النقد

التَّذَوُّقُ الأَدَبِيُّ وَإِبْدَاعِيَّةُ التَّلَقِي

 

كثيراً مَا نَسْمَعُ عَنْ كَلِمَةِ التَّذَوُّقِ عِنْدَمَا يَدُورُ الحَدِيثُ عَنِ الأدَبِ وَطَرَائقِ دِرَاسَتِهِ ونَقْـدِهِ، وَكَأنَّ هَـذَا التذُوقَ هُوَ قَـرِينُ الإبْدَاعِ الأدَبِي أَوِ الفَنيِّ الذِي لاَ يُفَارِقُهُمَا، وَلِلتَّحَقُّقِ مِنْ صِحَّةِ هَذِهِ الفَرَضِيَّةِ لاَبُـدَّ لنا أنْ نَبْحَثَ عَنْ تَعْرِيفٍ يُوَضِّحُ لنا جَانباً وَلَوْ يَسِيراً عَنْ حَقِيقَةِ التَّـذُوق الأدَبِيِّ، فَفِي مَعَـاجِمِ اللُّغَةِ نَجِدُ أنَّ مَعْنَى كَلِمَةُ ذَاقَهُ: أَيْ اخْتَبَرَ طَعْمَهُ، وَتَذَوَّقَهُ أيْ ذَاقَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَـرَّةٍ. وَانْتَقَلَتْ دِلاَلَةُ الكَلِمَةِ مِنَ المَجَالِ الحِسِّيِّ، وَهُوَ تَذَوُّقُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إِلَى المَجَالِ المَعْنَوِيِّ، مِثْلَ تَذَوُّقِ الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ، أَيْ فَهْمِهِ، وَتَمْييزِ جَيِّدِهِ مِنْ رَدِيئِهِ، وَتَحْدِيدِ طَبَقَتِهِ الفَنِّيَّةِ. وَفِي ذَاتِ الإِطَارِ رَأَى البَعْضُ أنَّ التَّذَوُّقَ الأَدَبِيَّ هُوَ: “تِلْكَ المَـلَكَةُ المَوْهُوبَةُ التِي يُسْتطَاعُ بِهَا تَقْدِيرُ الأدَبِ الإنشائي، وَالمُفَـاضَلَةِ بَيْنَ شَـوَاهِـدِهِ وَنُصُوصِهِ، أَوْ تِلْكَ الحَـاسَّةُ الفَنِّيَّةُ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي تَقْوِيمِ العَمَلِ الأَدَبِيِّ، وَعَرْضِ عِيُوبِهِ وَمَزَايَاهُ”. وَقَدْ عَرَفَ العَرَبُ القُدَامَى لِلذَّوْقِ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: المَلَكَةُ الرَّاسِخَةُ فِي النَّفْسِ، النَّاشِئَةُ مِنْ مُمَارَسَةِ كَلاَمِ العَرَبِ، وَثَانِيهِمَا: هَذَا الاسْتِعْدَادُ الفِطْرِيُّ الذِي يُهَيِّئُ صَاحِبَهُ لإِدْرَاكِ مَا فِي الكَلاَمِ مِنْ جَمَـالٍ، وَمَا لِهَذَا الجَمَـالِ مِنْ أَسْـرَارٍ. وَفِي {المُعْجَمِ الأَدَبِيِّ} يُعَرَّفُ الذَّوْقُ بِأَنَّهُ: “مَلَكَةُ الإِحْسَاسِ بِالجَمَالِ، وَالتَّمْيِيزِ بِدِقَّةٍ بَيْنَ حَسَنَاتِ الأَثَرِ الفَنِّيِّ وَعِيُوبِهِ، وَإِصْدَارِ الحُكْمِ عَلَيْهِ. وَالذَّوْقُ أَسَاساً عَاطِفَةٌ، وَلِذَلِكَ يَتَبَدَّلُ حَسَبَ أَنْوَاعِ البَشَرِ، وَأَزْمِنَتِهِمْ، وَحَسَبَ الطَّـوْرِ الَّذِي يَمُـرُّ بِهِ الإِنْسَـانُ نَفْسُهُ”.

وَبِهَذِهِ المَعَانِي المُشَارِ إِلَيْهَا سَلَفاً يَتَّضِحُ بِالفِعْلِ وُجُودُ عِـلاَقَةٍ قََوِيَّةٍ بَيْنَ الأدَبِ وَالتَّذُوقِ، وَبِالتَّالِي يَبْرُزُ لَدَيْنَا مُصْطَلَحُ “التَّذَوُّقِ الأَدَبِيِّ”، وَثَمَّةَ سُـؤَالٌ هـَامٌّ هُـنَا: كَيْفَ تحـدُثُ عَمَلِيّةُ التَّذَوُقِ هَـذِهِ؟، وَهَـلْ كُلٌّ مِنَّا يَسْتَطِيـعُ أنْ يَتَذَوَّقَ الأدَبَ بِطَرِيقَتِهِ، أَمْ أنَّ لِلمَسْـألَةِ جَـوَانِبُ أخْـرَى؟، لِمُحَـاوَلَةِ الإِجَـابَةِ عَنْ هَـذِهِ التَّسَاؤُلاَتِ سَنَطْـرَحُ المِثَالَ الهَـامَّ التَّـالِي:

عِنْدَمَا نَقْرَأُ النَّصَّ الأَدَبِيَّ (أَيّاً كَانَ نَوْعُهُ) فَإِنَّنَا نَفْهَمُـهُ (بِالطَّبْعِ) عَنْ طَرِيقِ العَقْلِ لَكِنَّ التَّذَوُّقَ يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ المَشَاعِرِ وَالأَحَاسِيسِ. أَيْ أَنَّ الفَهْـمَ أَدَاتُهُ الذَّهْنُ، أَمَّا التَّذَوُّقُ فَأَدَاتُهُ الإِحْسَاسُ المُرْهَفُ الذِي يَتَلَمَّسُ أَوْجُهَ الجَمَالِ الأَدَبِيِ، وَيَكْـشِفُهَا، وَيَسْتَجْلِيهَا، وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي اتِّجَاهَيْنِ أَوَّلُهُمَا: التَّعَرُّضُ لِلأَلْوَانِ البَلاَغِيَّةِ فِي أَيِّ نَصٍّ أَدَبِيٍّ بِاعْتِبَارِهَا عُنْصُـراً أَصِيلاً مِنْ عَنَاصِرِ التَّذَوُّقِ الفَنِّيِّ .. وَالاتِّجَاهُ الثَّانِي: هُوَ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِ هَذِهِ الأَلْوَانِ وَأَثَرِهَا فِي بَيَانِ الفِكْـرَةِ أَوْ تَوْضِيـحِ الصُّـورَةِ أَوْ تَـوْفِيرِ أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الجَمَـالِ اللَّفْظِيِّ أَوِ المَعْنَوِيِّ، فَفَهْمُ النَّصِّ الأَدَبِيِّ يَعْنِي أَنْ نَفْتَـحَ لِفَهْمِهِ أَبْوَابَ العَقْلِ، أَمَّا تَذَوُّقُ هَذَا الأَثَرِ يَعْنِي أَنْ نَفْتَحَ لِفَهْمِهِ أَبْوَابَ القَلْبِ؛ فَنَتَذَوَّقُهُ تَحْتَ تَأْثِيرِ الدَّفْـقَةِ الوِجْـدَانِيَّةِ، وَالحِـسِّ المُرْهَفِ الرَّقِيقِ.

وَمِنْ أَجْـلِ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ يَقْرَأُ النَّصَّ الأَدَبِيَّ ـ سَـوَاءٌ أَكََـانَ قَصِيدَةً شِعْرِيَّةً أَوْ قِصَّةً قَصِيرَةً أَوْ رِوَايَةً أَوْ غَيْرَهَا ـ وَيَتَمَكَّـنَ مِنْ فَهْـمِهِ لَكِـنَّهُ لَمْ يَتَلَمَّسْ أَوْجُهَ الجَـمَالِ فِيهِ بِمَشَـاعِرِهِ وَأَحَاسِيسِهِ فَإِنَّهُ ـ فِي نَظَرِي ـ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ؛ لأَنَّ رِسَالَةَ الأَدِيبِ الَّتِي يُضَمِّنُهَا لِعَمَلِهِ الإِبْدَاعِيِّ (وَالَّتِي قَدْ تَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ رُمُوزٍ لَهَا دِلاَلاَتٌ مُعَيَّنَةٌ أَوْ إِشَارَاتٍ غَيْرِ مُبَاشِرَةٍ لَهَا مَغَـازٍ مُحَدَّدَةٍ أَوْ خَلِيطٌ مِنْ هَذَا وَذَاكَ مَعاً أَوْ غَيْرِهِمَا) تَحْتَـاجُ مِنَّا لِفَهْمِـهَا أَنْ نَتَذَوَّقَ النَّصَّ الأَدَبِيَّ بِكُلِّ جَوَارِحِنَا، وَلاَ نَكْتَفِي بِمُجَـرَّدِ القِـرَاءَةِ السَّـرِيعَةِ العَـابِرَةِ مِنْ دُونِ عِنَايَةٍ وَتَأَمُّلٍ، فَالأَدَبُ كَمَا يَصِفُهُ أَحَـدُ الأُدَبَاءِ: يَتَّجِهُ إِلَى الوِجْدَانِ؛ لأَنَّ مَقْصَدَهُ الوِجْدَانُ، بَعْدَ أَنْ يُمَدَّ بِالإِدْرَاكِ الحِـسِّيِّ وَالعَقْـلِيِّ اللَّذَيْنِ يَسْمَحَانِ لَهُ بِالمُرُورِ عَبْرَهُمَا إِلَى أَعْمَاقِ وِجْدَانِنَا.. وَبِالتَّالِي، يَرْتَبِطُ “التَّذَوُّقُ الأَدَبِيُّ” بِتَلَقِّي النَّصِّ الإِبْدَاعِيِّ، فَفِي مَعَاجِمِنَا العَرَبِيَّةِ نَجِدُ التَّلَقِّي يُفِيدُ: الاسْتِقْبَالَ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ التَّلَقِّي فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ لِلدِّلاَلَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّلْقِينِ وَالتَّوْفِيقِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَـوْلُهُ تَعَالَى: “وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ”، {سُورَةُ فُصِّلَت، الآيَةُ:34}، وَقَـوْلُهُ تَعَالَى: “فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ”، {سُورَةُ البَقَرَةِ، الآيَةُ: 36}، أَيْ أَخَذَهَا عَنْهُ. وَتَأْسِيساً عَلَى هَذَا الطَّرْحِ، يَتَّضِحُ لَنَا أَنَّ الاسْتِعْمَالَ القُرْآنِيَّ لِمَادَّةِ التَّلَقِّي إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِيَّةِ التَّفَاعُلِ النَّفْسِيِّ وَالذِّهْنِيِّ مَعَ النَّصِّ؛ لأَنَّ لَفْظَ التَّلَقِّي يَرِدُ أَيْضاً مُرَادِفاً لِمَعْنَى الفَهْمِ وَالفِطْنَةِ.

وَفِي الأَدَبِ العَرَبِيِّ القَدِيمِ نَجِدُ اهْتِمَاماً بِطَبِيعَةِ الصِّلَةِ وَالتَّفَاعُلِ بَيْنَ المُبْدِعِ وَالمُتَلَقِّي، وَعِلاَقَتِهِمَا الوَثِيقَةِ التِي تُسْهِمُ فِي إِضْفَاءِ شَرْعِيَّةِ فَهْمِ النَّصِّ وَتَحْدِيدِ فَضَائِهِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ الجَاحِظُ: “إِنَّ مَدَارَ الأَمْرِ وَالغَايَةِ الَّتِي إِلَيْهَا يَجْرِي القَائِلُ وَالسَّامِعُ، إِنَّمَا هُوَ الفَهْمُ وَالإِفْهَامُ”، وَالمَعْنَى ذَاتُهُ يُؤَكِّدُهُ الفَرَزْدَقُ عِنْدَمَا أَجَابَ ابْنَ الأَعْرَابِيِّ بِقَوْلِهِ: “عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تُؤَوِّلُوا”، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى تَعَدُّدِ قِرَاءَاتِ النَّصِّ الوَاحِدِ وَتَنَوُّعِهَا، وَبِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، فَإِنَّ كَوْنَ المُتَلَقِّي مِنْ أَهْلِ الذَّوْقِ وَالمَعْرِفَةِ يُعَدُّ مِنَ الأَرْكَانِ الرَّئِيسِيَّةِ فِي العَمَلِيَّةِ الإِبْدَاعِيَّةِ، إِذْ يُشَكِّلُ الغَايَةَ وَالهَدَفَ فِي هَذَا المَجَالِ، وَمَعْنَى الذَّوْقِ عِنْدَ المُعْتَنِينَ بِفُنُونِ البَيَانِ كَمَا يَرَى ابْنُ خلْدُونَ هُوَ: “حُصُولُ مَلَكَةِ البَلاَغَةِ لِلِّسَانِ”، بَيْنَمَا يَرَى آخَرُونَ أَنَّ الذَّوْقَ: “كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ تُدْرِكُ بِهَا الخَوَاصَّ وَالمَزَايَا الَّتِي فِي الكَلاَمِ البَلِيغِ”، أَيْ أَنَّ الذَّوْقَ قُدْرَةٌ فِطْرِيَّةٌ خَاصَّةٌ تَقْدِرُ بِهَا النَّفْسُ عَلَى مَعْرِفَةِ الإِبْدَاعِ الحَسَنِ الرَّصِينِ، وَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُعَلِّلَ بِهَا لِهَذَا الحُسْنِ بِذِكْرِ مَوَاضِعِ الجَمَالِ وَأَسْبَابِهِ.

أَمَّا عَلَى صَعِيدِ الدِّرَاسَاتِ الغَرْبِيَّةِ، فَقَدْ أَخَذَ الحَدِيثُ عَنْ جَمَالِيَّةِ تَلَقِّي النَّصِّ حَيِّزاً وَاسِعاً فِي الدِّرَاسَاتِ النَّقْدِيَّةِ الحَدِيثَةِ خُصُوصاً خِلاَلَ العُقُودِ الأَرْبَعَةِ الأَخِيرَةِ، حَيْثُ كَانَتِ الانْطِلاَقَةُ حَسَبَ رَأْيِّ البَعْضِ مِنْ جَامِعَةِ كونستانس (Constance)، عَلَى يَدِ العَالِمِ الأَلْمَانِيِّ (هانس روبرت ياوس)، ثُمَّ تَلاَهُ فِي ذَلِكَ (فولفغانغ إيزر)، الذِي تَبَنَّى آرَاءَ (ياوس) لِبَلْوَرَةِ مَفْهُـومٍ جَدِيـدٍ يَحْتَفِي بِالْعِـلاَقَةِ المُتَبَـادَلَةِ بَيْـنَ النَّـصِّ وَالقَـارِئِ، إِيمَاناً بِمَا لِلْقَـارِئِ مِنْ دَوْرٍ فَـاعِلٍ وَمُهِمٍّ فِي صِيَـاغَةِ مَعْنَى النّـَصِّ.

يَرْجِعُ اهْتِمَامُ (هانس روبرت ياوس) بِمَسَائِلِ التَّلَقِّي إِلَى اشْتِغَالِهِ بِالْعِلاَقَةِ بَيْنَ الأَدَبِ وَالتَّارِيخِ، وَهُوَ غَالِباً مَا يُرَكِّزُ عَلَى السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي أَصَابَتْ تَارِيخَ الأَدَبِ، وَعَلَى وُجُوهِ العِلاَجِ لِهَذَا الوَضْعِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى نَسَبَ (ياوس) إِلَى الشَّكْلاَنِيينَ الفَضْلَ فِي اصْطِنَاعِ الإِدْرَاكِ الحِسِّيِّ الجَمَالِيِّ بِوَصْفِهِ أَدَاةً نَظَرِيَّةً فِي سَبْرِ أَغْوَارِ الأَعْمَالِ الأَدَبِيَّةِ. وَقَدْ سَمَّى ياوس نَظَرِيَّتَهُ بِجَمَالِيَّاتِ التَّلَقِّي، وَهِيَ تَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الجَوْهَرَ التَّارِيخِيَّ لِعَمَلٍ فَنِّيٍ مَا لاَ يُمْكِنُ بَيَانُهُ عَنْ طَرِيقِ فَحْصِ عَمَلِيَّةِ إِنْتَاجِهِ، أَوْ مِنْ خِلاَلِ مُجَرَّدِ وَصْفِهِ، وَالأَحْرَى أَنَّ الأَدَبَ يَنْبَغِي أَنْ يُدْرَسَ بِوَصْفِهِ عَمَلِيَّةَ جَدَلٍ بَيْنَ الإِنْتَاجِ وَالتَّلَقِّي، أَيْ مِنْ خِلاَلِ التَّفَاعُلِ بَيْنَ المُؤَلِّفِ وَالجُمْهُورِ. وَهُوَ يَرَى أَنَّ “العَمَلِيَّةَ العَقْلِيَّةَ فِي تَلَقِّي نَصٍّ مَا لَيْسَتْ بِحَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ فِي الأُفُقِ الأُولَى لِلتَّجْرِبَةِ الجَمَالِيَّةِ، مُجَرَّدُ مَجْمُوعَةٍ اعْتِبَاطِيَّةٍ مِنَ الانْطِبَاعَاتِ الذَّاتِيَّةِ المُجَرَّدَةِ، وَلَكِنَّهَا -بِالأَحْرَى- إِنْجَازٌ لِتَوْجِيهَاتٍ بِعَيْنِهَا فِي عَمَلِيَّةِ إِدْرَاكٍ مُوَجَّهَةٍ، يُمْكِنُ فَهْمُهَا وِفْقاً لِدَوَافِعِهَا الأَسَاسِيَّةِ، وَإِشَارَاتِهَا المُثِيرَةِ، كَمَا يُمْكِنُ كَذَلِكَ وَصْفُهَا عَنْ طَرِيقِ اللِّسَانِيَّاتِ النَّصِّيَّةِ”. وَقَدْ كَانَ ياوس عَلَى وَعْيٍ بِمَفْهُومِ التَّجْرِبَةِ الجَمَالِيَّةِ عِنْدَمَا شَرَعَ فِي تَحْلِيلِ “المَقُولاَتِ الأَسَاسِيَّةِ” الثَّلاَثِ لِلْمُتْعَةِ الجَمَالِيَّةِ مِنَ النَّاحِيَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَهِيَ: فِعْلُ الإِبْدَاعِ، وَالحِسُّ الجَمَالِيُّ، وَالتَّطْهِيرُ. وَالمَقُولَةُ الأُولَى مِنْهَا تُشِيرُ إِلَى الجَانِبِ المُنْتِجِ مِنَ التَّجْرِبَةِ الجَمَالِيَّةِ، أَيْ إِلَى المُتْعَةِ الَّتِي تَنْجُمُ عَنِ اسْتِخْدَامِ المَرْءِ لِقُدْرَاتِهِ الإِبْدَاعِيَّةِ الخَاصَّةِ، بَيْنَمَا يُعَبِّرُ الحِسُّ الجَمَالِيُّ بِوَصْفِهِ التَّلَبُّثُ المُمْتِعُ فِي حُضُورِ التَّجَلِّي الكَامِلِ، عَنْ ذَرْوَةِ مَعْنَاهُ، أَمَّا مَقُولَةُ التَّطْهِيرِ فَقَدْ فُهِمَتْ عَلَى أَنَّهَا العُنْصُرُ الوَاصِلُ بَيْنَ الفَنِّ وَالمُتَلَقِّي، وَمِنْ ثَمَّ يُمْكِنُ بَحْثُ التَّطْهِيرِ جُزْئِيّاً مِنْ خِلاَلِ تَحْلِيلِ التَّوَحُّدِ الجَمَالِيِّ. فَهُنَاكَ التَّوَحُّدُ القَائِمُ عَلَى التَّدَاعِيَاتِ، وَالتَّوَحُّدُ النَّاشِئُ عَنِ الإِعْجَابِ، وَالتَّوَحُّدُ العَاطِفِيُّ وَغَيْرُهَا.

وَفِي ذَاتَ المَجَالِ بَرَزَ أَيٍضاً (فولفغانغ إيزر)، أُسْتَاذُ الأَدَبِ الإِنجِلِيزِي، مِنْ مَجَالِ التَّوَجُّهَاتِ التَّفْسِيرِيَّةِ فِي النَّقْدِ الجَدِيدِ وَنَظَرِيَّةِ القَصِّ. وَقَدْ اهْتَمَّ (إيزر) بِصِفَةٍ مَبْدَئِيَّةٍ بِالنَّصِّ المُفْرَدِ، وَبِكَيْفِيَّةِ ارْتِبَاطِ القُرَّاءِ بِهِ. وَمَعَ أَنَّهُ لاَ يَسْتَبْعِدُ العَوَامِلَ الاجْتِمَاعِيَّةَ وَالتَّارِيخِيَّةَ فَقَدْ جَعَلَهَا لاَحِقَةً بِالمَسَائِلِ النَّصِّيَّةِ الأَكْثَرِ تَفْصِيلاً، أَوْ مُنْدَمِجَةً فِيهَا. وَيَرْسُمُ (إيزر) الحُدُودَ بَيْنَ ثَلاَثَةِ مَيَادِينَ لِلاسْتِكْشَافِ: المَيْدَانُ الأَوَّلُ، يِشْتَمِلُ عَلَى النَّصِّ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ بِالقُوَّةِ لِلسَّمَاحِ بِإِنْتَاجِ المَعْنَى وَاسْتِغْلاَلِهِ، وَالمَيْدَانُ الثَّانِي، يَفْحَصُ فِيهِ (إيزر) عَمَلِيَّةَ مُعَالَجَةِ النَّصِّ فِي القِـرَاءَةِ، وَهُنَا تَكُونُ لِلصُّوَرِ العَقْلِيَّةِ أَهَمِّيَّةً قُصْوَى. وَالمَيْدَانُ الثَّالِثُ، بُنْيَةُ الأَدَبِ البَلاَغِيَّةِ، مِنْ أَجْـلِ تَفَحُّصِ الشُّـرُوطِ التِي تَسْمَحُ بِقِيَامِ تَفَاعُـلٍ بَيْنَ النَّصِّ وَالقَارِئِ.

وَلِكَيْ يَصِفَ (إيزر) التَّفَاعُلَ بَيْنَ النَّصِّ وَالقَارِئِ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ عَدَداً مِنَ المَفَاهِيمِ المُسْتَعَارَةِ مِنْ مُنَظِّرِينَ آخَرِينَ،وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ أَكْثَرِهَا إِثَارَةً لِلْجَدَلِ مَفْهُومُ “القَارِئِ الضِّمْنِيِّ”، وَيُعَرَّفُ القَارِئُ الضِّمْنِيُّ فِي الكِتَابِ الذِي يَحْمِلُ اسْمَهُ بِأَنَّهُ: “حَالَةٌ نَصِّيَّةٌ، وَعَمَلِيَّةُ إِنْتَاجٍ لِلْمَعْنَى عَلَى السَّوَاءِ”، وَ الشَّئُ الذِي يَسْعِى إِلَيْهِ إيزر يَتَمَثَّلُ فِي طَرِيقَةٍ لِتَقْرِيرِ حُضُورِ القَارِئِ دُونَ أَنْ يَكُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَعْرِضَ لِقُرَّاءَ حَقِيقِيينَ أَوْ فِعْلِيينَ.

وَفِي فرنسا خَطَتْ نَظَرِيَّةُ التَّلَقِّي خُطْوَاتٍ مُهِمَّةًً عَلَى يَدِ مُفَكِّرِينَ مُهِمِّينَ أَمْثَالَ (أمبرتو إيكو) وَ(رولان بارت)، وَغَيْرِهِمَا، حَيْثُ صَنَّفَ (إيكو) مَثَلاً القُرَّاءَ إِلَى نَوْعَيْنِ:المُتَلَقِّي الحَاذِقُ، الذِي يَنْتَبِهُ إِلَى بُنْيَةِ النَّصِّ، وَالمُتَلَقِّي السَّاذَجُ الذِي يَنْحَصِرُ فِي ثَنَايَا النَّصِّ. كَمَا أَنَّهُ أَكَّدَ أَنَّ النَّقْدَ الكَلاَسِيكِيَّ يَسْعَى لأَنْ يَجِدَ فِي النَّصِّ أَمْرَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: مَقَاصِدُ المُؤَلِّفِ، وَثَانِيهِمَا: مَقَاصِدُ النَّصِّ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَقَاصِدِ كَاتِبِهِ، وَغَايَةُ مَا يُرِيدُ (إيكو) أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ هُوَ تَنْظِيمُ نَوْعٍ مِنَ العِلاَقَةِ التَّفَاعُلِيَّةِ بَيْنَ مَقَاصِدِ النُّصُوصِ وَمَقَاصِدِ المُتَلَقِّينَ. وَيُدْخِلْ (إيكو) القَـارِئَ كَطَـرَفٍ أَسَـاسِيٍّ فِي عَـمَلِيَّةِ خَـلْقِ العَـوَالِمِ المُمْكِنَةِ لِلنُّصُـوصِ السَّـرْدِيَّةِ إِلَى جِـوَارِ المُؤَلِّفِ؛ لأَنَّهُ يُـدْرِجُ الأَدَبَ ضِمْـنَ نَظَـرِيَّةِ الاتِّصَالِ القَـائِمَةِ عَلَى التَّرَاسُـلِ المُتَبَادَلِ بَيْنَ قُطْبَيْـنِ؛ أَحَدُهُمَا يُرَكِّبُ رِسَالَةً وَيَقُومُ بَإِرْسَالِهَا، وَالآخَـرُ يَتَلَقَّاهَا، وَيَقُومُ بِفَكِّ شَفْرَاتِهَا، وَإِعَادَةِ بِنَائِهَا بِصُورَةِ عَالَمٍ مُتَخَيَّلٍ، مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تَفْعِيلٍ لِدَلاَلاَتِهَا النَّصِّيَّةِ. وَيَنْتَهِي (إيكو) إِلَى التَّأْكِيدِ عَلَى أَنَّ المُؤَلِّفَ حِينَ يَكْتُبُ نَصّاً، يَصُوغُ فَرَضِيَّةً حَوْلَ تَصَرُّفِ قَارِئِهِ النَّمُوذَجِيِّ، وَطَالَمَا أَنَّ هَذِهِ الفَرَضِيَّةِ تَلْبَثُ عَالَماً يَتَوَقَّعُهُ القَارِئُ وَيَأْمَلُ بِوُجُودِهِ، فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالنَّصِّ، إِنَّمَا بِحَالَةِ المُـؤَلِّفِ النَّفْـسِيَّةِ.

أَمَّا (رولان بارت) فَيُرَكِّزُ عَلَى كَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَ النَّصِّ، حَيْثُ يَذْكُرُ أَنَّ هُنَاكَ نَوْعَيْنِ مِنَ التَّعَـامُلِ مَعَ النَّصِّ فِي هَـذَا المَجَالِ: النَّوْعُ الأَوَّلُ: قَدْ يَجِدُ القَارِئُ اللَّذَّةَ وَالمُتْعَةَ فِـيمَا يَقْرَأُهُ، أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُـوَ أَنْ يَجِـدَ القَارِئَ فِي القِرَاءَةِ وَسِيلَةً يَبْتَعِدُ بِهَا عَنِ الوَاقِعِ الذِي يَعِيشُ فِيهِ لِيَتَعَرَّفَ عَلَى عَالَمِ المُمْكِنَاتِ.

وَلَذَّةُ القِرَاءَةِ عِنْدَ (بارت) هِيَ نَوْعٌ مِنَ الغَيْبُوبَةِ، وَهِيَ تَعْنِي هُنَا أَنَّ القِرَاءَةَ لاَ تْبْغِي أَكْثَرَ مِنْ ذَاتِهَا، فَعِنْدَمَا نَقْرَأُ النَّصَّ الأَدَبِيَّ (الإِبْدَاعِيَّ) قَـدْ يَكُونُ هَدَفُنَا مُجَرَّدُ المُتْعَةِ الذَّاتِيَّةِ فَقَطْ لاَ غَيْرَ، وَفِي هَـذِهِ الحَالَةِ نَكُونُ مُشَارِكِينَ فِي النَّصِّ لاَ مُتَلَقِّينَ سَلْبِييـنَ لَهُ، مِمَّا يُؤَثِّـرُ بِشَكْـلٍ أَوْ بِآخَـرَ عَلَى عَـَملِيَّةِ التَّذَوُّقِ لِهَذَا النَّصِّ الذِي نَقْـرَأُهُ. وَيَصُوغُ (بارت) مُشْكِلَةَ النَّظَرِيَّاتِ العَامَّةِ لِلْقِرَاءَةِ مِنْ خِلاَلِ تَفْكِيرِهِ فِي هَذِهِ الجُمْلَةِ التِي تَبْدُو بَسِيطَةً: “أَنَا أَقْرَأُ النَّصَّ”، فَهُوَ يَعْزُو إِلَى “الذَّاتِ”- شَأْنُهُ شَأْنُ مُنَظِّرِي التَّلقَيِّ- دَوْراً مُنْتِجاً فِي عَمَلِيَّةِ القِرَاءَةِ، كُلَّمَا ازْدَادَتِ العَنَاصِرُ المُتَعَدَّدَةُ التِي يَسْتَوْعِبُهَا النَّصُّ، تَضَاءَلَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كُتِبَ قَبْلَ قِرَاءَتِي إِيَّاهُ. وَلَكِنَّهُ – عَلَى خِلاَفِ النُّقَّادِ الأَلْمَانِ- يَمْتَدُّ بِهَذِهِ التَّعَدُّدِيَّةِ إِلَى الـ(أَنَا) كَذَلِكَ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ تَغَيُّرُ عَمَلِيَّةِ القِرَاءَةِ نَفْسِهَا. وَمَا يُمَيِّزُ قَارِئَ (بارت) هُوَ أَنَّهُ يَتَشَكَّلُ مِنْ عَدَدٍ لاَنِهَائِيِّ مِنَ الشَّفْرَاتٍ وَالنُّصُوصِ.

“وَبِحُكْمِ أَنَّ النَّصَّ الأَدَبِيَّ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَفِي آنٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ القَارِئَ مُرْغَمٌ عَلَى القِرَاءَةِ التَّدْرِيجِيَّةِ، لِذَلِكَ يَنْدَمِجُ فِي بُنْيَاتِ النَّصِّ، وَيُعَدِّلَ كُلَّ لَحْظَةٍ مَخْزُونَ ذَاكِرَتِهِ فِي ضَوْءِ المُعْطَيَاتِ الجَدِيدَةِ لِكُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ القِـرَاءَةِ”. وَلِذَلِكَ يُشِيرُ بَعْضِ البَاحِثِينَ إِلَى جَـوَازِ اعْتِبَـارِ التَّلَقِّي “فِعْـلاً إِبْـدَاعِـيّاً، لاَ يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُـدُودِ الاسْتِقْبَالِ المُبَاشِرِ لِلنَّصِّ، بَلْ يُسَـاهِمُ فِي تَأْكِيـدِ هَـوِيَّتِهِ، وَتَطْـوِيعِهِ فِي بُنْيَةٍ جَمَـالِيَّةٍ فِـكْرِيَّةٍ اجْـتِمَـاعِيَّةٍ لَهَا عِلاَقَةٌ بِأَيديُولُوجيَا الجُمْهُـورِ”.

وَمَا يَنْبَغِي الإِشَارَةُ إِلَيْهِ هُنَا أَنَّ التَّذَوُّقَ الأَدَبِيَّ ــ بِاعْتِبَارِهِ خُطْوَةً جَـوْهَرِيَّةً تَأْتِي لاَحِـقاً بَعْدَ التَّلَقِّي ــ يَتَأَثَّرُ(بِطَبِيعَةِ الحَالِ) بِعِدَّةِ عَوَامِلَ خَاصَّةٍ بِكُلِّ فَرْدٍ، وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا إِلَى مُسْتَوَيَيْنِ، أَوَّلُهُمَا: خَـلْفِيَّةُ الفَـرْدِ الثقّـافِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ بِكُلِّ مَا تَحْتَوِيهِ مِنْ قِيَمٍ وَمَعَارِفَ وَخِبْرَاتٍ مُتَشَابِكَةٍ وَمُتَرَابِطَةٍ مَعَ بَعْضِهَا البَعْضِ.

أَمَّا المُسْتَوَى الثَّانِي: فَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِسيكُولُوجِيَّةِ القَارِئِ، وَحَالَتِهِ أَثْنَاءَ قِرَاءَتِهِ لِلنَّصِّ الأَدَبِيِّ، وَمَا يَعْتَرِيهِا مِنْ فَـرَحٍ أَوْ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ أَوْ أَلَمٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غَضَبٍ، وَمَا يَنْتُجُ عَنْهَا مِنْ عَمَلِيَّاتٍ عَقْلِيَّةٍ كَالتَّفْكِيرِ وَالتَّذَكُّرِ وَالتَّخَيُّلِ وَالانْتِبَاهِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ يُؤَثِّرُ دُونَ شَكٍّ فِي التَّذَوُّقِ الأَدَبِيَِّ، فَعِنْدَمَا يَشْعُرُ القَارِئُ بِالحُزْنِ مَثَلاً لأَيِّ سَبَبٍ وَيُقْـبِلُ فِي هَـذِهِ الحَالَةِ عَلَى قِرَاءَةِ نَصٍّ أَدَبِيٍّ يَكُونُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِلتَّأَثُّرِ، وَرُبَّمَا حَتَّى البُكَاءِ عِنْدَ أَوَّلِ مَشْهَـٍد مَأْسَاوِيٍّ حَزِينٍ يُصَوِّرُهُ هَذَا العَمَلُ الأَدَبِيُّ، بَلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ نَرَى القَارِئَ يَتَصَوَّرُ أَنَّ هَذِهِ القِصَّةَ أَوِ القَصِيدَةَ الشِّعْرِيَّةَ تَتَحَـدَّثُ عَنْ هَمِّهِ وَأَلَمِهِ هُوَ، أَوْ تُصَوِّرُ مَوْقِفاً يُشْبِهُ لِحَدٍّ كَبِيرٍ المَوْقِفَ الـذِي يَعِيشُهُ، ذَلِكَ لأَنَّ اللاشُعُـورَ يَتَعَـامَلُ عَادَةً مَعَ أَشْيَاءَ مُقْنِعَةً، فَإِذَا اهْتَزَّتْ نُفُوسُنَا اهْتِزَازاً عَمِيقاً بِقِصَّةٍ مِنَ القِصَصِ وَأُثِيرَتْ بِشِدَّةٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْنَا فَهْمُهَا، فَذَلِكَ لأَنَّنَا قَبِلْنَا سِرّاً هَذِهِ القِصَّةَ عَلَى أَنَّهَا قِصَّتُنَا، وَتَعَرَّفْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا فِي أَشْخَاصِهَا، حَتَّى لَوْ رَسَمَ لَنَا الكَاتِبُ شُخُوصاً فِي عَالَمِهِ الخَاصِّ بِسِمَاتٍ جِسْمِيَّةٍ وَمِزَاجِيَّةٍ فِيهَا اخْتِلاَفٌ جُزْئِيٌّ أَوْ كُلِّيٌّ عَنْ وَاقِعِنَا فَإِنَّنَا ــ وَمِنْ خِـلاَلِ المَوَاقِفِ ــ نُعِيدُ اكْتِشَافَ ذَوَاتِنَا، وَنَتَعَرَّفُ عَلَى حَقِيقَةِ أَنْفُسِنَا مِنْ خِلاَلِ مَـا يُشِيعُهُ الكَاتِبُ فِي رُوحِ العَمَلِ دُونَ أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ، بَلْ يَتْرُكَ القَارِئَ لِيَتَذَوَّقَ النَّصَّ بِذَائِقَتِهِ هُوَ، وَكَثِيراً مَا يَكُونُ التَّذَوُّقُ مُخْتَلِفاً مِنْ قَـارِئٍ لآخَرٍ، وَذَلِكَ تَبَعاً لِطَبِيعَةِ العَوَامِلِ المُؤَثِّرَةِ فِي التَّلَقِّي وِالإِدْرَاكِ المُشَارِ إِلَيْهَا سَلَفاً، وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا بِوُضُوحٍ أَنَّ “التَّذَوُّقَ الأَدَبِيَّ” إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ المَشَاعِرِ وَالأَحَاسِيسِ، وَيَتَأَثَّرُ بِكَافَّةِ السِّمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ لِلْفَرْدِ (سَوَاءٌ العَقْلِيَّةِ مِنْهَا أَوِ الوِجْدَانِيَّةِ)، فَحُزْنُ القَارِئِ أَوْ فَرَحُهُ يَنْعَكِسُ عَلَى فَهْمِهِ لِلنَّصِّ الأَدَبِيِّ وَتَذَوُّقِهِ لَهُ، فَرُبَّمَا يَفْهَمُهُ لأَوَّلِ وَهْلَةٍ بِطَرِيقَتِهِ الخَاصَّةِ وَلَكِنْ بِتَأْثِيرِ حَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ (أَوْ سَيْكُولُوجِيَّتِهِ) الآنِيَّةِ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَذَوُّقِهِ إِلاَّ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ فَرَحِهِ أَوْ حُزْنِهِ أَوْ خَوْفِهِ أَوْ انْفِعَالِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ عَنِ الإِطَـارِ العَامِّ الـذِي يَسِيـرُ فِيهِ النَّصُّ الإِبْدَاعِيُّ، وَيَسْتَدْعِي أَنْ يَتَذَوَّقَـهُ القَـارِئُ بِنَـاءاً عَـلَيْهِ.

________________________

أَهَمُّ المَرَاجِعِ وَالمَصَـادِرِ:

أَوَّلاً: الكُتُبُ:

  • جَبُّور عَبدُ النُّـورِ، المُعْجَـمِ الأَدَبِيِّ، بيروت: دار العـلم للملايين، (د.ت).
  • روبرت هـولب، نَظَرِيَّةُ التَّلَقِي: مُقَـدِّمَةٌ نَقْـدِيَّةٌ، ترجمة: د.عز الدين إسماعـيل، القاهـرة: المكتبة الأكـاديمية، 2000.
  • عَبْدُ العَزِيزِ شَرَف، كيف تكتبُ القِصَّةَ؟، القاهرة: مُؤسَّسَةُ المُختار لِلنَّشْرِ وَالتَّوْزِيعِ، 2001.
  • عبد العليم إبراهيم، المُوَجِّهُ الفَنِّيُّ لِمُدَرِّسِي اللغَةِ العَرَبِيَّةِ، ط4، القاهرة: دار المعارف، 1968.
  • عَبْدُ اللهِ إِبْرَاهِيم، التَّلَقِي وَالسِّيَاقَاتِ الثَّقَافِيَّةِ، بيرُوت: دارُ الكِتَابِ الجَدِيدَةِ المُتَّحِدَةِ، 2000.
  • مُحَمَّد حَافِظ دِيَاب، “السِّيرَةُ الشَّعْبِيَّةُ: إِبْـدَاعِـيَّةُ الأَدَاءِ”، فِي مَجْمُوعَةِ بَاحِثِينَ، الإبـدَاعُ فِي المُجْتَمَعِ العَـرَبِيِّ، الرِّبَاطُ/ المَمْلَكَةُ المَغْرِبِيَّةُ: المَجْلِسُ القَـوْمِيُّ لِلثقَافَةِ العَـرَبِيَّةِ، 1993.
  • مُصطَفَى مُجَاهِـدِي، بَرَامِجُ التلفزيُونِ الفَضَائيِّ وتأثيرُها في الجُمهُـور: شَبَابُ مَدِينَةِ وَهرَان نَمُوذَجاً، سِلسِلَةُ أطرُوحَـاتِ الدكتوراه (94)، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011.

ثَانِياً: الدَّوْرِيَّاتُ:

  • بسام بركة، “لماذا نقرأُ؟ الصُّورةُ التي تضيعُ والكلمَةُ التي تبقى”، مجلة: العربي، الكويت، وزارة الإعـلام، العدد: 518، يناير 2002.
  • مُحمَّد عبد الله عطوات، “الذوقُ الأدبِيُّ: مفهُومُهُ وتطوُّرُهُ وعلاقتهُ بالنقد وعلم الجمال”، مجلة: المنهاج، بيروت، مركزُ الغدير للدراسات والنشر، العددُ: الخامس والستون، ربيع 2012.
  • مُحمَّد ملياني، “المنهجُ الأدبِيُّ: منهجُ جَمَالِيَّةِ تلقِّي النَّصِّ الأَدَبِيِّ الواقعُ والمأمُولُ”، مجلة: الكلمة، بيروت، مُنتدى الكلمَة للدِّرَاسَاتِ وَالأبحَاثِ، صيف 2011.

مقالات ذات علاقة

كاشان: مشروع الروائي الخلّاق

محمد النعاس

فرج العشة يلفظ الزفرة الأخيرة للمثقف الليبي

المشرف العام

من وحي قصيدة: رجولة

زهرة سليمان أوشن

اترك تعليق