى في لحظات بزوغ الفجر وإشراقة الشمس من بين سدل العتمة، في إشارة رمزية إلى فجر الحرية الذي لا بد أن يأتي، ويلاحظ أن الفنان أظهر الأرض يانعة بالأخضر الجميل رمزاً للخصب برغم عتمة الليل، وأنه تمكن بإبداع جميل من رسم بزوغ الشمس وانعكاسها على الأقصى والأرض برمزية لونية متميزة وجميلة. بينما في اللوحة الثالثة، والتي حملت اسم (الرجوع الأخير)، أظهر الفنان شاباً فلسطينياً يلف رأسه بالكوفية الفلسطينية، وينحني على الأسلاك الشائكة التي ترمز للفصل بين شقي الوطن 67 و48، غير آبه بالألم والدم الذي يسيل من جسده ويده، ويزرع زيتونة في الأرض، وقطرات دمه المنثالة على الأرض تنبت أزهاراً من شقائق النعمان الحمراء كالدم، والفجر ينبثق من بين الغيوم بتمازج الأصفر مع الأحمر القاني بتدرجاته.
الأطفال فرح ومقاومة، وهي من ثماني لوحات اعتمدت الطفل الذي يحلم بالفرح من جهة، ويقاوم بالحجر من جهة أخرى، وينظر للغد ولفجر الحرية. وفي لوحة حملت اسم (نافذة على السلام)، نرى فيها وجهين لطفلين وقد مزّقا جدار الصفيح الذي تخترقه آثار إطلاق الرصاص، وينظران من الفتحة بكل مشاعر الألم المرتسمة على وجوههما وأعينهما، ويحلمان بالفرح والحرية والسلام، بينما نرى رمزية صلب الفرح على الجدار من الداخل حيث (الأراجوز) بتلاوينه وملابسه مصلوباً على الجدار، فكما ورد في الموروث الديني عند الإخوة المسيحيين من صلب السيد المسيح رمز السلام على يد اليهود، نرى صلب الفرح على الجدار بيد الاحتلال. وفي لوحة أخرى حملت اسم (دراجتي)، نرى آلة الهدم الاسرائيلية التي تجرف الأراضي، وتهدم البيوت، وتقتلع الأشجار، وقد حطمت دراجة الطفلة الهوائية، لكن حلم الأطفال جعلها تحيل ذراع الآلة الضخمة إلى أرجوحة تتأرجح عليها وظهرها للدراجة المحطمة، وهي تنظر بردائها الأبيض للشمس من بين الغيوم وللحرم الإبراهيمي في الخليل، وفي هذه اللوحة المؤثرة نجد الفنان اعتمد الرمزية الواضحة في لوحته، فقد جعل وجه الطفلة باتجاه الشمس التي رمز لها بأنها شمس الحرية، وليس الشمس الطبيعية التي لا يمكن النظر إليها، وجعل الدراجة المحطمة، وهي كناية ورمز للفرح الذي ينغصه الاحتلال في الخلف، وذراع الآلة أصبح ذراعاً للأرجوحة، فهي فكرة الطفل الفلسطيني الذي لا بد أن يعيش الحرية والفرح، ويصبح الاحتلال بعضاً من الماضي كما كل الاحتلالات التي عرفتها فلسطين. بينما في اللوحة الثالثة نجد طفلاً فلسطينياً يرتدي الكوفية الفلسطينية يقف في الظلام ليقاوم الغربان بالحجر، بدون خوف أو تردد، وبرغم أن هناك غراباً يحاول أن ينقر قدم الطفل، وهي إشارة رمزية إلى قيام جنود الاحتلال بتعمّد إصابة أقدام الأطفال بالرصاص المحرم دولياً، ما رفع نسبة مبتوري الأقدام والأيدي في جيل الأطفال، إلا أنه غير مهتم أبداً بذلك، وأيضاً قد تمكن من إصابة غراب ملقى تحت قدمه، وهو يقاوم بانتظار الشمس من بعد القمر.
الفنان وائل ربيع فنان بالفطرة، فهو لم يدرس الفن أبداً، ويعتمد على التجربة بتطوير قدراته الفنية، وهو من مواليد 1970، وعضو في الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وتعود جذوره إلى بلدة “لِفتا” من قرى القدس، والتي ازالها الاحتلال عن الأرض عام النكبة، وهو ولد وعاش ولما يزال تحت الاحتلال للضفة الغربية التي احتلت في العام 1967، وكان هذا المعرض معرضه الشخصي الأول، إضافة إلى مشاركات في بعض المعارض المحلية المشتركة، وهذا سبب أساس لوقوع الفنان في بعض الهنات الصغيرة في بعض اللوحات، مثل ظهور القاعدة للوحات في بعض الأجزاء، وهذا ما يطلق عليه صفحة البخل في الألوان، برغم الكرم الزائد في الألوان في زوايا أخرى، إضافة إلى بعض البثور اللونية، مع ملاحظة أن الفنان وائل ربيع يعتمد في الكثير من لوحاته على رسم الصور الفوتغرافية التي تترك أثرها على روحه، ويخرجها بأسلوب جديد، وفي لوحات زيتية معبرة وذات رمزية كبيرة بعد إسقاط مكنونات روحه على اللوحات، وكما أشرت في السابق، فالفنان يلجأ للواقعية في لوحاته، والرمزية عنده واضحة وليست مغرقة بالترميز حتى تتحول إلى سريالية، وفي كافة لوحاته يرتبط بالمكان والأرض والوطن، ويحلم كما كل أبناء الوطن بحرية للشعب وفجر جميل للوطن، فهنا يكون وقع الاحتلال على روحه كفنان أكبر، فيقاوم بالريشة واللون، والفنان يختصر أهدافه وأعماله بالقول: “أسعى من خلال أعمالي الفنية إلى التعبير عن أفكاري، تطلعاتي وأحلامي، محاولاً ما أمكن تقديم فن ملتزم يسلط الضوء على تراث شعبنا الفلسطيني وقضاياه العادلة”.
(عمَّان 21/1/2017)