قصة

عـمي الهاشـمي

“ياهاشمي”…

“أركب مع الهاشمي”…..

” بالشوية ياهاشمي”….

لا يقود عمي الهاشمي إلا السيارات الفارهة…. يدخل بها إلى أزقة “قرجي” وتحديدا أحد أزقة “الشارع الغربي”، حيث يقطن إحدى البيوت “العربية” المتلاصقة والمتشابهة كعبوات أنابيب الغاز الزرقاء.

انحدر” الهاشمي” من “الجبل”  عبر طريق ضيق ووعر يلتف حوله كعمامة الفقيه. كان فتى يافعاً.. ألقت به السيارة “الروميس” في قلب “ميدان الشهداء”، يرتدي بدلة عربية بلون قشرة البطاطا، عليها صديري من الصوف الخشن، يغطي رأسه بـ”كبوس” نصفه الأعلى فارغ ومضغوط، تتوارى قدماه خلف نعل بلاستيكي، يتأبط قفة ملونة. تقلب “الهاشمي” بين يدي المدينة من “مربوعة” إلى أخرى لدى أقاربه المتناثرين في المدينة كحبات الملح…حتى تمكن من استئجار غرفة في حوش عربي سكنها  وآخرون..

حين قرر “الهاشمي” الزواج، بعد أن التحق بالعمل في احدى المصالح العامة على وظيفة سائق، عاد إلى قريته في الجبل…اقترن بإبنة عمه، وانحدر بها مجددا، واستأجر شقة أرضية في العمارات المربعة المتلاصقة بأبي الخير.

وبضمان مرتبه تحصل على قرض، واشترى بيتا عربيا في “قرجي” مازال يسدد أقساطه.

يولي “عمي الهاشمي” الحد الأدنى لهندامه إلا أنه يعتني بنظافته، يتسربل في بنطال وقميص، تتحدد ألوان بناطيله الغامقة ما بين الأسود والرمادي والأزرق، أما قمصانه فأغلبها أبيض، سماوي أو “باطاطي”، يلتصق بجيب قميصه العلوي الأيسر “باكو” الدخان “الرياضي”، يتلصص خطه الأحمر من حاشيته … حذاؤه مغبر وواسع، يظهر جوربه عند حركة قدميه، يبدو ذقنة على الدوام وكأنه أهمل حلاقته لبضعة أيام، أو كأن شعيراته المتناثرة لاصقة و لا تنمو.

يقبض “عمي الهاشمي”على المقود بيديه طوال المشوار…. تميل أصابعه إلى الإصفرار.. يتعامل مع السيارة برفق واحتشام، كأنها أنثى، يمسح على “الكوادرو”، ويستمع إلى أخبارها عبر المذياع المثبت في مقدمتها، أحيانا يحكي ويفضفض إليها.

لا يتعكر مزاجه، أو يتبخر هدوئه إلا في حالة واحدة، حين يقوم بركن السيارة إلى جوار الرصيف…آنذاك، يمد عنقه أثناء البحث عن مكان، مركزا كل حواسه في عينيه اللتين تبدوان كعيني نسر يحوم فوق ذات المكان يبحث عن فريسته. تتغضن ملامحه الهادئة، يعض على شفتيه، يدير رأسه إلى الخلف ويمد رقبته فيما بين ظهري المقعدين الأماميين، ويرتفع بعجيزته، ويمد ساقيه كخشبتي لاعب السيرك. يفلح دائما في حشرها واصطياد مكان ظليل لها.  كان يكره أشعة الشمس، ينزل الساتر الأمامي ويستحي من وضع نظارة شمسية ويكتفي بتفادي أشعتها.. ينوس برأسه كأنه يبحث عن الكرة في الملعب لنقرها.

درب نفسه على ساعات الإنتظار الطويلة، وتعلم أن تكون نفسه رفيقته، يحدثها، يعتب عليها، يعنفها، ولا يزهو بها إلا فيما ندر، لا يحب الجلوس في السيارة، يركنها..ثم يختار عتبة إحدى البيوت، أو حجر كبير يجلس عليه، ينتظر ساكنا، تحملق عيناه في المكان كأنه يتفقده، ثم تسقط مقلتاه على إسفلت الشارع، أو على قدميه… ينفث السيجارة تلو الأخرى يراقب رحلة الدخان القصيرة وهو يختلط في الهواء وينقشع.

حين يخرج المدير العام… يهب واقفاً كأن مساً كهربائياً صعقه، يرمي بعقب سيجارته، يسرع نحو باب سيارته ويقفز إلى داخلها. كان يفتح الباب الخلفي له، إلا انه، وبمرور الوقت، لم يعد يفعل.

“كيف حال ولادك ياهاشمي”؟

“الحمد لله…في نعمة”.

 هذا أقصى حديث يمكن أن يتبادله مع المدير العام… لم يطلب منه إلا مرة واحدة أن يساعده في توظيف ابنه الأكبر، سلمه ملفا متكاملا يتصدره طلباً إلى من يهمه الأمر… وصورتان، إلا أنه لم يوظفه. لم يسأل “الهاشمي” عن ذاك الطلب منذ ذلك اليوم..ولم يتوظف ابنه، تزوج وألقى بزوجته وأطفاله في الجحر الذي يعيش فيه “عمي الهاشمي” يتقاسم معه قوته وقوت عياله.

   يعرفهم الهاشمي جميعهم… فردا….فردا….يصافحونه بأيديهم الطرية، الناعمة، يقبضون على يده الخشنة الصفراء العالقة بها رائحة النيكوتين، ثم يرخونها… يسقطونه فجأة كما اسقطوا يده، ينسون وجهه بمجرد صعودهم السيارة الفارهة، حيث يغوصون خلفه في كراسي الجلد الأسود ذات الرائحة النفاذة، تلمع جباههم في الريح المبثوثة من جهاز التكييف. ما أن تتحرك السيارة وتختال في الشوارع حتى تبدأ أحاديثهم هامسة ثم تعلو وتعلو رويدا رويدا، يحكون عن اجتماعاتهم، عن الآخرين غالباً بالسوء، تتحرك شفاههم بسرعة مذهلة بالنميمة….والخيانة… والمؤامرة.. والقرارات… والمعلومات السرية وغير السرية، حتى النساء والموظفات الجميلات منهن والقبيحات، والليالي.. والسفر.. والإجازات.. والضغوطات، يتفوهون بالسباب والشتائم… يتحدثون في كل شيء وعن كل شيء…. يتفاخرون بأنفسهم ويزكونها.. يتغنون بمواقفهم الشجاعة والجريئة وعن أهميتهم.. وأن لولا وجودهم لسقط الحصان من الجولة الأولى.

كان في البداية يفتح أذنيه ويستمع، يصدق ما يقال حرفياً… يشعر بالزهو والفخر أنه يعرفهم عن قرب، يجلسون خلفه، يقود بهم السيارة.

مع اعتياد عجيزته على الجلسة الوثيرة… وهبوب هواء التكييف، وصعود ونزول الحفر… وازدحام واكتظاظ الشوارع، وصراخ السائقين، ونفاذ صبر الراجلين، وصفارات رجال الشرطة، وتراجعهم عن أماكنهم عند مرور سيارته، وفتح الأبواب الموصدة له… شيئا.. فشيئا، اكتشف أنهم يكذبون، أنهم يطعنون بعضهم البعض… ويبتسمون، ينافقون…..اكتشف أنهم يفعلون عكس ما يقولون. رأي تبادل الأقنعة.. بدأ الزهو يخبو، والفخر يتناثر كقطع حجر الصوان في الجبل مسقط رأسه.

كان يسترضيهم، فما عاد… يختار الحفر العميقة أحيانا و يتعمد الوقوع فيها…. كي ترتفع أجسادهم وتنهار بقوة على الكرسي الجلدي الوثير، وتنقطع أحاديثهم كالنقط السوداء على كراريس أولاده، ويدب الخوف في قلوبهم… فيضحك ضحكة خفيفة..

إلا أنه ظل يحافظ على قواعد المرور لا يمر في ضوء أحمر، ولا يجتاز من اليمين، وكلما شعر بحنق المدير العام وكدره كلما تفنن في حركات بهلوانية بالسيارة… حتى يصيح قائلا: “خيرك ياهاشمي اليوم ….أنت والزمان عليا..” ينفرج فمه عن ابتسامة خفيفة… ولا يجيب.

حين تقاعد عمي الهاشمي، لم يكن سهلا عليه أن يفقد السيارات الفارهة التي كان يقودها وهو يغوص في الكرسي الجلدي الوثير…. يتبختر بها في أزقة “قرجي” تدور حولها زوجته “بالكانون” الفخاري، يستمتع بطرقعة قطع البخور و”الوشق” وهي تسيل بين قطع الفحم، تجلس إلي جواره يصعدون “الجبل” في المناسبات والأعياد، ثم لا يلبثا أن يهبطا سريعا …. ما أن يمر بها، حتى تهطل عليه التحايا كما لو كان المدير العام نفسه… كان بعض المارة يصوبون إليه نظراتهم، يرى في حدقاتهم علامات الاستفهام، أي مدير عام هو؟ وأي مصلحة عامة يديرها؟ كان أفراد المرور يتراجعون لتوسعة الطريق، وكان الحراس يتقهقرون بالأبواب الحديدية الثقيلة إلى الخلف.

تقاعد عمي الهاشمي… إلا أن أكثر ما آلمه هو المشي في أزقة الشارع الغربي… ثلاثين سنة يدفع بقدميه إلى الأمام بأقصى قوته، يضغط على “الفرسيوني” و”الشراطوري” و”الفرينو”، ثم حين اعتلى السيارة الأتوماتيك…أرخي قدميه شيئا فشيئا وأراح قدمه اليسرى تماما… كيف له اليوم، وبعد أن تهزه زوجته مرتين كل صباح، أن يستخدم قدميه مشيا في الأزقة المتربة، يجرهما إلى “الكوشة” المجاورة .. تسري في جسده قشعريرة حين تلتقط أذناه حفيف نوافذ السيارات المارة تبتلعها شقوق أبوابها الضيقة، ويصلصل منها صوت جاف لا يميزه…..

“عمي الهاشمي… تبي نوصلك”؟

طرابلس: 1. 11. 2010

مقالات ذات علاقة

لعنة الطريق السريع

رحاب شنيب

انتخبوني رئيسًا

محمد المسلاتي

صاحبة الفولكس

عزة المقهور

اترك تعليق