1
تجاورت في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان أمتان.. أمة الدجاج الأحمر وأمة الدجاج الأبيض.. كانت المنازعات فيما بينهما لا تكف عن الحدوث، والغارات على بعضهما البعض لا تتوقف إلا لتعود من جديد.
كان صراع الأمتين صراعا طويلا ومريرا.. وكانت الغلبة فيه لأمة الدجاج الأبيض، التي كان يحكمها ديك واحد.. يسوسها بعقله وذكائه، ويدير شؤونها بحكمته وتدبيره.
كانت جموع الدجاج، تطيع أوامره، وتسير خلفه في الاتجاه الذي يقرره ويراه، وفي الوقت الذي يحدده ويختاره.. وكان كثيرا ما يغير على حظيرة الدجاج الأحمر.. يكسر بيضها ويدمر أعشاشها.. ويعيث فيها فسادا.. ويعاقب كل من يعترض أو يقاوم من ديوك الدجاج الأحمر.
وبمرور الوقت قويت شوكة الدجاج الأبيض، ودانت لها أمة الدجاج الأحمر، وأقرت لها بالغلبة والخضوع، وسلمت أمرها لله، واعتبرت هذا البلاء الذي حل بها، قضاء وقدرا منه سبحانه، فرضيت بقضائه وقدره، واستسلمت لواقع حالها مرغمة مكرهه.
2
ذات يوم.. وبينما كانت دجاجات الحظيرة تسرح في البقاع المجاورة بحثا عما تقتات به من خشاش الأرض، وإذا بالمنادي ينادي على جموع الدجاج، للحضور فورا لاجتماع طارئ، يعقد على مستوى ” القمة ” لمناقشة أمر هام وعاجل جدا، يخص أمة الدجاج الأحمر.
ـ أمر هام وعاجل جدا !!! أعندك علم بذلك يا صديقتي.. ؟
“قالت إحدى الدجاجات لصديقتها، بينما كانتا تسيران مسرعتين باتجاه الحظيرة.. لم يكن لدى الصديقة ثمة ما تجيب به.. هزت رأسها وواصلت سيرها بلا اكتراث، وكأن الأمر لا يعنيها ”
ـ اللهم اجعله خيرا.
” قالت الصديقة التي لم تستطع إخفاء تذمرها من
تصرف رفيقتها وعدم مبالاتها بشؤون أمتها “
ـ آمين.
” قالت رفيقتها ولاذت بصمتها، وسارتا معا
بصمت وهدوء باتجاه الحظيرة “
3
سالت البقاع المجاورة بجموع الدجاج زرافات ووحدانا.. تقاطرت إلى الحظيرة من كل حدب وصوب.. حضر الجميع على عجل، ولم يتأخر أحد عن الحضور.. وعقدت قمة الدجاج على عجل.
ارتقت إحدى الدجاجات منصة الخطابة، وأخرجت ورقة من جيبها، وشرعت تقول:
ـ يا معشر الدجاج، دعوناكم لحضور هذه القمة، بناء على طلب من الشيخ زركون الذي يريد أن يتحدث إليكم عن أمر هام.. يخصكم ويخص أمتكم، فليتفضل مشكورا.
” خيم الصمت والوقار، على الجموع احتراما له، وتوجسا من طبيعة هذا الأمر الهـام.. ولم تمض سوى لحظات معدودة حتى تقدم الشيخ زركون من المنصة، وارتقى درجاتها على مهل، بمساعدة إحدى الدجاجات وحيا الجموع قائلا ”
ـ السلام عليكم يا معشر الدجاج.
ـ وعليكم السلام. ” ردت عليه جموع الدجاج بصوت واحد “
ـ تعلمون يا معشر الدجاج.. ما آل إليه حالنا من الذل والهوان.. طمع فينا الضعيف.. واستأثر بنا وبخيراتنا القوي.. أترتضون لأمتكم أمة الدجاج الأحمر، والبيض الأحمر الذي كان يشعل الأسعار والأسواق نارا، ويتلهف الناس على شرائه.. ويزين موائد الأمراء والحكام.. ويؤكل في كل وقت وحين، كأشهى بيض في العالم.
ـ أشهى حتى من بيض النعام. ” قال أحدهم “
ـ نعم صدقت.. هل سمعتم من يسأل عن بيض النعام. ” قال آخر “
ـ بيضنا الأحمر، أشهى وأفضل مذاقا، من البيض الأبيض.. الذي بدأ يغزو الأسواق مؤخرا.. ويحتل مكانة بيضنا، التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا عالية عزيزة، وسنحافظ عليها بلحومنا وريشنا وبكل ما نملك.
” قال أحد الديوك “
ـ أحسنت يا بني – قال الديك زركون – هذا تماما ما جمعتكم من أجلـه.. لا بقاء لأمتنا في هذا الوقت العصيب، وهذا المنعطف الخطير الذي تمر به، وأمام هذا الغزو المنظم، الذي يهدد حياتنا وبقاءنا.
لا حياة لكـم ولا بقـاء.. إذا لم تعقدوا العزم من الآن.. وتهبوا هبة ديك واحـد، كي نوقف زحف الدجاج الأبيض على حظيرتنا ومستقبلنا.. إذا لم نردهم على أدبارهم خاسئين أذلاء.. عن كتاكيتنا ودجاجاتنا.. عن حظيرتنا وأعشاشنا.. عن بيضنا وريشنا.. دفاعا عن كرامتنا، عن كرامة أمتنا..عن مراتعنا القريبة والبعيدة.
ـ نعم.. نريد أن نكون أقوياء أعزاء.. نريد العزة والكرامة. ” قال أحدهم “
ـ ولكن كيف.. أعني ما هو الحل يا شيخ زركون. ” قال آخر “
ـ الحل.. الحل هو أن تسلموا مقاليد أمة الدجاج، لزعيم واحد.
ـ زعيم واحد.. وماذا عن بقية الزعماء.. ؟ قالت جموع الدجاج بصوت واحد
ـ ليذهبوا إلى الجحيم.
” قال ديك ينتحل دائما دور المعارض، ويزعم
أنه يتحدث باسم المعارضة “
ـ بقية الديوك.. تسلم له بالزعامة، وتنسحب إلى الظل، أو ترحل من الحظيرة.
” أجاب الشيخ زركون “
ـ وإن أبت. ” تساءلت إحدى الدجاجات“
ـ يجب أن تسلم له بقية الديوك.. وترضى به زعيما، وتدين له بالولاء والطاعة.. وليس أمامها بعد ذلك سوى خيارين لا ثالث لهما.. مغادرة الحظيرة طوعا.. أو طردها منها ولو بالقوة.. ليتنازل كل ديك عن مآربه الشخصية.. ولنتحد ونعمل من أجل مستقبل أفضل لنا ولأمتنا.
ـ ما معنى.. مآرب شخصية.. ؟ ” تساءلت دجاجة أخرى“
ـ معناها يا سيدتي.. أن يتودد إليك ديك ما، لحاجة في نفسه.
” قال الديك الذي كان يجلس إلى جوارها.. فطأطأت الدجاجة برأسها خجلا..
وضحكت بقية الدجاجات.. وصفرت بعض الديوك وصفقت بأجنحتها..
قبل أن يواصل الشيخ زركون كلامه بقوله “
ـ يا معشر الدجاج.. لا يمكن لنا والحال هكذا، أن يكون لنا هذا العدد الهائل من الزعماء.
ـ عدد هائل من الزعماء.. أين هم.. لا أكاد أرى أحدا منهم. ” قال أحدهم“
ـ يدعي صاحبكم بأنه لا يكاد يرى أحدا منهم.. أجيبوني بالله عليكم يا معشر الدجاج.. كم ديكا في الحظيرة.. ؟
ـ واحد وعشرون. ” أجابت جموع الدجاج وبصوت واحد “
ـ وكم ديكا يحكم أمة الدجاج.
ـ واحد وعشرون.
ـ وعندما تخرجون من الحظيرة.. كم دربا تسلكون.. ؟
ـ واحد وعشرون.
ـ وفي كم اتجاه تسيرون.. ؟
ـ واحد وعشرون.
4
ـ مهلا.. أريد أن أفهم.. لماذا ورغم العدد الهائل من الزعماء.. نعيش دون بقية دجاج الأرض، دونما كرامة أو شرف، أذلاء مهزومون.. لماذا يا شيخ زركون.. ؟
ـ الأمر واضح جدا.. لأنكم تحكمون بواسطة واحد وعشرين ديكا.. وكل ديك فرح بما يحكم من دجاجات.. وعندما تخرجون من الحظيرة تسير كل مجموعة منهن في الاتجاه الذي يسلكه ديكها المفضل.
ـ نعم هذا صحيح.. ولكن ما العمل.. ؟
ـ العمل.. كما قلت لكم.. أن يتنازل كل ديك عن مآربه الشخصية.. وأطماعـه الضيقة.. يجب أن تعلموا أن هناك مصالح عليا، ومسئوليات وواجبات.
ـ تقصد أن يتنازل كل ديك عن دجاجاته.. مستحيل. “قال احد الديوك”
ـ أرى أن تسلموا أمور أمتكم لديك واحد.. لن نرضى بعد اليوم أن تسلم أمة الدجاج مقاليد أمورها، لواحد وعشرين ديكا.. يدعي كل منها الزعامة لنفسه.. ويقودها في الاتجاه الذي يريده هو ويحدده هو.
ـ أنا لا أعتقد أن كثرة الديوك سبب ضعفنا وهواننا.. الديوك هم الخير والبركة يا شيخ زركون.. بالنسبة لي شخصيا.. لن أفرط بديكي المفضل من أجل كرامة مفقودة، لست على ثقة من استرجاعها.
” قالت إحدى الدجاجات “
ـ ألا تعد كثرة الديوك مفخرة لنا. ” قلت أخرى ساخرة “
ـ نعم صدقت يا أختنا ” علق أحد الديوك، ثم خاطب الجمع بقوله ” أخبروني من منكم، يرضى أن يتنازل عن دجاجة واحدة، من دجاجاته المفضلة لديك آخر.. بالله عليكم قولوا لي من..!!
ـ مهلا.. أيتها الديوك.. هذا الأمر ليس موجها ضد ديك معين، أخاطبكم.. أخاطب ضمائركم.. أدعوكم من أجل الصالح العام.. من أجل مصلحة أمة الدجاج.. أن تأخذوا بنصيحتي. ” قال الشيخ زركون “
ـ وهل لنا كامل الحرية في الرفض وفي القبول.. ؟ ” قال أحد الديوك “
ـ نعم.. لكل فرد منكم كامل الحرية في رفضها.. لن نجبر أحدا على ذلك.. بشرط أن يخرج من الحظيرة ويغادرها إلى حيث يشاء.
ـ وهل ستخير الدجاجات بين الرغبة في البقاء تحت زعامة الديك المنتخب.. وبين الذهاب مع ديكها المفضل. ” قالت أحدى الدجاجات “
ـ نعم لك كامل الحرية يا عزيزتي.. لن نفرض هذا الأمر على أحد.. نريد أن نؤسس دولتنا.. دولة الديك الواحد والزعيم الواحد.. على أساس ديموقراطي.. ولا نرضى أن تحكموا بعد الآن بالحديد والنار.. ولذا فأنتم جميعا مخيرون.. بين البقاء تحت سلطة وحكم الديك المنتخب.. أو الهجرة و الرحيل إلى حيت تشاءون.
ـ حسننا على هذا نوافقك. ” قالت جموع الدجاج وبصوت واحد “
ـ ولكن بشرط أن يفوز الزعيم الذي ستنتخبونه، بنسبة لا تقل عن ( 50 % ) من أصوات الناخبين.
ـ وإذا لم يتحصل ديك ما، على النسبة المطلوبة، ولم يفز أحد بمنصب الزعامـة. ” تساءلت دجاجة “
ـ إذا لم يفز أحد بمنصب الزعامة.. فسنهجر هذه الحظيرة.. ولن تكون ملكا لأي منا.. هذه الحظيرة أما أن تكون لنا جميعا.. أو لا تكون.
ـ نعم.. هذا كلام وجيه.. أنا شخصيا لا أريد لهذه الحظيرة – التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا – أن تكون لديك دون غيره، أو لأسرة بعينها، تتوارثها كابرا عن كابر بالتسلط والقوة، ودون موافقة الجميع.
” قال أحدهم “
ـ نعم.. إذا لم نوفق إلى انتخاب زعيم واحد.. سنهجر حظيرتنا.. سيغادرها كل ديك، مصحوبا بدجاجاته المفضلة.. إلى حيث يشاء.. ليبتني لهن حظيرة جديدة، بالشكل الذي يريد، وفي المكان الذي يفضل.
ـ وهـو كذلـك.
” قالت جموع الدجاج بصوت واحد.. وانتهى الاجتماع “
5
لم تمض سوى أيام قلائل.. حتى عقدت أمة الدجاج قمتها الثانية.. لانتخاب الزعيم.. ارتقت كل ديوك الحظيرة المنصة.. وشرع كل ديك منها، يستعرض مهاراته، من خلال حركات استعراضية واضحة، في محاولة منه لكسب أكبر عدد من الأصوات.
وبدا التصويت.. وصوتت كل دجاجة لديكها المفضل.. كانت نسبة الحضور عالية ومدهشة.. ولكن ورغم ذلك.. لم يحصل أي من الديوك على النسبة المطلوبة لمنصب الزعيم.. تخاصمت الديوك فيما بينها وعلت أصواتها، وحارب كل ديك أثناء الاقتراع وبعده، بشراسة وشجاعة.. وغضبت وحقدت على بعضها البعض.. لكن لا أحد منها كان جديرا بكرسي الزعامة.
لم توفق أمة الدجاج في اختيار من يحكمها.. وبقيت على حالها بلا زعيم، ولم يكن ثمة من يرغب في البقاء في الحظيرة.. ولا أحد باستطاعته البقاء إن أراد.. استسلم الجميع لبنود الاقتراع، وحمل كل ديك متاعه وحاجياته وغادر الحظيرة في الحال.
ولكي يتأكد الشيخ زركون بنفسه من مغادرة الجميع للحظيرة.. كلف إحدى الدجاجات، بأن تطوف بأرجائها.. فذهبت وعادت مسرعة وهي تقول:
ـ لم يبق أحد في الحظيرة.. يا شيخ زركون.
ـ إذن أشعلوا النار فيها، واجعلوها رمادا.
واشتعلت النار في الحظيرة.. ووقف الشيخ زركون لبرهة من الوقت، يتأمل ألسنة اللهب المتصاعد، ويردد بصوت مسموع: ” اللهم ابتدئ التخريب الآن.. فإن خرابا بالحق.. بناء بالحق ” *.. ولم يغادرها ومن معه.. إلا بعدما صارت رمادا تذروها الرياح.
وخلى المكان من الدجاج، وخيم الظلام الطويل عليه..
ولم يعد ثمة من يؤذن فرحا بقدوم الفجر.
ــــــــــــــــــــ
ملاحظة:بما أن حروف الجر – كما يقول النحاة – تنوب عنبعضها البعض.. فإن حظائر الحيوانات والطيور أيضا، تنوب عن بعضها البعض.. لذا فقد اخترت اسم الحظيرة بدل ( القن ) الذي لا يعرف معناه إلا القليل.
* مع الاعتذار للشاعر العراقي مظفر النواب.