حوارات

المهدي الحمروني: الشعر نبرة شجى لا يمكن اصطناعها

السقيفة الليبية

المهدي الحمروني: ”الشعر نبرة شجى لا يمكن اصطناعها“.. ”ربكتي وعزلتي استجابت متأخرًا لقصيدة النثر“.. الشاعر هو الذائقة التي تحسن اختيار نكهة نبيذ خزينه اللغوي في لحظة مفارقة“.. على الشاعر أن يكتب دون كلفة“.. ”الشعر يكتب نفسه بلغتي“…

الشاعر المهدي الحمروني

ينزلق الشاعر المتصوف بحنكة المهدي الحمروني في لحظته الشعورية بفطرة تنأى عن القولبة، وتستجيب للتراكم اللا معملي في وجدانه، فالشعر لديه خالق اللغة منذ أن أجازت له ما لا يجوز لغيره، نبرة شجى لا يمكن اصطناعها، حتى ربكته وعزلته التى استجابت متأخرًا لقصيدة النثر. يكتب دون كلفة كمسافر يحفظ ويحدس طريقه جيدًا، ببصيرة تستبطن خطاه بحس مرهف يستشرف ويسابق الباصرة…

فمن “بقايا الليل”، “ومحيا راودته الآلهة النبوة“ ثمة دواوين على الدرب، وما دامت عناوينه هي ما تبقى لدهشة الميلاد، فقد أودعها لاحتمالات ترقب بزوغ الغيب الواعد…

صنعتَ حالة شعرية خاصة بك تشيء برؤيتك للقصيدة والـ هي، لماذا؟ لماذا الشعر؟

> تفتحتُ -فيما يشبه التطور البدائي للإنسان- على الرسم فغدا النص في باصرتي لوحةً مُثلى، ثم أفلتتُ التشكيل إلى التشبع بسليقة المأثور اللحني والنص الموسيقي، الذي عبر بي إلى القصيدة العمودية. كانت عدم قدرتي على الحفظ منهلي في الاستزادة بما يثيره فيّ من شكوك في الإفلاس.. لكنه تفضّل عليّ باختزالي لهويتي في آخر المطاف، لهذا كان الشعر ولا يزال هو جوهر بحثي ودأبي نحو صوغ ورسم لوحتي الخاصة، وولائي له كتعبيرٍ أوفى وأقرب لتشكيل الخيال الخاص بي.

ثمة من يقول أن الحمروني ظاهرة شعرية مهيبة، راهب لغوي مجتهد، فما هو زادك؟

> ظللت أقرأ بمزاج انتقائي له دوراته المناخية الصحراوية، مزاج خاضع للتباين القارّي والرياح الموسمية، والرمال المتحركة القلقة المتوجهة يمينًا وشمالاً دون عجلة تحكم وانضباط، لازلت أُقرّ أنني “ما أنا بقارئ” قدر ما أنا متلقٍّ لانفعالات القراءة بتجلياتها الكيميائية، أتقزّم أمام نصوص الكبار وأقرأها بطقوس التواضع والخضوع والكر والفر، وبدهشة الوقوع في فكها وأغادرها ولا أغادرها،.. ولا أحفظها،.. أعترف أنني لم ولن أُحظى بحفظ نصوصي أيضاً، وربما هو زاد موارب على صراط ومنحنى طراد كائن الشعر الأزلي.

شعرك صوغٌ مكائدي مدجج بالعاطفة، وهجين بين التصوف والتوق إلي الزهد.. كيف جمعت بينهما؟

> الشعر ليس نص مبيّت ولامكيدة لغوية يمكن ظفرها، إنه نبرة شجى لايمكن اصطناعها، كالدمع في البكا، يستحيل استمطاره واستحلابه بالربت والمسح على الضرع، ولأنه كذلك كلغةٍ عاطفيةٍ فهو متمرد على فكرة المرجعية نحو تحقيق تنزيله المرجو، وتجسيد نبوته الخاصة بفرادة البصمة في الصورة والمفردة والتجديد، لهذا فما يُنعت عن تجربتي بالصوفية قد يبدو شرفٌ لا يحق لي ادعائه، كَوني لست خجلاً من القول بأني لم أتتلمذ على أي شيخ صوفيّ، وأنني أكتب لحظتي الشعورية بفطرة تنأى عن القولبة، وتستجيب للتراكم اللامعملي في وجداني. كنت فاشلاً بامتياز في الانضباط والحفظ، منذ تجربتي البكر في الكتّاب حتى ربكتي وعزلتي التى استجابت متأخرًا لقصيدة النثر.

من بقايا الليل مجموعة الشاعر المهدي الحمروني
من بقايا الليل مجموعة الشاعر المهدي الحمروني

كتب عنك الأستاذ يوسف الشريف في قراءته “لمحيا راودته الالهة للنبوة” الشعراء حراس اللغة، فكيف يصف الحمروني الشاعر أو يراه؟

> الشعر هو خالق اللغة منذ أن أجازت له ما لا يجوز لغيره رغم كل الضوابط والموازين التي وضعت لإيقاعه الموسيقي قديماً، فالشاعر هو ذاك الطائر الذي يهبط على الأرض وينقر منها للإقتيات والتزود، لأجل البقاء والتحليق، وما إن يملأ حوصلته يمد عنقه للفضاء ويمضي ليشدو بما أوتي من صوت ولغة، ولكنَّ لحظة الإقلاع للطيران هي لحظة الشعر التي تبوح بصوتها الخاص المديد في الأفق، وتظهر تجلياتها الفارقة في التحليق الحر المسبول الأجنحة دون اصطفاق وكلفة، وهي لحظة لها صوتها الخاص الذي تترجمه القصيدة. الشعر للشاعر هو الكتابة من أعلى سفح أو صومعة أو غار شاهق، أو خلوة تتيح النظر من علٍ، في هدأة تمنح الحواس استنفارها الأقصى في اللاشعور والهذيان، وبأقصى شعور وتركيز، وعلى الشاعر أن يتحلّى بحكمة الفشل في الحفظ لكي يتخلص من جِلد النمطية والتكرار، ذلك ما عناه الاستاذ يوسف الشريف؛ بأن المألوف والمتداول يقتله الزمن، وهو ما يحقق حراسته الأمينة على اللغة وتجدد تطورها.

تراود اللغة كي تستجب لغوايتك هل على الشاعر أن ينقاد للغته أم يقودها لتفرج ينابيع دهشته؟

> اللحظة الشعرية ليست لحظة ممنهجة وخاضعة لقواعد المران اللغوي المحض، إنها لحظة تعبيرية مفارقة تحيل الشاعر الى مجرد وعاء نفيس الخامة، شفيف الحواف، ككأس صقيلة تبرق بنضيحها السكيب والمعتق النقاء. والشاعر هو الذائقة التي تحسن اختيار نكهة نبيذ خزينه اللغوي في لحظة مفارقة.

تدخل صورك الشعرية إلى عوالم جديدة تنحاز فيها للتجريد، وتصنع الدهشة في تماسك متين.. ماذا تقول؟

> كنت ولازلت مبهورًا بالرسم واللحن كخلق نصي تعبيري، لهذا بدا الشعر مقاربة طموحة للمزج بينهما بفعل المخيال اللغوي، ولكي يدنو منهما ويقترب من تحقيق معادلته في المزاوجة؛ كان عليه أن يتّقد كعامل مساعد بنار الإحساس الضامنة لرهان الصورة، الآيلة للالتقاط المرهف في الخيال، وخلقه وابتكاره لها وتجديده لتوالدها، ونقاء تنسيلها بأقصى دهشة.

استخدامك عناوين لنصوصك تنبيء على صنعة فنية تختص بها وتمهرها ببصمتك كشراك للقاريء الذي يقف مذهولا بنشوة نزقة بين الالتباس والتجلي؟

> العنوان هو الاسم للكائن، والرمز للكيان، والباب للمبنى؛ فعلى قدر التيمن والانتماء والمنجز؛ ينبغي للإختزال أن يفي بمكنون جوهر ومحتوى النص، وهي خاصية تُعنى بها قصيدة النثر بشكل أكبر، ليغدو جزء من لوحتها التجريدية، خلافاً للنص التقليدي الذي تسوّقه القافية بتقدِمة لمناسبتها للمتلقي، وفي كل الأحوال سيكون من المجحف بصرياً أن تكون بوابة المنزل أشهق من مبناه عموما.

هل توافقني أن نصوصك تفتح باب التأويل والتوقع في نفس القارئ؟

> نصي معني بتخيل أن قارئه يفهمه ويضاهيه إحساساً وليس معني بشرح مفرداته وتفكيك وتشريح صوره، حفاظًا وانحيازًا لفعل الهزة الحسية المتفاعلة في دهشة المتلقي، وبتضاد مطلق للمنطق كمسلك شعري، مع التشبث بمحاولة استدعاء البساطة المتناولة للتعابير الشعبية، دون تنكر وخذلان للنخبة، وهو طموح لغوي مشروع أجازته الحاجة لاختزال المثَل والحكمة وسطوة رقيّه الإيحائي.

تكتب بتفرد وبصمة خاصة بك.. كيف تحافظ على النسق الشعري في شعرك؟

> على الشاعر أن يكتب دون كلفة كمسافر يحفظ ويحدس طريقه جيدًا، ببصيرة تستبطن خطاه بحس مرهف يستشرف ويسابق الباصرة، وهو مضمر لعِدّةٍ مهيّأةٍ للوصول، وآمنة للتجاوز، مؤمِّنًا لجاهزية عالية وكفؤة للمخزون اللغوي والبلاغي والخلق والابتكار في مخاضه الصوغي، وهذه العوامل والاستعدادات تمنح الاختلاف والتفرد في النسق المحوصل للنص، بتلقائية سهلة وممتنعة الخصوصية.

متى يزهر القول ويصبح اللحن مخيلة عند الحمروني؟

> كل زهرٍ رهينٌ بمواقيت كائنه البيولوجية وبالأوان الخاص بخصوبة اللحظة الحسية،تماما كسطوة الموسيقا على جلبة الصخب، هنا تنضوي الأحاسيس في محراب المخيلة لتنزل اللحن والكتابة، إنها لحظة مثالية بمدى نعومة أستفزازها للإزهار.

محيا راودته الآلهة للنبوة

من يوقد جذوة الشعر في نص الحمروني؟

> المؤكد أن السؤال هو: ما الذي يوقد الشعر في نص الحمروني؟.. وواقعيا أن الشعر يكتب نفسه بلغتي عن ال هي المجردة التي تكون جامعة مانعة.. بمعنى لكل أنثى أو الـ هي المحتماة في لحظة مستفزة للقصيدة.

تقترض لغتك من عوالم روحية أجدت توظيفها، هل أرتقت بك لغة التصوف لأعلى مراتب الشعر؟

> اللغة عنصر مكتسب لا مقترض، والتجربة هي الخصوصية التي تؤهل المفردات وتطوع المعنى، والخطاب الأسلوبي ينصاغ لتهاذيب الميول والذائقة، التي لايمكن اصطناعها وتكلفها، غير أن الشاعر مع التراكم القرائي والتلاقح في شرفات الإبداع المختلفة يختزل تفاعله ليطور من تحوراته بتؤدة لاتظهر بيسر نحو نضوج يتجدد ببراعة انسيابية، وإذا أعتقد الشاعر ببلوغه أعلى مراتب الشعر سيكون حينها قد آل للسقوط المبرم.

– “حسبه أن يكون نصك.. فلا يغوى بصراط سواك لنار القصيدة“.. هل القصيدة أنثى؟

> الأرض نفسها أنثى والسماء أنثى، وفي كل الكائنات -عدا البشر- الذكر هو الأجمل، لهذا فالقصيدة أنثى في مديح الأنثى المطلقة.

ماذا بعد بقايا الليل، ومحيا راودته الآلهة النبوة؟

> ثمة ثلاثة دواوين على الدرب ومجموعة مقالات تأملية، وما دامت العناوين هي ماتبقى لدهشة الميلاد؛ فلندعها لاحتمالات ترقب بزوغ الغيب الواعد.


السقيفة الليبية، 11 مارس 2020

مقالات ذات علاقة

خَدِيجَة جِيب الله لِفَسَانْيَا : الْغُمُوضُ وَالْحُزْنُ رُوحُ لَوْحَاتِي وَرِيشَـتِي.

المشرف العام

لقاء مع المبدع الليبي عبد الله مليطان

المشرف العام

مقابلة خاصة مع الكاتب والروائي والقاص الليبي/ أحمد نصر

المشرف العام

اترك تعليق