قراءات

رسائل تصل الشرق بالغرب على مائدة الأدب

غلاف الكتاب

يشهد التاريخ بأن أول مَن نقل الرسائل هو الحمام الزاجل حيث يعود ذلك إلى الإغريق في اليونان اللذين سنّوا هذه السنة الحميدة عام 776 قبل الميلاد، وذلك بمناسبة نشر ونقل نتائج الألعاب الأولمبية نحو المدن والمناطق البعيدة دون شك أن الإنسان يستشعر سواء كان بوعي أو بلا وعي أنه جزءا أصيل من الأسرة الإنسانية وهو نزوع فطري تتباين درجات ظهوره تبعا لظروف كل بيئة مجتمعية، وما تشكله من آواصر التلاقي بين الحضارات المختلفة، والرسائل جسّرت المسافات لتقدم فرصة ثمينة لتلاقي الثقافات وتلاقحها وتبادل الخبرات المعرفية لدى كل مجموعة بشرية لتُصيّر من المعمورة مكانا واحدا وفق أطوار ومراحل تقدم وتطور شكل الرسائل وألياتها بدءا من الحمام الزاجل والتلغراف وصولا إلى وسائط التقنيات الحديثة المعاصرة اليوم ليكون البشر على صلة مباشرة ببعضهم البعض، ولعل الوعي الذي تفتق عن اختراع الرسائل وتبادلها كان يهدف ربما إلى دفع السلوك البشري نحو التهذيب والارتقاء بمنزلته على وجه الأرض بينما هذا ما لم يتحقق فقد وُظِّفت الرسائل في إذكاء الفتن والحروب وتقطيع أوصال الجماعات لتُضاف بعد زمن إلى جملة مكتسبات الإنسان الحاملة لنقيضيّ المعرفة، شر/خير.

الرسائل في الأدب الليبي
وما استدعى الإشارة إلى هذه التوطئة هو أدب الرسائل باعتباره أحد الفنون النثرية التي اهتدى إليها الإنسان منذ القِدم كي يتمكن بواسطتها من ترجمة واقع مشاعره وما تجيش به أغواره من انفعالات وانطباعات ومشاهدات تحمل على كتف النهار رؤاها إذ جرت السُنّة أن يتبادلها الأدباء والروائيون والشعراء يبثون عبرها لواعجهم وانتصاراتهم وانكساراتهم، لكن مع وفرة الوسائط التقنية الحديثة والاعتماد شبه الكلي عليها انحسر الاهتمام وتراجع توهجه إلى حد كبير، وبالقاء نظرة على أدبنا الليبي نجد فقرا ما في هذا المجال باستثناء المراسلات بين الراحلين “الصادق النيهوم”، و”خليفة الفاخري” من خلال الكتاب المعنون (نوارس الشوق والغربة بعض من رسائل الصادق النيهوم).

تباينات
وبين أيدينا الآن كتاب يُحيي هذه السُنة ويعيد الألق لأدب الرسائل يتمثل في كتاب (أثر الطائر في الهواء) الصادر عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع وهي رسائل تبادلها الأديبان الصديقان الشاعر والمترجم “عاشور الطويبي“، والشاعر “سالم العوكلي” والمُلاحظ للانتباه أن رسائل الأدباء الليبيين ظلت مرهونة بثيمة الاغتراب عن المكان فالنيهوم كان يراسل صديقه الفاخري من هلسنكي في أقصى الشمال الأوروبي والطويبي كان يراسل صديقه العوكلي من تروندهايم بالنرويج الواقعة في سقف العالم مما يوحي بأن الليبي متى ما استوحش الأمكنة وانسلخ عن بُعده الجغرافي استل قلمه وراح يسكب حبر أيامه الباردة في محاولة للتنهّد واستحضار المناطق الدافئة من الذاكرة، وعندما نتأمل رسائل العوكلي المُرسلة من قريته كرسا المتاخمة لمدينة درنة نُحسّ بوقع الدفء وتماسك الأفكار، وهو ما ينحسر وهجه نوعا ما لدى رسائل الطويبي من تروندهايم.

المقدمة البانورامية
الكتاب يستهل متنه بمقدمة مطولة تضم سبرا بانوراميا متكاملا للكاتب والشاعر “خالد مطاوع” على امتداد 30 صفحة تقريبا من إجمالي عدد صفحات الكتاب الـ352 استعرض مطاوع من خلالها عدة محاور عن مهد البدايات، وتاريخ تبادل الرسائل وطبيعة المراسلات كجنس أدبي متداول مستشهدا بالعديد من الأمثولات والتجليات المرتبطة بالتاريخ وبشخوصه، وعبر أولى الرسائل يُعرب الطويبي لصديقه العوكلي عن تمنيه بأن يكون له أنف يشم به التراب والعشب والهواء والسماء، وذلك تعبيرا عما كان يساوره من حزن وضيق فيُخبره عن انكبابه على مشروع إعادة صوغ مثنوي جلال الدين الرومي في المقابل يرد عليه العوكلي معبرا عن غبطته إذ يبدأ يومه بإفطار شهي يتذوق فيه الشعر ويمتصه إلى روحه ويعيده بنكهته ونكهة اللغة التي حلم بها وتألم، وفي رسالة آخر يُحدّث العوكلي الطويبي عن مدى تعلقه حينما كان طفلا بحكاية أم بسيسي وإيقاعها الأخاذ الذي كان يشده نحوها،

إعادة اكتشاف الوجوه
فيما نتوقف عند رسالة أخرى للطويبي يكاد يصرخ فيها جذلا لصديقه العوكلي بالعبارات التالية ( وجدتها وجدتها، وجدت سر شعرك وجدت تركيبة الوجود السالمي) مضيفا بالقول (الغابة والجبل الزعتر والعرعر العسبة المزهرة والشجرة السامقة الحصاة والصخرة الفيمة والريح أنت لم تغادر الغابة والجبل لقد صرت الغابة والجبل شِعرك فوّاح يا سالم )، وفي رسالة أخرى يوضح العوكلي للطويبي عن مخاوفه من انحسار الشعر في ليبيا على مستوى الأجيال برغم نفيه أنه لا يرتبط بجغرافيا أو جنس أو تاريخ كما نتوقف أمام رسالة أخرى للطويبي يؤكد فيها للعوكلي عن كيف أصبح سريع البكاء تجاه كل موقف حزين خصوصا حين تنهمر دموعه فقط لأن هناك إنسان يعيش في مكان ما وحيدا، ويُصوِّر الطويبي اصابته بالدهشة من الأشياء العادية لمجرد أنها تحدث مثل عبور امراة الشارع في عجلة، سقوط ورقة شجرة صياح طائر، ويرصد الطويبي دهشته بالقول (كيف لم ألحظ عظمة الأشياء وهي تحدث كأن عليها أن تحدث وكفى) على المقلب الآخر يكتب العوكلي عن تساؤله المقلق عن أولئك الشعراء العظام اللذين ارتبطوا بالحكام الطغاة وأصبحوا جزءا من مشروعهم السياسي، ويخلص العوكلي إلى إجابة مؤادها أن المشترك الغنائي بين الشاعر والجلاد يحقق هذا اللقاء المفارق حسب وصفه، فيما يكتب الطويبي في رسالة أخرى عن علاقته المعقدة بالأمكنة وعدم شعوره بوجودها أو بالحنين إليها معزيا الأمر إلى فقرها الجمالي على صعيدين الصوت والبصر ما دعاه إلى خلق أمكنة كاملة يصنعها خياله دون نقصان يشعر تجاهها بالحنين حتى يتحقق شرط التوزان النفسي لديه.

مقالات ذات علاقة

مفردات شعرية

ناصر سالم المقرحي

علكة بوشناف والمشروع النهضوي العربي

المشرف العام

الزهور لا تنبت في البرلمان

حسين نصيب المالكي

اترك تعليق