تسعينيات النص الشعري الليبي
منصور العجالي
بعيدا عن أوثان الإنسانية الموهومة وفي مقدمتها اليقينيات تعرض هذه السطور لمفهوم الكتابة على نحو ارتيابي، ذلك لأن الكتابة التي لا يخامرها فعل الارتياب تسقط في براثن الأيديولوجيا أو كما يدعوها “فريدريك أنجلز”: (الوعي الزائف) على أن لا نستسلم لأبجدية كل ارتياب يطرح نفسه في كل مرة شيطان شك ندين له بالمعرفة، وذلك حتى نفوت عليه سيرورة الأدلجة، التي تتبعه ضرورة، إذ أن كل ارتياب يفضي إلى قداسة مؤجلة ما لم ينتهك.
علينا إذا أن نحول بين الشيطان وبين النكتار كي لا نمكنه من سلخ جلده والانضمام إلى ركب الآلهة..
ارتياب في ارتياب
القيم الجمالية موضوع هذه السطور تحديدا رهن بهذه الآلية، أعني فعل الارتياب . الحداثة ذاتها لم تكن غير فعل ارتياب تجاه قداسات المنظومة الثقافية الغربية آنذاك ومن بينها منظومة القيم الجمالية، تلك المنظومة التي لم تعد قادرة على ترجمة وتصوير البانوراما الفاجعة في أعقاب الحرب، وهكذا تجسد فعل الارتياب واضحا إزاء ملائمة الأشكال والصياغات الكلاسيكية للتعبير عن راهنية العالم المكروب حد الموت. وكذلك فعل ارتياب ما بعد الحداثة إزاء الارتياب الحداثي الذي أخذ يتحول بدوره إلى سلسلة من القداسات الجديدة . ولئن كانت الحداثة قد شكلت ارتيابا في قداسات تمتهد الدين والأسطورة فإن طرح ما بعد الحداثة جاء ليشكل ارتيابا إزاء قداسات استنامت لغواية العلم حتى عميت.
تفكيكية “دريدا” فعل ارتياب إزاء مزاعم البنيوية القائلة بمفهوم (ميتافيزيقا الوجود) كما أسماها هايدجر ابتداء.. القراءة المقاومة في النقد النسوي فعل ارتياب إزاء مركزية الفالوس أو الذكر كما يدعوها لاكان.. قصيدة السياب فعل ارتياب إزاء قصيدة شوقي.. الأبيّ الصعب عند الجرجاني فعل ارتياب إزاء الأتيّ السمح عند المرزوقي، وهكذا يتدافع الإبداع ارتيابا في ارتياب.
لا تفضيل أو مقارنة
حين تسوق هذه المقاربة كل هذه الأمثلة تسعى لتأكيد عدم جدوى إصدار أحكام قيمة بشأن القيم الجمالية التي أرستها الاتجاهات السابقة للحداثة أو الاتجاهات الحداثية أو اتجاهات ما بعد الحداثة. هي لا تنتصر بهذا المعنى لعلي صدقي عبدالقادر على إبراهيم الأسطى عمر أو لمدرسة النقد الماركسي على المدرسة الشكلانية بل لتؤكد أن المبحث الجمالي يعنى بتتبع الانتهاكات الضرورية التي تقتضيها كل مرحلة أثناء تشكل القيم الجديدة . السياق إذا ليس سياق مقارنة وتفضيل بين القيم الجمالية على نحو فِقْه جمالي، إنما هو مناط فحص ملاءمة القيم الجمالية للتعبير عن المرحلة .
قد تجسد النصوص اللاحقة سلسلة أفعال ارتيابية إزاء قصائد السوسي.. الزبير.. الرقيعي وحتى الفزاني لكنها لا تتغيا سلفا القطيعة مع التراكم الجمالي الذي أرسته هذه التجارب . هي تفصح في شعريتها عن كون تلك الصياغات لم تعد ملائمة لرصد بانوراما الواقع الراهنة كما بدت في نص ”بلاد تحبها وتزدريك” للشاعر عمر الكدي أو كما هي في نص ”مقعد لعاشقين” للشاعر سالم العوكلي ..
هي تجارب لجيل يتميز أكثر ما يتميز بتخلصه من عقدة أوثان المسرح التي كبلت الأجيال السابقة إلى حد بعيد ربما بحكم ندرة توفر الكتاب أحيانا وضيق النخبوية الأدبية حينا آخر بالإضافة إلى حصر عملية التثاقف في الإيفاد الأكاديمي المحدود . بيد أن هذا الجيل لا يعاني من تعبد أسماء بعينها، فهو ينتقي قراءاته على نحو ذكي تساعده على ذلك تعددية لسانية وشبكة معلومات عالمية تصعد من آلية فعل الارتياب وتقلل من عمر الثوابت والقداسات . هذه مجموعة أصوات أدعوكم من خلال هذه السطور للاقتراب من كونها الشعري .
الانتصار للجسد
يشكل الالتفات للجسد ملمحا هاما في أغلب هذه الكتابات، لكنه التفات يستند إلى ميكانزمات دفاعية، فهو لا يتأسس بقصد اهتبال الشهوة المصادرة فحسب، بل لتحريره من أسر المفهوم الإكليريكي، ومن ثمة تأكيد إنسانيته ومشروعية احتياجه لفضاءات بوح شاسعة ومساحات من الصراخ والبكاء واللذة والجنون وحتى العواء :
“يا جسدي/
الطالع في غبار الألم/ الداخل في زمن المفاجآت
وحدها فاكهة الوجع من
يغمرك بنشوة الكآبة !!”
(فرج أبوشينة)
* * * * *
“الليلة يشتهيني القلم
فكيف لا أعري نهدي
كيف لا أريه صحراء الروح
والخيول تصهل في خواء الجسد
الليلة تشتهيني الكلمة
فكيف لا أريها خراب القلب
والقطط تموء في خواء الجسد..
الليلة تشتهيني طرابلس
فكيف أقبع خلف النافذة
والنافذة تقبع خلف السور
والسور يقبع خلف المدخنة
والمدخنة تنفث كثبانها
البحر ينادي ولا أسمعه..
الليلة أشتهيك
وأحس اللحظة شعرك بين أصابعي
وقسمات وجهك تتلون بقبلاتي
أشتهيك لكن خيول الروح
أشتهيك لكن قطط القلب
أشتهيك لكن كثبان المدخنة
وأنا أعوي.. عو عو عو”
(دلال المغربي)
الكتابة بحد السكين
تعد هذه التجارب من أكثر التجارب تقشفا في معالجتها للواقع حيث يحل الانشغال بواقع الذات الخاص بديلا عن الاهتمام بالمحيط واليومي . إنها كتابات تتخذ من الذات مركزا لها تنفتح من خلاله على الخارج بحيث تصير الذوات شرفات ونوافذ للكلمات التي تكتب واقعها بحد السكين لاعقة دماءها طوال الوقت المقرور خيبة وانكسارا وضياعا :
“صباح أبله
ما عاد يوقظني
ليل فضفاض
لا يتسع لعيني
فهل يحيك لي الله
رصيفا آخر ؟!”
(نعيمة الزنّي)
* * * * *
“ساقي على ساقي أنا
أدندن
حبذا سيجارة غير مختومة
حبذا شاي أبرد
* *
تخيلي..
أنني نظفت مراحيض ألمانيا
وأنا جالس
أمام المصرف التجاري
وأنني شاركت المجندين
ارتجافهم.. فقط
لأنام مبللا بعرق الصحراء
كما ينام كلب تائه
على كومة من العظام
* *
تخيلي
يا عزيزتي، أنني أنا
أنا الذي لم أبلغ الأربعين بعد
خال لأطفال كلهم أحفاد أبي
شيخ القبيلة كلها
تخيلي..
أن الله
يراقب ستة مليارات روح
تخيلي أنه يراني
حين أبتسم أثناء الخطب
وتخيلي أنه لا يراني
عندما أبكي كالنساء”
(نجم الدين بوشيحة)
مناكفة الأمس
تحمل كثير من نصوص هذه التجارب بذورَ تشّكلِ حسٍ نقدي عام يتمظهر غالبا في صياغات شعرية ومضية تشي بمناكفة مسلمات الأمس وتؤسس على نحو استعاري جماليات ذائقة جديدة تنفر من المحسنات البلاغية وتركن عادة إلى جماليات الاختلاف وفي مقدمتها السؤال والمفارقة :
“نكاية
في زهرة على كتف الصبار
أنبت كف الحجر
شجرة “
* * *
“قالت الشمس للجبل
لولاي ما عرفت الشرق من
الغرب
رد الجبل
لولاي.. أنا الواقف
ما انحجبت”
* * *
“حمام أبيض
غراب أسود
لا فرق
فالآفاق لا تعترف
إلا بخفق الأجنحة”
(مفتاح ميلود)
* * * * *
“جالسا
يشطر سنوات عجزه
وحلقة قرص الشمس
بعكازه المغروس بين قدميه
يلعن مناشر القديد الخاوية
وحبال المشانق..
يرثي ملك أبيه، الموسوم بالشظايا
والقبور المجوفة
ويتذكر كيف كانوا
يغسلون ملامح نساءهم بالفحم
كي لا تلغم !
كيف كانوا، يحرمون على أبناءهم
ارتداء أحذية الأعداء
وينقعون القمح في خوذ الجنود !
كيف كانوا، يدسون أنفاس لذتهم
بزجاجات الخمر المنتشرة فيهم
بعدد الشظايا،
وعدد الحجارة
والقبور المجوفة !”
(سعاد يونس)
___________________________
مجلة أفق- مجلة إلكترونية- السنة: الثانية- العدد: 21- التاريخ: مايو/2002- شهرية