أسماء مصطفى
في بيتنا المكتظ بالأولاد والبنات، الأطفال والمراهقين، كان الحصول على شيء جديد حلم بعيد وأمنية شاهقة كتلك النجوم في السماء سهل أن نراها، صعب جدا ان نقترب منها، كنت أحافظ على أشيائي وممتلكاتي القليلة بشكل قد يراه البعض مبالغا به، أراها ثمينة تستحق تلك المحافظة وذلك الحرص فأنا لا أتلقى الكثير من الهدايا ولا أحصل على أشياء جديدة إلا بحساب السنين.
سافر أبي وامي في رحلة علاج طويلة قاربت العام إلى إيطاليا على حساب الدولة، أجرى فيها أبي عمليات خطيرة على قلبه العليل، كنت كل ليلة أنام والعبرات تخنقني لمرض أبي وغياب أمي، أشعر ببرد تصطك له أسناني وأعرف جيداً أني مهما تدثرت فلن أشعر بالدفء وصدرها الحاني تفصلني عنه تلك المسافات الشاسعة، أنا ابنة الثمانية أعوام التي لم تكتشف من عالمها بعد سوى حنان أمها والأمان الذي لا تشعر به إلا في حماها.
اتصلت أمي في إحدى تلك الصباحات القاحلة من حنانها واحتوائها الناعم وأخبرتنا باقتراب موعد عودتهم وسألتنا بترتيب أعمارنا عما نطلبه من هناك، كنت انتظر دوري بعيون حالمة لأقول رغبتي التي اختلفت عن الجميع، فالطلبات كانت فساتين وأحذية ومعاطف.. إلا أنا.. لقد طلبت منهم خاتم الثعبان، ذلك الخاتم الذي كنت أرقبه في يد صديقتي بحسد طفولي ناعم وعينه الحمراء المتوهجة تخطف بصري، كنت أشعر دائما أن صديقتي تملك كنزا ثمينا وكم تمنيت أن أصبح مثلها وكم حلمت بذلك الخاتم يزين يدي ويشعرني بغبطة امتلاك الكنوز، قلت طلبي ذاك على استحياء وأملي ضئيل في الحصول عليه لكنني قلت بيني وبين نفسي على الأقل هي محاولة.
يوم وصول اهلي كنت أنظر إلى هدايا إخوتي الذين نسوا مرض أبي واشتياقهم لأمي وسط فرحتهم بالملابس والفساتين والأحذية الجديدة، انتظر هديتي بصمت ورجاء وكدت أفقد أملي في الحصول عليها، فقد استلم الجميع هداياهم إلا أنا، رأيت أمي تفتح حقيبة يدها وتخرج صندوقا أزرقا صغيرا وتمده لي، فتحته، ورأيت تلك العين الحمراء البراقة تطالعني بقوة وكأنها تؤكد لي تحقيق الحلم وحصولي على الكنز، لا أستطيع أن أصف تلك الفرحة العارمة التي شعرت بها عند رؤيتي لذلك الثعبان الذهبي الرائع، حتى إن أخوتي تركوا هداياهم وأتوا جميعا لتفحصه وعيونهم تمتلئ إعجابا وانبهارا.
وضعت ذلك الكنز في خزانتي، وكنت أتفقده عند استيقاظي من النوم وقبل أن آوي إلى فراشي، لا أنام إلا عندما أرى ذلك التألق الأحمر الجميل كلما فتحت الصندوق وكأنه شمس قبيل الغروب جمعت خيوط الشفق المبعثرة و التجأت إلى صندوقي لتغفو داخله وترتاح، اقفله بسعادة واطمئنان وبأيدي تعرف قيمة ذلك الكنز الذي يحتويه وأذهب للنوم وشعور من الغبطة يداعبني ويهدهدني ويسلمني الى نوم سلس مزدحم بالأحلام البهيجة..
لم نكن نخرج غلا نادرا فعددنا الكبير كان يجعل أمي تحرم علينا الخروج معها إلى اي مكان، فكان خروجنا إلى المدرسة فقط، حرمت على نفسي لبس خاتمي الجميل في البيت وكنت أنتظر أن نخرج إلى أي مكان حتى ينال اصبعي شرف تطويقه.
وجاء ذلك اليوم الموعود.. جاء أبي وطلب منا تجهيز أنفسنا للذهاب في رحلة إلى البحر.. بدأ كل منا يجهز نفسه على عجل وأصواتنا تتعالى في البحث عن بعض ملابسنا التي كانت تنتقل من خزانة أحدنا إلى الآخر دون علمه عند الحاجة إليها، وكأنه مهرجان كثيف العدد يفتقد من ينظمه ويحد من فوضاه، فتحت صندوقي ولبست خاتمي الذهبي وشعور الزهو يتملكني وذهبنا لذلك الشاطئ الرائع الذي أكملنا جل الوقت ونحن نسبح فيه حتى إننا لم نخرج عندما نادانا أبي للطعام، خرجت بعد وقت طويل وأنا منهكة وأخذت أنشف شعري ونظرت إلى يدي، لم أجد الخاتم، ضاع في تلك المياه الساحرة التي ابتلعت الكثير، شعرت بالهلع وبجسدي الضعيف يرتجف كعصفور انكسر جناحه، هطلت دموعي بغزارة حتى أغرقت وجهي، بكيت بحرقة كنزي الذي لم يحمه كل ذلك الحرص والخوف، شعرت أن جهلي هو من أضاعه، يومها فقط عرفت أن البحر من الممكن ان يأخذ منك كل شيء دون ان تشعر، وأنه لن يبالي بحزنك وألمك فقد سرق ارواح وسفن دون أن يحس يوما بأنه أخطأ في حق أحد كما رأيت في أحد الأفلام، فهمت تلك الجملة التي كان يرددها أبي.. البحر غدار.. اجتمع أخوتي حولي ونظروا لي بوجوم وحزن لم يستطيعوا التعبير عنه بالكلمات لإنهم كانوا يعرفون جيدا أن أي كلمات لا تستطيع أن تواسيني في فقدي لأيا من أشيائي البسيطة التي أجيد المحافظة عليها فما بالك بفقداني كنزي النفيس.
مرت سنوات طويلة على ذلك إلا أن حرارة التفاصيل مازالت تلفحني وكأنها حدثت بالأمس، نظرت بأعجاب الى خاتمي الذهبي المرصع بحجر كريم له بريق اخاذ الا انني لم استطع ابدا استعادة شعوري بالامتلاك.