(قراءة وتقديم لكتاب “هوامش على دفتر الأيام” لإبراهيم الهنقاري)
(من ثمارهم تعرفونهم) ابن عربى
هذا دفتر متكامل غزله خيط واحد لاْيام وسنوات بعيدة. ذكريات ومذكرات. حكاية ابراهيم سامى الهنقارى الذى تشاء الصدف ان يصدر دفتره مع بلوغه الثمانين. فما بين عامى 1935 و2015 تجربة وحصيلة ورؤية وحصاد. محطة وقف عندها الهنقاري ىمتاْملا ومتذكرا لتلك السنوات واحداثها. يغوص فيها ويذوب.. يشتعل حنينه ويتوهج.. يستقطر اللحظات ويستعيدها. يستل من ذاكرته كل القديم الذى كون تفاصيل حياته طفلا وصبيا ويافعا ورجلا. والدفتر بهذا كله اضافة مهمة الى مكتبة السيرة الذاتية فى ليبيا التى مازالت تتلمس طريقها وتنتظر المزيد من الكتابة. فلدى ابنائها المخلصين ما يقولونه.. ويقدمونه.
فى هذا الدفتر تجربة وتفاصيل. حصيلة انسانية تداعت عبر الصور والظلال.. وتشابك الاحداث والوقائع وايام العمر. عبر اْلوان المرارة والبهجه.. والاقدام والاحجام.. والحماس والاندفاع ومن خلال ذلك كله كان الهنقارى ليس ساردا او راويا فقط. كان شاهدا ومشاركا ومتاْملا وناقدا. وعاش هذه الايام بين التجربة والخطاْ وبين التردد والانطلاق وبين التفاؤل والخوف. انها ليست تجربته او حصيلته فحسب كما يبدو لنا من خلال قراءتنا. هى تاريخ جيل.. وتاريخ وطن فى اللحظة ذاتها. الخاص هنا يرتبط بالعام. وثمة علاقة لاتنفصم بين الاثنين.. يلتقيان ولايفترقان.. يتماهيان بكل وضوح.
شى مبهج ان نلم بتجربة جيل الهنقارى ومعاناته. ونبصر تفاصيلها. قد نتفق.. قد نختلف لكننا فى النهاية ندرك باْن ثمة ثمار تجنى.. وحصاد على مد العين سنفوز به. الهنقارى واحد من جيل الثلاثينات الليبى. وهو جيل يضرب جذوره فى الواقع ويشكل جزء منه وله شاْنه ودوره وخصائصه. جيل له مميزاته وهناته عندما خاض التجربة والخطاْ.. وعبر الحياة ولم يتوقف.
هذا الجيل فى ليبيا كان رديفا لجيل العشرينيات الماضية وكان واسطة العقد لجيل اكبر سابق فى التجربة والدور والرسالة. جيل الثلاثنيات ولد وتربى وعاش فى ظروف صعبة. الاحتلال الايطالى كان باتساع الوطن كله من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب. ليس ثمة استثناء. الى غات البعيدة حيث ولد الهنقارى وخلفها كان استعمار اخر يغطى تونس والجزائر وبقية افريقيا المجاورة. وعلى الحواف اكاكوس تبستى وتاسيلى التى نقش الانسان الليبى القديم عليها ابجديته ورسوماته. حضارة كانت هناك. اختلطت مع التاريخ وتواصلت معه عبر دقات الطبول وايقاع الرقصات وانعكاس لهب الشمس على الرماح.. والرمال وقطعان الغزلان السارحة تحت ضوء القمر.. واْثر خبب المهارى فى الدروب والتلال.
جيل نهض وفتح عينيه بين حربين عالميتين الاولى والثانية وازمات اقتصادية تمر بالعالم والظروف متلاطمة الامواج.. معقدة وصعبة. ولم تكن هناك فى البيوت البسيطة مظاهر لرفاهية او حياة الدعه. الوطن بالكامل تضربه الاْميه والاْمراض والتخلف والتقاليد التى تشده الى الوراء. تشابكات وتقاطعات فى وطن فسيفساؤه تكاد تكون فى الغالب واحدة. مدن الشمال على الساحل وقرى متباعدة وواحات وصحراء طويلة.. والاحتلال باْغلاله التى يرسف فيها الوطن والمواطن معا. الحياة بسيطة جدا.. فى الزاوية كما فى غات.. كما فى ليبيا كلها من اقصاها الى اقصاها ولا اثر لاية نهضة سوى تلك التى ارادها المحتل لمستوطنيه الذين احضرهم عبر البحر ممتلئين جوعا الى الارض بعد ان استقرت الامور عقب انتهاء المقاومة الوطنية قبل مولد الهنقارى باْربع سنوات. تلك صورة الوطن المتباعد المترامى الاطراف حين ولد الهنقارى وجيله ايضا. وطن متباعد حقا والامكانيات فيه غير متوافرة. المواصلات والاتصالات معدومة وصعبة. الكهرباء صعبة المنال والوجود. التعليم يمشى ببطء فى الزوايا والخلاوىفيما المدارس تقبل التلميذ المحلى الى مرحلة معينة ثم تتركه وحيدا فى الشارع. والحياة تمضى رغم ذلك.. الزراعة ورعى الحيوانات وبعض الحرف البسيطة وانتظار سقوط المطر والدعاء فى حال تاْخرها.. واْحيانا جدب وقحط واحتباس وجوع. ومظاهر اخرى كثيرة. والطفولة لاتهناْ بسعادتها.. باْنسانيتها. والامراض تفتك. ومع ذلك فالجيل الاب الرائد وفقا لما يتيسر له يظل ينهض بالمسؤولية ويقوم بالواجب. الوالد الشيخ محمد الهنقارى.. القاضى والعالم مثل غيره من المعلمين والعلماء والموظفين الوطنيين تحمل نصيبه وحمل مسؤوليته وارتضى بالعمل فى كل مكان فى ليبيا خدمة لاْبنائها فى ظروف الاحتلال.. ابنائها المحتاجين. تنقل الوالد وعمل فى غات وهون وغريان وطرابلس وغيرها. كان لرجل الدين والقاضى الدور التنويرى فى حل المشكلات والتقاضى بين الناس والتثقيف باْمور الحياة. وكان عبر هذا التنقل مربوطا ايضا بهموم الوطن وراْى كل شيْ على طبيعته. ومن غات وهون البعيدتان عن الساحل فى جوف الصحراء لم يكتف بذلك فقط. اخذ يكتب وينشر ما يكتبه فى ليبيا المصورة.. المجلة الشهيرة التى ادارها رجل وطنى فى بنغازى البعيدة اسمه عمر فخرى المحيشى الذى جمع خلالها كل الشباب والكتاب.. افكارهم ومواهبهم ونقاشاتهم وصوتهم فى ظروف الاحتلال والاستيطان. اضافة الى الشيخ الهنقارى ارسل الكثيرون مثله بنتاجهم الفكرى والادبى من طرابلس ونالوتومصراتة وسرت وبنغازى ودرنة وجالو والبردى واجدابيا والقاهرة. تواصلت الافكار والتقت فى ليبيا المصورة. مقالات وقصائد وقصص ونقد وتحقيقات ومراسلات. دور كبير وفعال تجاه الوطن رغم معاكسة الظروف. دور مغلف فى وجه الاحتلال. نهضة ثقافية حملها الرواد من الجيل الاب فى تلك الايام. نشاْت عبر جهود المعلمين والمثقفين. وهذا شيء يحسب لاولئك الرجال من ليبيا. وفتح جيل ابراهيم بصره عليه وان كان بصورة غير متكاملة بحكم السن وتكون لديه وعي واحساس بالوطن وبتاريخه. بيئة واعية مثقفة ووطنية تتواصل وتتكىْ فى القديم على جذور الاسرة فى الزاوية التى تعمر بالزوايا والكتاتيب ونشر التعليم والتى ستشهد مقاومة صلبة ضد الايطاليين حين وصولهم اليها اواخر 1911 وكان فى مقدمته مع ابنائها محمد اْمين المهدوى القادم من بنغازى ووالد شاعر الوطن اْحمد رفيق. كان اْيامها قائم مقام فى الزاوية وجعل ينظم الصفوف ويسهم فى المقاومة والنضال. وستشهد الزاوية ايضا فى مرحلة لاحقة تاْسيس اول مدرسة ثانوية وطنية يدرس فيها ابراهيم مع زملائه.. ثم اول مدرسة عسكرية للجيش الليبى عقب الاستقلال. حراك وتواصل لا يتوقف.
كان الوطن رغم التباعد والتمدد يقع فى قلب الجيل الاب ولم يكن ثمة قطيعة مع الوطن. كان للوطن مكانته وقيمته وبهذه الروح الوطنية.. روح الانتماء وروح التمرد والرفض للاجنبى والشعور المتعاظم بكيان الوطن وبهويته وشخصيته.. انتقلت الى الجيل اللاحق.. جيل الثلاثنيات فنهض بالاعباء وبالمسؤولية رغم العثرات والخيبات. واصل حلمه وشعوره بالانتماء الحقيقى وانتزع تجربته بحفر الصخور باظافره.. بعرقه.. بالجوع.. بالايام القاسيات والليالى المظلمة سوى من بقايا توهج فتيلة زيت او بعض من ضوء قمر معلق فى السماء. جيل افرغ معاناته حبا لليبيا. كان اول من سعى حثيثا وهو فى تعطش للمعرفة عقب الحرب العالمية الثانية للالتحاق بالمدارس ثم الجامعات ومرافق العمل ولم يستنكف عن المساهمهفى البناء.. بناء الوطن. جيل الهنقارى لم يولد وفى فمه ملاعق من ذهب او فضه. جيل ضم رجالا من مثلعبدالمولى دغمان وعبدالحميد البكوش ورشاد الهونى ومصطفى الشيبانى وعامر الدغيس ومنصور رشيد الكيخيا وعبدالحميد الطيار ومنصور محمد الكيخيا ومحمد عبدالكريم الوافى والصادق النيهوم وسالم قنيبر وفاضل المسعودى وعلى بوزقية ومحمد المطماطى وحسين مخلوف وعلى الرقيعى وحسن صالح وابوالقاسم بن دادو ويوسف قنبور وجمعه ابراهيم منصور واحمد يونس نجم وابوبكر الهونى وفتحى جعودة وعمر بن عامر ومحمد السكر.. وغيرهم. هذا الجيل سيتشرب الوطنية من معلميه عندما قرعت اجراس المدارس المتهالكة فى القرى والمدن غداة الحرب وسيعدو باْجسام نحيلة وملابس رثه نحو تلك المدارس.. وكلهم سواء بسواء. ليس هناك فرق على امتداد ليبيا كلها. وسيتعلم معانى التضحية ودروس العطاء. وسيظل ثمة شيء رائع فى صدره.. الاحساس بالوطن طوال النهار.. بليبيا.. وباْنها جديرة بالحياة والبقاء. وسيتحمل التبعات والمواجهة.. يتحمل الجوع والمرض. سيجلس على قطع من اللوح الصلب وفى فصول رطبه وتكاد تكون معتمة وبقليل من كسر الخبز وحبات التمر والزيت.. وبالرعاية والحدب رغم قسوة الواقع من الجيل الاب.. وينهض بليبيا من اكوام الرماد والظلام.
صار لاْغلب افراد هذا الجيل شاْن فى رسم معالم ليبيا بعد استقلالها وتاْسيس الدولة. بعضهم درس فى الخارج وكان عقله فى ليبيا والاخر فى اول جامعة تكونت بها وفى معاهد المعلمين ثم اسهموا فى التعليم والادارة والتربية والرياضة واكتساب الخبرات. منهم المثقف والكاتب والمعلم والشاعر والمؤرخ والسياسى والوزير والمربىوالرياضى والمذيع والادارى ورجل القضاء والمحاماة.. وغيرهم. جيل تلاقح مع الثقافة والمعرفة دون تعصب وانفتح على العالم وفهم الامور وفقا لما يسود وكان التغيير الى الافضل حلما لا يبارح العقول. تغيير المجتمع وتثقيفه ونقل الخبرة اليه وفتح الطرق المظلمة امام ابنائه بالانتماء للوطن على الدوام. كان الشوق للتعلم والثقافة والمعرفة كبيرا.. كبيرا جدا وكان جيل الثلاثينات الليبىفى عمومه جيلا مشرقا.. من نوع اخر.
وحين حدث الحراك والمخاض السياسى داخل الوطن فى الاربعينيات.. والعمل باتجاه الاستقلال.. وصدور الصحف ونشوء الجمعيات السياسية والانشطة الفكرية.. شارك هذا الجيل بما يستطيع -رغم فارق السن- مع الجيل الاب بالكتابة والمظاهرات والتصدى لمشاريع التقسيم والانفصال التى باتت شبحا يقترب من الوطن.. وبالحماس والوعى دون توقف. وفشلت المشاريع بالطبع واضحت ليبيا هى الحاضنة للجميع. وهنا اقترب الهنقارى من والده ورفاقه. بداْت تطرق سمعه مصطلحات ومفاهيم جديدة.. المجلس الاستشارىللامم المتحدة.. مصير ليبيا.. لجنة الواحد والعشرين.. جمعية الستين.. لجنة الدستور. الاجتماعات والمحاضر والزخم السياسىوالاراء والتوجهات وكلها تتوخى ليبيا ايضا. وعرف ان والده مع اولئك الرفاق يضعون اللبنات الاولى وحجر الاساس لتطور ليبيا وحراكها الدستورى والديمقراطى فى المستقبل. ثم ليصاب بالمرارة مع جيله والاخرين عندما حدث الزلزال الذى وصل بليبيا الى الخلف وقضى على حلم الاباء فى نضالهم المعاصر.. والاجداد فى كفاحهم القديم.
تلك كانت حصيلة تجربة الجيل بحكم المواجهة مع الحياة والظروف المتلاحقة.. جيل عاش حياته لوطنه تلك الايام ولم يكن يدرى باْن ذلك الزلزال سيحدث تداعيات عنيفة عبر التغيير غير المتوقع والذى لم يكن حلما لذلك الجيل وغيره من الوطنيين. زلزال سيقضى على الحلم ويرمى بكل القيم والاخلاق والسلوك والتاريخ ومعالم الحضارة واستخدام العقل والحكمة ويؤسس لمفاهيم جديدة وغريبة جعلت من الوطن بقعة سوداء وسط العالم.
عام 1955. كان عاما فارقا فى حياة ليبيا والهنقارى. تكونت اول جامعة فى اواخر العام بعد اعلان الاستقلال باربع سنوات. ووصل الهنقارى الى عامه العشرين. وجد نفسه فىبنغازى مع الدفعة الاولى للجامعه الذين شكلوا بعددهم الذى بلغ واحد وثلاثين طالبا نواة كلية الاداب والتربية. كان المقر هو قصر المنار الذى من شرفته اطل الملك ادريس على الناس واعلن الاستقلال فى 24 ديسمبر 1951 ومنحه ليكون الجامعه الليبية. وبذلك صار للاستقلال معنى يتوهج مع العلم والفكر وبناء الدولة بعقول ابنائها. تشكلت الكلية بذلك العدد من الطلبة.. وخمسة اساتذة.. ومدير وبضعة من الموظفين. وظل الحلم يمتد ويكبر.. الجامعة والجيل والوطن والمستقبل. واضحت الجامعه بهذا كله من معالم الحلم الوطنى والوحدة الوطنية. التقت الدفعه الاولى واغلبها من جيل الثلاثنيات من كل مكان من الوطن وتجمعت على الحلم فى المبنى الصغير.. فىبنغازى الصغيرة.
مرحلة الخمسينيات لم تكن كلها جميلة. لكنها فى مجملها كانت رائعة. الوطن كان يعيش على المساعدات. والفقر والتخلف والمرض تبدو بوضوح. والخزينة العامة خاوية الوفاض اغلب الايام. ليس هناك موارد تذكر ورغم ذلك ظل الامل يقوى ويشتد لبناء الوطن مع وجود الاختلاف والتباين. ورغم السلبيات والقصور بحكم الظروف كان ثمة ايجابيات. اهتمام من الدولة والمسؤولين وحرص من الجيل الاب ومساندة من الجميع. واوجد ذلك نتاجا وطنيا وفكريا وثقافيا واجتماعيا وحراكا للنهوض بالوطن ولاشىْ غيره.. صحف ومجلات وانشطة ومحاضرات ووفود ومشروعات وهامش من الحرية ومتابعة لما يدور فى العالم القريب والبعيد. وكان لابد للجيل بل والوطن كله ان يتاْثر بما هو سائد فى المنطقة. وتسارعت خطوات التحول فى ليبيا.. البحث عن النفط واكتشافه ومجىْ الشركات الاجنبية.. ايفاد المعيدين من الجامعه للدراسة فى الخارج. ثورة الجزائر ومعاناة فلسطين ومعركة قناة السويس وبور سعيد وثورة العراق واحداث لبنان والاطماع الاجنبية واخبار وحركات التحررفى اسيا وافريقيا والانبهار بقادتها.. وصوت العرب وخطب عبدالناصر وتيار القومية والوحدة. واليسار والسجون.. والتمرد والرفض.. والفكر والفلسفة. كان لابد من الانجداب والتاْثر والمشاركة. كان ثمة ارهاصات ومحاولات للعمل السياسى المبنى على الحماس والعاطفة فى اغلب وجوهه. صواب او خطاْ.. ذلك امر اخر. انها الظروف والمحاكاة والتصورات والخيال والوعود باستعادة امجاد الامة الواحدة. وكان مايدور على الواقع شيئ يختلف. الانسان العربى يبحث عن حريته التى افتقدها فى الداخل.. ولم يدر باْن عدوه من الاساس فى الداخل ايضا. لكن ماكينة الاعلام تظل هى الاقوى. ووجد الهنقارى نفسه فى هذا الزخم اضافة الى الفلسفة والمثالية وعلم الكلام والمنطق الصورى. والفلسفة كانت عالما لوحده ربما لاتلتقى مع السياسة. الفلسفة تريد الحرية والسياسة تضع امامها العقابيل والسجون.. فكيف تلتقيان. الحرية والقمع. الانطلاق والحجر. التنفس وتكميم الافواه.
الجامعه شهدت وجود اساتذة كبار من العرب والاجانب. البداية كانت قوية. واتجه الهنقارى الى قسم الفلسفة ووجد هواه فيها. وكان هناك امامه استاذه الكبير محمد عبدالهادىابوريدة رئيس القسم. كان استاذا وعالما ومتصوفا ومترجما ومحققا.. من جيل العمالقة العرب الاكاديميين تلك السنوات. هذا الاستاذ كون القسم واسسه واهتم بطلبته بكل ابوة وعلمية واراد من خلال هذا الاهتمام والتكوين تاْسيس مدرسة فلسفية ليبية حديثة تعيد روح ومجد مدرسة الفلسفة الليبية القديمة التىنشاْت على هضاب قورينا فى الجبل الاخضر. مذهب اللذه والمكتبات والمشائين وقاعات الرياضة والعلوم والحكمة. قورينا احدى مدن العالم القديم.. الحضارة والعقل والعطاء.. كانت هناك وانتشر تلاميذها فى كل البقاع.. كاليموخس مؤسس مكتبة الاسكندرية الشهيرة واحدا منهم.. وغيره. اراد ابوريدة وصل الماضى بالحاضر.. الفلسفة بالفلسفة وهى ام العلوم. والعلم بالعلم من ناحية اخرى. وكانت الجامعه الليبية الوليدة مجالا خصبا لذلك.. لحرية البحث العلمى والعطاء والنقل واعمال العقل. اختار الاستاذ العالم من الدفعة الاولى (1959) ابراهيم الهنقارى ومحمد بالروين ومن الثانية (1960) محمد احمد الشريف ومحمد حسنى شعبان ومن الثالثة (1961) محمد عبدالكريم الوافى ومن الرابعه (1962) على فهمى خشيم ومحمد ياسين عريبى. ومنعت الظروف البعض من الاستمرار فى تحقيق الحلم الفلسفى الكبير. وربما كان الهنقارىفى هذه الاجواء مشروع فيلسوف منتظر.. لم يتم!!
نال الهنقارى ليسانس الاداب بامتياز فى اول دفعة للجامعه ووجد نفسه فى مكان اخر غير الفلسفة ومحاوراتها. كان من المفترض ان يعين معيدا. لكن احتياج الدولة الى المعلمين الاكفاء من الخريجين جعلتها توجه اغلب افراد الدفعة الى التدريس بالمدارس الثانوية والاعدادية المنتشرة بالمملكة. كان التعليم يقع فى اولويات اهتمامات الدولة. تريد استباق الزمن وتفتح امام العقول والاجيال كل وسائل المعرفة. تجربة بسيطة خاضها الهنقارى لكنه عين فى الاذاعة الليبية. اضحت تعرف بهذا الاسم منذ العام 1957. تكونت ضمن مشروعات الدولة الوطنية وصارت ايضا من معالم الوطن. كانت هناك اذاعات محلية تبث فىبنغازى وطرابلس بضع ساعات لا تفىبالحاجه. اتجهت الفلسفة الى الاذاعة. والفلسفة تلتقى مع الفكر والفن والادب والذوق ولا تتقاطع معه. وشارك الهنقارى بجهده مذيعا واداريا مع زملائه للنهوض بالمرفق المهم الذى يخاطب كل الوطن على امتداده بالخبر والبرنامج والتعليق والاغنية واللحن والحديث.. وكل شىْ يدفع بموضوعة الوعى وخلق الانسان الليبى الناجح فى كل الميادين!
تجربة الاذاعة كانت مهمة للهنقارى واخلص العطاء من خلالها واتيحت له الفرصة لتقديم البرامج وبعض المسلسلات والتعرف على العالم الاخر.. على تجارب الاخرين فى هذا المجال عبر حضور المؤتمرات واللقاء مع المسؤولين والايفاد فى الدورات للاستفادة والعودة بحصيلة تضاف الى التجربة.. الى العمل المتواصل. ثم كان هناك السجن بسبب قضية حزب البعث التى شملته مع العديد من شباب الوطن الحالم بالتغيير على مستوى الامة وليس على مستوى ليبيا فقط. كان هناك شباب مثله ورجال يكبرونهم سنا من طرابلس وبنغازى ودرنة والزاوية وغريان ومصراتة وفزان اضافة الى مجموعة من العراق وسوريا والاردن وفلسطين. كانوا يحلمون بالامة الواحدة ذات الرسالة الخالدة…… ولكن !!
والسجن محطة اخرى فى حياة الهنقارى.. او تجربة داخل التجربة. ايام وليال ومحاكمة وقضاء العقوبة ثم الافراج عنه وعن زملائه بعد نفاذ المدد القانونية ليعود اغلبهم الى سابق اعمالهم او دراستهم وكاْن شيئا لم يحدث. العقوبة انتهت. والحياة تسير والدولة رغم كل شى تحتاج الى جهود ابنائها. انهم جزء من الوطن ولابد من اشراكهم فى البناء والتشييد. ولعل هذا الامر يحسب لفترة العهد الملكى الذى لم تكن من صفاته الانتقام والملاحقة بسبب تهمة انتهت بانقضاء العقوبة. كان القانون وكان الدستور فى الغالب يغل من ذلك فى جميع الاحوال استثناء من بعض السلبيات والتعثرات والتجاوزات التى قدر لها ان تحدث فى الحالة الخطاْ.!
والعودة الى الاذاعة استمرت بعض الوقت.. تغير النظام الفيدرالى والغيت الولايات فى ابريل 1963 واصبحت المملكة تتكون فى نظامها الادارى الجديد من عشرة محافظات. وفى العمل الاذاعى وقعت فى خضم التجربة مواجهات واصطدامات بين قديم وجديد.. عقليات وافكار مختلفة.. وتباين واختلاف. تبدلت بعض الامور وبعض الناس من المسؤولين وغيرهم. وهنا اتجه الى محطة اخرى تختلف عن سابقاتها. كان السيد محمد عثمان الصيد قد استحدث فى حكومته عام 1961 اول وزارة للبترول. النعمة التى ظلت المورد الرئيس للبلاد فيما انعكس ذلك على خطط التنمية وخدمة المواطن وتنمية المجتمع بكل صوره وفئاته. ولكن هذه النعمة ايضا التى تسمى البترول اضحت لدى البعض مصدرا للتكالب والجشع وحدثت جراءها تغيرات فى السلوك والمعاملات. ثمن التقدم او الحضارة او الرفاهية. نقل الهنقارى الى وزارة البترول وعمل باخلاص وحماس مع زملائه لتحقيق الاداء الافضل. طموحات واحلام. والفلسفة ورائحة النفط ايضا لايلتقيان.. لكنهما فى كل الاحوال التقيا وصار الهنقارى من موظفيها البارزين تلك الايام.
واذن بهذه الحصيلة الكبيرة تكون تجربة الهنقارى هى تجربة جيل وسيرة وطن. حكى الرجل عن هذه التجربة بما فيها وبما عليها. لم يحك او يسرد تجربته فقط لكنه فى الواقع نفذ الى تجربة جيله بكاملها وسيرة الوطن ايام الفقر والحرب والجوع والتاْسيس والتاْثر بالجيل الاب والاحلام والتطلعات التى تنهض ثم تتلاشى وتضرب وتضيع.. وكذا ايام الرخاء والتنوير وتحقيق المنجزات الوطنية فى التعليم والاقتصاد وبناء الدولة ومراعاة الدستور والقوانين وكرامة الانسان والتواصل مع الاجيال والانطلاق بقوة لبناء المستقبل لليبيا الى حدوث ذلك الزلزال المريع الذى لم يسلم الهنقارى مثل غيره من تداعياته.. اقصاء وسجون وتحقيقات وعقوبات من اجل راْى وفكر. ضاع معنى الوطن لدى الاجيال وصار الحلم كابوسا مزعجا طوال الليل والنهار ايضا.
واذا كان الهنقارى من خلال هذه التجربة والسيرة فى دفتر الايام قد اختصر كثيرا فى بعض التفاصيل وكان عليه ان يطيل.. الا انه لامس كل الاجواء والافاق بروح المحايد والشاهد والمشارك. لم يدع لنفسه بطولة او دورا وهميا. ارتفع عن الحقد رغم لحظات الغضب فى بعض الاحيان. كان يتحدث باخلاص من خلال الاخرين وبكل صراحه. كان يقسو احيانا وصريحا فى احيان اخرى ومجاملا بلباقة فى غيرها ومتجاهلا لبعض الادوار والمواقف لكنه فى دفتر الايام كان وطنيا.. يحكى بلسان ليبيا وطموحات جيله واحلامه وانتصاراته وهزائمه. ليبيا والجيل اللذين منيا بخسارة فادحة ومؤلمة عبر الكارثة والصدمة بالتغيير العسكرىفى سبتمبر 1969. تبدلت بأخرى بواقع جديد وثقافة جديدة ورؤى ومفاهيم جديدة غاب فيها الوطن ونشاْت اجيال اخرى وانقطعت عن تاريخها وطمست ذاكرتها بفعل فاعل معروف غير مجهول واصبحت ليبيا شيئا مخجلا ووطنا نكرة لايذكر.. اسماء والقاب وصفات اخرى تتردد طوال اليوم. اضحت ليبيا غير ليبيا السابقة التى يعرفها ابراهيم وجيله. تضخ الحقد والكراهية والتباعد والانتقام دون النظر الى البعيد.. الى ماسيترتب عن ذلك فى المستقبل.
وفى ديار الهجرة استقر الهنقارى وبداْ حياة اخرى مع اسرته بعد ان ضاق الوطن وصغر بالتخلف والحقد.. يراقب ويرى مثل الكثيرين ضياع الوطن ويفقد الاحباب.. الوالد والوالدة والاصدقاء والجلسات الهانئة فى الوطن والعيش الكريم.. يفقد الوطن والحلم الذى ضرب فى عز نهضة الوطن الذى بداْ يتطور ويسير باْنفاس المخلصين من ابنائه. مرحلة مظلمة عاشتها ليبيا ولم يكن يدور فى خاطر اجيالها السابقة واللاحقة ان تحدث بهذه القسوة وبهذا العنف وبهذا التردىفى الاخلاق والقيم والمثل وبهذا الحقد الذى غطى النفوس على مدى اربعة عقود من الزمن.. كانت كفيلة تماما بجعل ليبيا شيئا اخر لايوصف.
ان تجربة الهنقارى فى هذا الدفتر تجربة صادقة وحافلة وضاجة بالوقائع والاحداث والرجال والاماكن وهو امر نحتاجه اليوم.. نحتاج الى كتابة تاريخنا وسرد ذكرياتنا وتقديمها لاجيال ليبيا المفتقرة الى التحسيس بالانتماء والشعور الحقيقى باْن ثمة تاريخ قد طمس وينبغى الان ان يظهر من خلف الغيوم لاْن محاولات التشويه والاقصاء والتزييف شملت كل شىْ. والتصدى من معاصرىوصانعى تاريخنا الليبى المعاصر بالكتابة ونقل ماحدث باْمانة شيئ مطلوب وضرورى وهو الكفيل بمحو معالم التشويه والطمس. الصدق ينفى الكذب والشمس تطرد الظلام. ان المكتبة التاريخية الليبية المعاصرة تحتاج الى جهد مثل جهد الهنقارى. وعلى غيره من الشهود والمعاصرين فى مختلف المواقع والمراكز القيام بالكتابة والرواية بروح الوطنية والحياد والعلمية لسد النقص المريع فى ذاكرة الوطن. ان دفتر الايام بطريقة اخرى يدعو الجميع من اصحاب التجارب المماثلة لتحريك الساكن وخض الراكد. والامم تنهض بتاريخها وتفخر بها. لا ترمى بتفاصيله فى صناديق القمامة ولا تنكر ادوار رجالها ونسائها فى التاْسيس والريادة والنهوض والتنوير. الامم العظيمة تتسامح مع تاريخها وتحترمه وتاْخذ منه الايجابى على وجه العموم وتسقطه على واقعها المعاش وتستفيد منه.. ليس من قبيل الحماس او باب العاطفة ولكن ترسيخا للفهم والعقل والمنطق والمسؤولية تجاه الوطن. وعلى الليبيين تدارك ذلك وعدم السخرية او نسيان ماضيهم وتراثهم او الغاؤه. عليهم ان لايقفوا عنده فقط ولكن للتقدم نحو صنع الحاضر والمستقبل.
وهذا مافعله ابراهيم الهنقارى طوال صفحات دفتر ايامه. قدم تجربته باخلاص وحمل كتابه بيمينه وضمنه خلاصة عمره فى عامه الثمانين. دفتر غزله خيط واحد منذ البداية والى النهاية. ولم يكتف بما يفعله البعض بترديد التاريخ على الافواه.. او لعن الظلام. دفتر الايام فيه مذاق الوطن.. ورائحة عشق الاجيال. وفى ذلك كثير من العزاء!!
____________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل