– (( اسمع أيها الصحراوي العنيد، أنا أدرك أكثر منك أن يوم سلامٍ أعرج أفضل من شهر حرب منتصب القامة )) قالت ميرسادة قبل أن تضيف بتأفف
— (( تباً لكم أضعتم ضحك نخيلكم الطيب، وحرقتم بركة زيتونكم،خمس ٌ عجاف ولم تتعلموا الدرس بعد، الحرب لعينة، لعينة جداً بل عمياء، خطفت ( آليا ) مبكراً مني، مبكراً جداً، إبني ( آليا ) لابد إنني حدثتك عنه، قصفته الطائرة اللعينة في سنترو ( سراييفو ) قضى مع أربعين آخرين )).. صمتت ميرسادة قليلاً قبل أن تضيف
— (( فلتسمعني جيداً، إني لك ناصحة،لا تبق بعد رحيل أبنائك، لا تبق يوماً واحداً، إذا مرت بك قاطرة الموت تسلقها حافياً،لاتكن أحمق، بعد أولادك ستموت ألاف المرات ))
— ( رائعة أنت ميرسادة )..قلت لها رافعاً لها إبهامي
— (( ههه لست رائعة، هذيان عجوز حملت على أكتافها ثمانين خريفاً،،أنت صحراوي مزيف، قرأت أن الصحراء الحقيقية لأتعرف المجاملة، تعطي تمراً وسراباً ولدغات أفاعي، لكنها لا تجامل، لا تجامل أبداً.. فلتدعنا من جحيم السياسة، هل علمت أنني سأغادر المصحة غداً ؟ ))
— (أوووه نعم، أخبرتني ( سينادة ) بهذا، أنا سعيد لتحسن صحتك ومقدرتك على المشي بالمشاي، وحزين لأَنِّي سأفتقد ثرثرتك الجميلة)
— (( وأنا سأفتقد عنادك، لا تنسى أن الفضل لي في تعلمك البوسنية، ما لا تعلمه أن بعد غدٍ سيأتي أبني ( آديس ) من المكسيك ))
مالت ميرسادة للخلف حتى لامس رأسها مسند الكرسي قبل أن تضيف مبتسمة:
(( الشقي ياسمين حفيدي سأشبعه تقبيلاً.. ثلاثة أعوام لم أره ييييه، لم أحدثك عنه من قبل، لعبته المفضلة العبث بأقراطي يييه يحرقني اشتياقي للشقي الصغير ))
تلك اللحظة زادت ابتسامتها اتساعا، كانت تبدو وكأنها عبرت صقيع الموت في (سنترو سراييفو ) إلى دفء صحارى المكسيك.
في الغد أقبلت ميرسادة، التقطت صور جماعية مع الأطباء وطاقم التمريض ووزعت على الجميع حلوى وتمنيات وبعض الدموع
أعطتني قطعتي حلوى قائلة:
(( واحدة لك وواحدة لرطب هون الذي أغريتني بمذاقه ولم تحضر لي حبة واحدة منه.. إذا عدت للبوسنة مجدداً يها البخيل، لا تنس وعدك لي..كيلو رطب من نخيلكم الطيب ))
— ( لك ذلك ميرسادة أعدك ))
لم أستطع الوقوف لاحتضانها، فحاولت الضغط قدر الاستطاعة بكفي الموهنة على كفها الأوهن مودعاً.. بعد حوالي الساعة عند صالة الاستقبال، شاهدتها توزع الحلوى على موظفات الاستقبال
— (( أخذت حصتك أيها الصحراوي العنيد )) قالت لي ضاحكة،خرج سائق التاكسي بحقيبتيها بينما خطت هي باتجاه باب المصحة الكهربائي الذي انفتح بمجرد اقترابها منه وكأنه يهم باحتضانها،، دفعت المشاي خارج الباب الكهربائي، غير أن الباب انغلق فجأة قبل أن تعبر، غادر مشاي ميرسادة المصحة أما صاحبته فقد رأيتها، من مكاني تسقط للخلف، نحوها مسرعين هرع العديدون من موظفي الاستقبال وعدد من الممرضين، إما أنا فتسمرتُ على كرسيي المتحرك، وحين مروا بالنقالة التي تحملها من إمامي نحو المصعد طأطأت رأسي، وأشحت بوجهي للناحية الأخرى، كنت أخشى أن أرى صديقتي تتألم، ( سينادة ) موظفة الاستقبال والتي كانت تعلم علاقتي الجيدة بميرسادة خاطبتني قائلة وهي تلحق بهم نحو المصعد:
( ستكون بخير، لا تقلق )، لكنها خرجت بعد دقائق من المصعد باكية، تجنبتَ النظر إلي، لكن دموعها أخبرتني كل كل شيء،أما سامري سائق الإسعاف فقد أكد الخبر بأن نظر إلي وقرب كفيه من بعضهما وباعدهما، يا الله رحلت ( ميرسادة ) دون أن تحضن ابنها ( آديس ) وتشبع حفيدها تقبيلاً، رحلت صديقتي العجوز.. مديناً لها بحبٍ ومودة… وكيلو رطب من نخيلنا الطيب.