النقد

النص الشعري النسائي الحديث في ليبيا

أيقونة الجسد المصلوب في هيكل الروح

 منصور العجالي

” لا تولد المرأة منا حين تولد امرأة ، إنما هي الثقافة في شموليتها من تشكل هذا المخلوق الذي ننعته بالأنثى ” …  سيمون دوبوفوار

يحفل المشهد الشعري الليبي الحديث بكوكبة من الأصوات النسائية الإستفزازية التي تحاول المقاربة أن تعرض لبعض نتاجها في هذه القراءة التقديمية . تراوح النصوص بين نفـَس طليعي حداثي تمردي يدوس بقدمه كل تابوات الخطاب التاريخي والاجتماعي والثقافي والسياسي الموسوم غالبا بمياسم الأب وبين إيقاع ما بعد الحداثة المنحاز إلى ثقافة الجماهير Mass Cult والذي يتساوق في الأدب واللغة مع مفاهيم ما بعد البنيوية التي تخلط كل الأجناس والأوراق لتحيل العالم إلى نص مفتوح يغرق في إطلاقية دلالية أو كتابة مفارقة ينفرد الدال بتشكيل نظامها الرمزي وتعددية إحالاتها .

فاطمة محمود :

” نم هادئا

في حضرة الدخان

توسّدْ صرير هذا القفل

وإن شئت

فارقص /

البحر .. ناء

البذور .. مكممة

الغدير .. دجى

الليل ..

قامة للتمرد

سنشبك في

سترته .. مشكاة

المعصية

        مبتهجين . ”   … ( زهو )

ينشغل نص فاطمة محمود بالتشكيل الخطي البصري لجسد النص متشحا بصيغة من صيغ شعر ما بعد الحداثة المعروف بالشعر المنمذج Concrete Poetry مجاهرا بسعيه لتقويض بلاغيات التلقي القديمة ومعايير القصيدة التى نادى بها الآمدي والمرزوقي في عمود الشعر أو العمودية التي تعيب المعاني المولدة والإستعارات البعيدة نائية بالشعر عن ورش الصناع حاملة له على الطبع دون سواه ليضعنا إزاء كتابة نصوصية تستفيد من تماسها المعرفي بثقافة الآخر وأخذها المباشر عنه دون أن تقع في مأزق انشطار لغة التفكير عن اللغة الأولى للنص . إنه وجع سنديانة تتعرى في غياهب الذاكرة .. في لجة الفقد المترع بشموس غرقى يفضحه سواد البوح الأخرس ، بوح الأنثى عن الأنثى ، وحوار الأنا والحلم المرصود خلف القضبان قلبا بلا أجنحة وجسدا بلا أشرعة . لذا فإنه لا مفر للذات الواعية أمام الخيارات الساكنة والأفق المغلف بالثنائيات الزائفة من امتشاق قامة الليل وخط ثقاب المعصية في وجه أوثان الثقافة الذكورية من جهة ولوقوسنترات الإحالة الواحدة والحقيقة المنطقية التى يلفظها حقل الإيحاءات الشعوري وتضافر النصوص من جهة ثانية .

” هكذا أخذنا .. هكذا

أدركتنا الأباطيل

كل شيء غبار

الابتسامات والنوازع

الضوء حين يميط اللثام عن المكبوتات

الصباح الذي على هيئة قنبلة دخانية

الأزواج والنطف . الكراريس

والمعلمون ، الأصدقاء والمنافض

الخبز والملح . الشرفات

والتحيات التي نلقيها كمن يقشر دملا

بهذه الذخائر أولمنا للأكثر انحطاطا

للذي يبث سطوته في الفراغات

أو في ما تروّج له رؤوسنا من أحابيل

هكذا أخذنا وها نحن المصابون بزهو ممض

كل منا يختال في جلد الآخر

وقد ثقب بالمأرب . ” … ( مكائد )

لا تقف نصوص فاطمة محمود عند حد التمرد والبوح بخبايا مكابداتها إذ أن معجمها الشعري يعكس وعيا حادا بالمأزق اللغوي الذي يدعوه بيكون بأوهام اللغة أو أوهام السوقIdols  of Market Place  المتمثلة في اعتقادنا بأن عقولنا هي التي تتحكم في الألفاظ دون أن نتنبه لكون هذه الألفاظ تعود بدورها لتتحكم في عقولنا . هذا التكبيل الإرادي لا يعيه بحساسية فائقة إلا الشاعر الذي يبدو حذرا متشككا إزاء دلالات الألفاظ ومدلولاتها لأنه كما يقول سارتر يقف خارج اللغة فيرى الكلمات بطنا لظهر وكأنه لا يشاطر البشر حالتهم بل وكأنه يلتقي هذه الكلمات لأول مرة وقد وقفت كالعوائق والحواجز بينه وبين الآخرين ، وبدلا من أن يتعرف على الأشياء من خلال أسمائها فإنه يأخذ في التواصل الصامت معها متلمسا لها فاحصا جاسا فيكتشف فيها خيطا من النور وحشدا من وشائج الألفة والقرابة مع الأرض والماء والسماء وبقية المخلوقات الأخرى . وهكذا يجعلنا تواشج المفردات الكوني في نصوص فاطمة مثل من يواجه لأول مرة كلمات جديدة خبرها ورددها .

” ومشينا /

الطريق تدلك ظهرها

بمرهم الشمس

وترمق الأرصفة

المختنقة /

الدركي

يقطن

أول السطر

يمص دم اللغة

يعتقل الحروف

من تحت النقاط

وينتف

ريش الكلام . ”   … ( ما لم يتيسر)

هذه الجدة والحداثة في توظيف المجازات اللغوية التي تفعمك ظمأ قبل أن تبل عروقك تتقاصر أمام الصور المعراجية التي تتموضع في نصوص فاطمة محمود إدهاش معرفة وتقاطع ثقافات وعمق تجربة :

” كلنا حر حتى اليأس

التي تقرض مصائرنا

لم نصر لاختبار سرك بعد

لا الأدلاء الذين بمعيتك

ولا الذين هم بمعية أنفسهم ليتيقنوك

كذلك الذين حملوا الدلاء واختبروا الأحجار

وبحثوا في حناجرهم عن نشيد . ”    … ( مكائد )

* * * * *

فوزية شلابي :

” ضوضاء

الماء

تبيت في العرجون اليابس “

شكلت نصوص الشاعرة فوزية شلابي الكم الأكبر من المنجزالشعري النسائي الحديث في ليبيا. فقد صدرت لها خمس مجموعات شعرية اختزلت زمن التجربة القصير الذي أنتجها وأظهرت النصوص اللاحقة تجاوزا واضحا للنصوص السابقة سواء على المستوى البنائي أو المستوى الثيمي عكس ميلا أكثر للرمز على حساب التراكيب وانحيازا للذات انزاحت معه وظيفة الشعر من التحريض إلى البوح وانتقل الإهتمام من الحلم بالنموذج البطلProtagonist  إلى الإعتراف بالنموذج العاجز Antihero  في مكاشفة جريئة للتصالح مع الذات التي اتخذت من الجسد مشجبا لها تنوط به أحلامها وتمردها وحتى هلوساتها :

” تهتف موسيقى القرنفل

إمرأة عارية

تستر القصيدة بفخذيها

وللظلال الغامقة

تشدب حنايا ظهرها

الثلجي فيتغور

في خطوط اللوحة

رامبو، عربيدا كان

يدنو من الكراسي

ومن أصابعي

يفر ”       … ( عربيدا كان رامبو)

من الواضح أن نصوص فوزية شلابي ترتكز في دينامية تناصها على الإحالة المعرفية واستدعاء الشخوص وتوظيفها متناغمة في ذلك مع انشغالها الفلسفي بترميز اللغة ودفع الدلالة إلى أقصى احتمالتها وإن كان الإغراق في توظيف مثل هذه الإستدعاءات والإحالات يفضح تورط النصوص في تنصيص مفاهيم الآخر وتقليص دور الذات في بلورة نسقها المعرفي ضمن بنية النص :

” افهمني

فقط افهمني جيدا

ساعة الحائط ليست راقدة

إنها ميتة !

كذلك نيرودا

نوارة الشارع ذابلة

وفر دمعك المتأخر

إنها في كف العائد

تنبت من جديد ”    … ( النوارة ذبلت .. نيرودا مات )

تشكل دلالة الإنتظار على تباين ألوانها ملمحا بارزا في تكوينات هذه النصوص التي تستمد دافعيتها من قلقها الوجودي وانقسام الذات على نفسها بين شهوات الجسد الضاغطة وملاذات الروح العاجزة عن مغالبة النضج من جهة ومصابرة الوحدة والضجر من جهة ثانية :

” نوافذي كانت لم تزل

مشرعة

حين موسم القطاف

حان

هل تدنو

وجهك طازج

يداك

كانتا مغروقتين

والآن

تحتسيان وجهي

صاعدا

فصاعدا

مثلما شجرة اللبلاب ”   … ( يداك تحتسيان وجهي )

* * * * *

خديجة الصادق :

” هذا هو الشعر ياصديقي

رجل يذهب في الوقت

يلف عقارب الساعات

وامرأة

تفصل شوارب الغد

وشاحا

لكتفيك العاريتين “

تبدو نصوص الشاعرة خديجة الصادق أكثرالنصوص بين هذه الأصوات قدرة على رسم لفظ واقعها وفق شعرية تخلو من العقلنة أو حتى الوساطة الذهنية بين العقل والإحساس خالصة إلى تجربة حسية صادقة تجيء نتاج رزح متواصل تحت وطأة اليومي والحياة التى استلبتها المؤسسة الأبوية وشكلت العشائرية الساذجة ثقافتها ورأسمالها :

” ومن طول ما انتظرته

مسندة إلى النافذة

خدها الشاحب

تورد الزجاج لما رآه مقبلا

على ساقيها العاريتين

ألقى نظرته الشبقة

أحست بلزوجة تحاصرها

ركلتها بعنفوان ..

ثم .. ركلتها بدلال

ثم ذابت في حرارتها

اللعنة

وزمت شفتيها

هكذا سيفعل أبي

عندما أخبره

لكني سأرحل مع هذا

القادم من بعيد

قبل أن ترحل

الدهشة عن أبي “

* * * * *

نعيمة الزني :

” صباح أبله

ما عاد يوقظني

ليل فضفاض

لا يتسع لعيني

فهل يحيك لي الله

رصيفا آخر ..؟!

هذا نص آخر لشاعرة مغمورة تتجاوز شعرية نصوصها كثيرا من الأسماء التي تهدر وقتها وجهدها في كتابة هوامش مطولة لنص لم يكتبنه أصلا .. يضعنا نص ” أغنية لكل هذا الحلم ” للشاعرة نعيمة الزني إزاء أسئلة بطعم الرصاص :

” عيني ما عادت تصفعني

فكيف أحلب من نتوء الليل وجهك المستحيل ..؟

من سيرتدي قبعة الغبش

وينثر البرد في ارجوحة الطرقات

يركل ما تبقى من خطى

وينتظرني على ( بوابة التيه ) كهارب أخير ..؟

ياضجيج الرغبة

لم لا تفاجئ الغيم البعيد

وتسكر من نداه المتحجر ..؟

* * * * *

وهكذا ربما يمكننا القول في شيء من التحفظ بأن أغلب نصوص هذه المغامرات تعتمد في تخلقها على التناص والسعي للمؤاخاة وربما التوأمة بين قيم الجمال والجلال داخل النص ، وهي تميل من حيث معجمها الشعري إلى توظيف مفردات النماء المائي كمعادل موضوعي حلمي يشير في تضادية دلالية إلى واقع الإصطلاء والإشتهاء الجسدي الساعي عبثا إلى الإرتواء في حين تتسم البنية التركيبية بظاهرة الجمل الإعتراضية المترتبة عن انشغال النص بالبوح عن الإيصال بالإضافة إلى تواتر حالات الغموض التحويلي Transformational Ambiguity المفضية إلى تعدد الدلالة .

لقد أربك تشعب الفجاج التي يقتحمها النص الحداثي خطى المتلقي القابع في سياج اللغة الواحدة والثقافة الواحدة وربما الذائقة الجمالية الواحدة خاصة إثر تدفق صياغات  ما بعد الحداثة التي أخذت تعبث بالحدود الفاصلة بين المعارف وحتى الثقافات وذلك بفعل ثورة الإتصالات التي اختزلت البعد الرابع وأحالت العالم إلى قرية صغيرة وبذلك ساهمت في تبديد عمر المسلمات والقداسات السابقة وكرست النفس الإرتيابي في نظرة الإنسان للحياة والعالم من حوله متساوقة في ذلك مع طغيان روح التجريب المطردة في كافة المناشط الإبداعية الإبتكارية.

________________________

مجلة أفق- مجلة إلكترونية- السنة: الثانية- العدد: 16- التاريخ:ديسمبر/2001- شهرية

 

مقالات ذات علاقة

عِندما يصبحُ الفسادُ مجرد ردِّ فعْل

رامز رمضان النويصري

ما يخفيه اللثام

نورالدين خليفة النمر

من ومضات المبدع جمعة الفاخري ـ (كأكأة)

عادل بشير الصاري

اترك تعليق