من أعمال الفنان محمد الشريف.
طيوب البراح

المُفكر

د.جمال عبد القادر أمهلهل

 Mohammad_Esharif (4)

ارتدت المقهى لإلحاح صديقي، لا أحب المقاهي، فهي تثير الصداع، أحب السكينة، و الأماكن الهادئة، المقاهي لا تروق لىَّ، يكثرُ فيها الصِراخ، و ضَجيج المُوسيقي، يَصرخُ البَعضُ في وجه الآخر لمُجرد حَملِه رأياً مُخالفاً لرأيه، أو ربما لم يسمعه جيداً.

عُمُوماً ذهبتُ مع صديقي، المقهى شعبي، كثير الجلسات، رُتبت ليسع الكثير منها، لكل شلة طاولتها الخاصة، أري الواقف – و الجالس، كلٍ يتحدث لمجموعته، يُعد حضور الجلسة على أصابع اليد، الجلسات مُتماثلة شكلاً – و موضوعاً، الإضاءة ضعيفة بعض الشيء، أسترعى انتباهي توهج لون أحمر، كأنه توهج جمرة السجائر أو شيش الدخان المَعسول، تطلب بعض الوقت ليعَرفني صديقي على طاولة جُلوس شلته، موضوع حديثهم، الدوري العام لكرة القدم المحلي، تعالى الصِراخ، الكل يُناقش، لكُلٍ وجهة نظر، أخذ صَديقي نصيبه منها، جَلستُ أراقب، أثار دهشتي أحد الجالسين، مُرتدياً نظارةٍ سَوداء، وقُبعة ذات شكلٍ مُميز، واضعاً يدهِ اليُمني على خده سانداً رأسه، مُستغرقاً في حالة تركيز ذهني عميق، حالة تأمل لنقاش لا نهاية له.

هناك ركزني صديقي بمرفقه، ليقول: لا تنظر إليه، أنه المُفكر، مُفكر الجلسة! نظراتك تضايقه، أنتبه لنقاش الشلة فقط، النقاش مَفتوح على مِصراعيه، الكل يُشارك، و في نفس الوقت، أحياناً تتشكل مُناقشات فردية، لتعود بعد حين جماعية، تصنع المُناقشات سُحباً من الكلمات غير ماطرة، كسُحب الدخان المتطاير من سجائرهم، و شيش الدخان المَعسول، و هم يحتسون الشاي.

أدمنت مُجالسة النُخبة، هكذا أسميتها، بالرغم من التزاماتي الدراسية، فأمامي التحضير لامتحانات الثانوية العامة، لأقوم مستقبلي!  … مَكنيَّ حُبيَّ و احترامي للنُخبة من رسم صورة عامة لها، هم خمسة لا سادس أو سابع لهم إلا العُبد لله – و صديقي، و هم: أبو المَعارف – و المُتسائل – و السَاكت – و صاحب “لماذا و كيف” و هي كيف الاستفهام، و لا شيءٍ آخر!، و الشخصية الخامسة هي لمُفكر الجلسة.

أبو المَعارف: صاحب اللالات الثلاث، يَسردُ الأخبار الجديدة، لا يحب أن يُسبق في طرحِها، بالتأكيد لا يحب نقدُ أخباره، فهي الصَادقة، ترتسمُ الحُمرةَ على وجههِ إن أدلى أحد الجالسين بخبر جديد، فهذا يشعره بالخجل، حال طرح خبر جديد، يتبني أبو المَعارف اللحظة بسرعة ليقول: لا لا لا و يدخل في الخبر، ليعيد صياغته و كأنه خبراً جديداً، يسترسلُ دائماً في الكلام، حديثه شيق غير مُمِل، صاحب نكته، يتكلم بشوق دائم، تُغازل حركاته كلامه، كأنهما تؤم الروح، طوله – و بياض وجهه – تضفي الهيبة على النُخبةً، الشخصية الأخرى: المُتسائل، فهو دائم التساؤل، يطرح أخباره كتساؤلات، و باستعمال جميع أدوات الاستفهام، يبدو أنه لا يَعرف شيئاً عنها – أو لا يعرف إجابتها، صدقها أو كذبها! يتدخل دائماً أبو المَعارف ليفك شفرات المُتسائل، كأن هناك عقداً غير مَكتوب بينهما، الشخصية الثالثة: السَاكت: قصير القامة، بدين، يُؤمى دائماً برأسه للدلالة على استحسان الحديث، في بعض الأحيان، يسأل عن: ما المقصود بهذه الكلمة؟ عن ماذا تتكلمون؟ أما الشخصية الرابعة فهو صَاحب “لماذا و كيف” … يسأل دائماً عن… لماذا حدث هذا؟ كيف حدث هذا؟ …  عَادة ما يُمازحه أبو المَعارف بالقول “الكيف في القهوة” فيرد السَاكت مُتواجدون فيها – أطلب له واحدة – و على حِسابه ها ها ها …. أختزل غُموض النُخبة في شخصية المُفكر، هكذا يطلقون عليه، أدهشني كثيراً، على مدار حضوري لجلسات النُخبة، لم اسمع المُفكر يتفوه بكلمة كأن يَنصح – أو يُعلق على المُناقشات الدائرة، ببعض الجَلسات رأيت كتفيه تتحرك في حركات مُتتالية، كأنه يريد أن يُقوم راحة كتفيه داخل المعطف الجلدي الأسود، كذلك رأيت قبعته تتحرك لأعلى و لأسفل، كأنه يُحيى المُتحدث، ببعض الأحيان رأيت عيناه تتوهج احمرارا من خلال النظارة السوداء! الصمت قاتل مُمِل للآخر، فكيف لأحد أن يرتضي مُسامرة شخصاً صامتاً لساعات! و لا يقوم بحركة، كأن يرتشف من كوب الشاي الذي أمامه، بالرغم من هذا كله، يمنحونه لقب المُفكر.

لم استطع الابتعاد عن مُجالسة النُخبة، حتى أثناء دراستي الجامعية، تعودت أن أجالسهم على الأقل مرة كل شهر، ليست مُجالسة السَامِر، فنادراً ما أشاركهم النقاش، أما الأحاديث الجانبية فبالتأكيد، إلا مع المُفكر، بالرغم من مُحاولاتي الكثيرة لصُنع حديث معه.

ذهبت لخارج الوطن لدراسة الدكتوراه، كان لزاماً عليَّ التعامل مع المكتب الطلابي بالمكتب الشعبي، ليست لديَّ خِبرة في ذلك، دراستي حتى الماجستير كانت داخل الوطن، يَعجُ المكتب بالشؤون و الشجون، كان عليَّ أن أحاذر الدخول في أحاديث لا معني لها، سيجلب هذا الكثير من المشاكل، كنت أذهب للحاجة، ثم قررت أن أذهب على الأقل مرة في الأسبوع، لغرض أثبات حضوري، هكذا نُصحت قبل سفري، فهناك من يقوم بكتابة التقارير عن الطلاب، تلك مهام أمنية لا نعرف من يقوم بها، إلا أنهم مُتواجدون، ذات مرة كنت أنتظر صديقاً ليَّ، وقعت صُدفة بين خمسة أشخاص، كان همهم استدراجي للحديث، كأن الجلسة رُتبت بليل! كان مِحور حديثهم: الأزهر قد سقط! … و سيلحقه الزيتونة! أخذت نظراتهم تمطرني بالكثير من التساؤلات، لم أشاركهم الحديث، كيف لي أن أشارك؟ الموضوع لا أعرف عنه شيئاً! هذا لحسن حظي!

سَمعِت فيما سَمعِت أيضاً من أصدقائي المُقربين عن شخصية غريبة، يكثر الحديث عنها كثيراً في المكتب، يتحدثون عنه كرحالة، و ليس كطالب دكتوراه، أحرق مُنحتين للدكتوراه، و ها هي الثالثة، و سيرجع على الأغلب بخِفي حُنين! يتمحور جُل حديثه في صحوته عن الأنس و لياليه، أما في جلسات أنسه، فيتمحور حديثه عن الدين و شجونه، يتبع شهواته و يُمارسها كيفما أتفق، قال ليَّ أحد أصدقائي المُقربين: أنه تفاخر في أحد ليالي أنسه بأن صهراً له ذو رتبة عسكرية كبيرة عضواً في مجموعة دينية محظورة… ربما تم تجنيده في الأمن الخارجي … و إلا كيف يمكن تفسير حصوله على تلك المُنح الدراسية! صُدفةً كنت في المكتب، من إيماءة صديقي رأيت شخصيةً سيكوباتية، عُيونها مُنكسرة، تنظر إليك من طرفها بتفرس، شهيقها حَسدَّ و زفيرها حِقدَّ، لربما على نفسه، و ما فعله بصهره، كيف لهذه الشخصية أن تكون عضواً لهيئة تدريس بأحد جامعاتنا! فهي لا تصلح للقيادة حتى في الدول الفاشلة!

حَذريَّ من رُواد المكتب الطلابي لم يمنعني من التعرف على أحمد، طالب دكتوراه، شاب دمث الأخلاق – مُؤدب – و مُحادثاته معي تُدلل على رزانة العقل، كانت مُجالساتنا دائما عن العِلم و أعلامه و نشاطاتهم، نُخبر بعضنا البعض عن ما نعرفه، كل في عِلمه، تجنبنا الأحاديث السياسية، توثقت عُرى الصداقة بيننا! أخبرته عن النُخبة، بالتفاصيل المُمِلة، لاسيما المُفكر، تعودنا على إعداد وليمة أسبوعية، نعدُ فيها ما نشتهيه من وجباتنا الشعبية، في أحد أيام الجُمع، و بعد تناول وجبة الغذاء، جلسنا نحتسى الشاي، و نستدرك ما فاتنا من حديث، فجأة قال ليَّ: مَلكت نُخبتك كل هاجسيَّ منذ أن حدثني عنها، فرددت عليه: كنت واثقاً من أنها ستنال إعجابك.

أحمد بحزم: ليس إعجابي، بل دهشتي، لاسيما المُفكر!

فقلت بالتأكيد أثارتك تلك الشخصية، فهي غريبة جداً!

أحمد: نعم … نعم …

تساءلت بدوريَّ هل بالإمكان أن نطلق لقب “مُفكر” على مُفكر النُخبة؟

أحمد: ما عرفته منك … مُفكر النُخبة لا يبدى أية إيماءة – أو كلمة – أو إشارة، كأنك وصَفت شخصاَ  فارق … فلقب “المُفكر” يُطلق على الإنسان الذي يحمل رؤية … و يخرجها بصورةٍ ما لمن حَوله.

شاركته الفكرة  فقلت:  نعم … فأدوات الرؤى مُختلفة فقد تكون: الحديث –  الكتابة –  الرسم …. الإشارة …

 أحمد: نعم …  نعم، و إلا استثنينا  الأخرس – و الأصم – و الأبكم … من ملكة التفكير – فلغة الإشارة تنم على عمليات عقلية. هذا العمل ملك للدكتور جمال عبد القادر أمهلهل.

استدركت الحديث فقلت: عضلة القلب دائمة النبض، مادام الإنسان على قيد الحياة، و كذلك التفكير.

أحمد: نعم، فلا يستطيع أحد أن يوقف قلبه عن العمل، و كذلك التفكير، حتى أثناء النوم، فالأحلام دليل على نشاطات عقلية!

شاركته في الحديث فقلت: نعم … فلفظة التفكير تنطوي في طياتها على الحركة لا السكون، و كأنها الحيــــــاة نفسها، ألم يقل ديكارت: أنا أفكر … إذن أنا موجود!

أعتدل أحمد في جلسته و قال: آه … فلسفة … بحرها عميق جداً … أمورها شائكة … في الجلسة القادمة، يجب علينا الغوص في أعماق شخصيات نُخبتك … و أن لا نُحَملها بما ليس لها!

فقلت : على الأقل تفتح لنا آفاق و رؤى نستفيد منها.

أحمد: هذا هو المطلوب.

لم نلتقي كما خططنا، حتمت المَشاغل إنجاز بعض الأعمال الدراسية، تقابلنا بعد تمام أسبوعين بشقة أحمد، كانت وجبة دسمة، لا يعدها إلا كريم، تحدثنا عن المُفارقات التي شغلتنا، أخذ النُعاس يتملكني، فقام أحمد بإعداد قهوة، تمالكتُ حضوري، فقلت لأحمد: ماذا عن نُخبتي؟

أحمد: يقوم جميع البشر في جلساتهم بما تقوم به نُخبتك، الفرق … هل تدرك نُخبتك ما تفعله؟

رددت عليه فقلت: ماذا تقصد؟

أحمد: ما أقصده … هل بالإمكان تفسير سُلوكيات نشاط نُخبتك علمياً؟

قاطعته قائلاً: دعك من تحليلهم النفسي … قد لا يفيدنا كثيراً.

أحمد: بالطبع … فهذا ليس تخصصي، ما أقصده هو قياس ما نقوم به في دراستنا و إسقاطها على نشاط نُخبتك.

رددت عليه فقلت: أيتوافر قاسم مُشترك؟

أحمد: ستجد الكثير … على سبيل المِثال لا الحصر، ألا يتدارس البحث العلمي الظواهر الطبيعية – و الاجتماعية …. لصياغة مشكلة بحثية ما … الغامِضة لتوضيحها – و الغافلة يُظهرها … و هكذا، أليس هذا ما يقوم به أبو المَعارف؟

 دهشت لما قاله فقُلت: كيف هذا؟ أبو المَعارف! أسررت لنفسي … لماذا لم أستدرك هذا؟ فقُلت: جُل أبحاثنا في العلوم الهندسية تتعلق بدراسة المُتغيرات التي تتحكم في الظاهرة …

أحمد: و نحن كذلك في العلوم الاجتماعية، إلا أننا نقوم بنشاط مُجهد، لدراسة ابحاث مَن سبقنا … لصياغة مُشكلة دراسية بمُستوى الدرجة العلمية المُراد نيلها، أو المُستوى العلمي للدورية الناشِرة للبحث، بالتأكيد أنتم كذلك.

شاركت أحمد القول فقُلت: قياساً على هذا المِنوال … فإن المتسائل هو الكُل إذن … هو الكُل … يلعبُ بالمفاتيح … يا لله المُتسائل يملك مفاتيح مملكة المعرفة! … ترى هل يدركها؟

أحمد: نعم … نعم … فالتساؤل عماد المعرفة … كما الدهشة عماداً للفلسفة، فقط صغ السؤال … ثم قم بالإجابة عليه، إلا أن إدراك المُتسائل لما يفعله يحتاج بالضَرُورة لإجراء دراسة بحثية!

عطفاً على حديثه قُلت: تحتاج الإجابة لذخيرة معرفية.

أحمد: بالتأكيد، فالقراءة تنمي القاموس اللغوي – و كذلك مُجالسة النقاشات العِلمية – و ما يماثلها مثل مشاهدة الأفلام الوثائقية العِلمية.

أخذنا الوقت، رأيت أن أذهب، تأخذ الالتزامات الدراسية الكثير من الجُهد العضلي، و كذلك الفِكري، وعدني أن نستكمل النقاش في الأسبوع القادم، تمنيت له التوفيق و ذهبت، لم أشاهد أحمد كما أعتدت في مقهى الجامعة – أو المكتبة – أو مكتب الشؤون الطلابية، أجتاز مُناقشة الخِطة الدراسية لأطروحة الدكتوراه، اتصلت و هنأته و تمنيت له كل النجاح في دراسته.

حال توافر الوقت لكلينا، تلاقينا في شقتي، كان أحمد فرح بما أنجزه، تناولنا وجبة الكسكسي، ثم أخذنا نشاهد التلفزيون، أخبار مُتنوعة، سئِمتها فبدأت الحديث فقُلت: إن أدرك الإنسان بما يقوم به من عمل، حتى المُحادثة مع زميل له، سيكون عالماً في عمله، أو بلغة هذا العصر “الاحترافية”.

أحمد : صدقت، فحتى الرياضة – و الرسم – و الرقص … أضحت علماً في عصرنا … و علينا أن نرتقي بمُستوى اللغة المُستخدمة في أحاديثنا، فاللغة في الغرب درجة اجتماعية، أما في بلادنا فهي درجة تعليمية! إلا أن آفاقها لم تتضح بعد!

استدركت فقُلت: … تُفسر النظرية العلمية التعليم … الآن بأنه: معرفة – الإدراك بتلك المعرفة – الإنفعال بها – ليتبع الانفعال تغيراً في السُلوك، إلا أن الإدراك يأخذ وقتاً طويلاً.

أحمد: على العكس … كما قُلنا سابقاً يُساعد الإطلاع – و القراءة …. على بناء القاموس اللغوي للفرد و كذلك آفاقه، و هذا يبني الخبرة الشخصية، فهي الجسر الرابط بين المعرفة و التغير في السلوك، و الإنسان أي إنسان و كذلك المُجتمع لا يمكن أن يتطور إن لم يدرك و ينفعل بتلك المعرفة!

مُشاركاً في حديثه قُلت: حتى الثقافة الآن تُفسر على ضوء تلك النظرية، فإظهار المعرفة بصورة شفهية يُعد إطلاعاً لا ثقافة، فالثقافة يجب أن يتبعها قيمة مُضافة تُجسد تلك المعرفة، رأيت أسارير وجه أحمد تستحسن كلامي، استثمرت هذه اللحظة لاطفي شوقي للحديث عن النُخبة فقلت: ماذا عن السَاكت؟

أحمد: أسميتموه السَاكت لا الصَامت، فالصمت دلالة على التأمل و بالتالي التفكير، أما السَاكت كالسكون، لا حركة له، فساكت النُخبة يُشارك بالإماء و المُفارقة المُضحكة، ربما ليس لديه ما يُشارك به!

شاركته الحديث فقُلت: قياساً بدراساتنا البحثية فإن صاحب “لماذا … و كيف” دائم الإلحاح لمعرفة السبب …

تدخل أحمد في الحديث فقال: هذا ما يُعرف بـ “السببية” أو بلغة عُلماء الحضارة العربية الإسلامية “العلية” – أو  “العلة و المعلول”.

استدركت حديثي فقُلت: …أما ” الـ كيف” فتمنح التعرف على سُبل حُدوث الظاهرة، و الأن ماذا عن المُفكرين؟ و مُفكر نُخبتي!

أحمد: ليس لديَّ الآن شيء يثري معرفتك بهم، دع هذا لجلسات قادمة.

كان حديث شيق، استمتع كلانا به، رأيت أن أستثمر هذه اللحظات في نشاطيَّ البحثي، أسررت لأحمد بهذا، شاركني الفكرة، استأذنت في الذهاب، عند الباب وعدني سيحدثني في الجلسة القادمة عن المٌفكرين، لربما ستفيدني في سبر أغوار شخصية مُفكر النُخبة، ذهبت مُسرعا، علنيَّ أستفيد بنشوة هذا اليوم، لم يتبقي ليَّ من  المُنحة إلا سبعة أشهر، لا أريد أن أطالب بالتمديد، قد لا أحصل عليه! عليَّ أن أبذل كل جُهدي، تأتي أثناء البحث العلمي لحظات خُمول قد تطول أشهراُ، و ببعض الأحيان، يأتي يوماً يُعوض تلك الفترة، و أحسب هذا اليوم كذلك!

تلاقينا أسبوعاً من جلستنا تلك، في المكتب الطلابي، أنجزنا بعض المُعاملات، ثم خرجنا لأحد المقاهي القريبة، كان الطقس ربيعياً مُشمساً، تتخلله نسمات باردة، أخذ أحمد يُحدثني عن دراسته، موعد دفاعه عن الأطروحة قبل نهاية  السنة، أما أنا فأرسلت الأطروحة إلى المُمتحنين، و تحدد موعد دفاعي في الأسبوع الأول من الشهر القادم، لم يتفاجأ أحمد بهذه الخبر، فكل منا يخبر الأخر عن نشاطه أول بأول، فقلت له: حدثني عن مُفكر نُخبتي، أشتقت أن أتعرف عليه.

أحمد: أعلم يا سيدي أن كل البشر، شئنا أو أبينا مُفكرين، إلا أنني سوف أحدثك عن الإنسان الذي له قيمة مُضافة، حتى و إن كانت مهارة في الحديث!

فقلت له: هذا جيد، أفدني أفادك الله.

أحمد: صَنفت فيما أعرف، ثلاثة أنواع من المُفكرين.

فرددت عليه: أثريني بهم.

أحمد: النوع الأول من المُفكرين، يطرح دائماً أفكاراً جديدة، تُستحسن من قبل الآخرين، إلا أن هذا الاستحسان لا يعود بالخير دائماً، تتملكه النرجسية، يَحبُ الأضواء، يَشعَرُ بأنه أقدر من الآخرين، لا يتركُ لنفسهِ فترة زمنية لمُراجعة نفسهِ، أو أن يوثق فكره كتابةً، فهو فكر جديد في كل مرة، حتى إنه يُناقضُ نفسهِ أحياناً.

استدركت قوله فقُلت: هل هؤلاء ما يُطلق عليهم أكياس الهواء، أو في بعض الأحيان الهواء الساخن.

أحمد: لا ادري تحديداً، و لكن ربما، عطفتُ على حديثه، فقُلت: ماذا عن النوع الثاني؟

أحمد: النوع الثاني من المُفكرين أستوعب التجربة التي مكنته من طرح أفكاره – يُحللها – يُبقي الصالح منها، و ينقح البقية الأخرى، مواظب – مُلتزم – لا يحب الأضواء – لا يكترث لمدح الآخرين، فهو لا يعمل عندهم بل يعمل لأجلهم، حريص في حديثه، حَذِرُ في كلامه و اختيار مُصطلحاته، حريص على مصلحة الآخرين، المُعارضين و المُتوافقين معه، و يوثق عمله كتابةً، توقف أحمد عن الحديث و أخذ ينظر إليَّ … فقُلت: ماذا عن النوع الثالث؟

أحمد: يمتلك البعض من البشر حَواساً تختلف تماماً عنَّا، تُساعدهم تلك الحواس، و بصورة قاطعة على امتلاك الحادثة، فتراهم يختزلونها بعقولهم ثم يطرحونها بصورة تجريدية على صورة: قانون … نظرية … هؤلاء هم الفلاسفة و العلماء، و هم في كل أمة قلة … و ليسو كثر!

تساءلتُ في نفسي: أين مفكري من هؤلاء؟ ما حاله الآن؟ ما الكتب التي نشرها؟ أريد أن أقرأ بعضها لأتعرف على دخيلة نفسه.

 أحمد: “و كأنه يقرأ أفكاري” قال: إن كل ما يخرج من الإنسان له دلالة على حالته الصحية – و التعليمية –  … و النفسية …  لهذا السبب لم استطع أن أصنف مُفكر نُخبتك!

توقفنا عن الحديث، أخذنا نُتابع برنامجاً علمياً على أحد شاشات تلفزيونات المقهى، تشاركنا التعليق على بعض ما نشاهده و نحن نحتسى القهوة، حال انتهاء البرنامج، رأيت أن أذهب، فالوقت مُتأخر. كانت تلك آخر جلساتنا، كل منا الآن يَضَعُ اللامسات الأخيرة لأطروحته و الدفاع عنها، يا لله، تمر الأيام ببطء كما السحاب إلا أن السنين تعدو عدواً فلا نرى إلا حصيلتها، كأنني بالأمس أتيت لهذه البلاد، ها قد مر الآن قرابة الخمسة سنوات من عمري، … ها قد أنهيت دفاع الأطروحة، تلقيت التهاني من الجميع، لاسيما أحمد، فقد حظر جلسة دفاع الأطروحة و أصدقائي المُقربين، شكرتهم – و تمنيت للجميع التوفيق و النجاح.

أرى الآن أن الكثير لهم الفضل في ذلك، لا أستطيع أن أرتب دورهم، أثريت كثيراً بمعرفتي للنُخبة، فصمتُ المُفكر فتح آفاق تفكيري، و تساؤلات المُتسائل عمقت تأملاتي، أثرت معرفتي، فهي أقصر طريق للإنسان ليكون مُفكراً، أدركت أن السؤال حجة على السائل، و ليس على من يُعتقد أنه يعرف الإجابة، و تحتم الرزانة التزام الصمت للإنصات، و ترقب مُجريات الأمور بعين ناقدة، فما لا أحبه في تصرفات الآخرين لا أفعله، و إن تحدثت لا أكثر، أضع الكلام في موقعه فقط، أما صاحب “لماذا و كيف” فتعلمت من خلاله أن سبب حدوث الظاهرة أهم بكثير من الظاهرة نفسها، أما “الـ كيف” فهي مفتاح سُبل تطور العلوم عامة،كالعلوم الهندسية، و ما التقنية إلا وليد لتلك “الـ كيف”.

ها أنا ذا، بعد سفري الطويل، أعود إلى أرض الوطن، بانتهاء زيارات الأقرباء – و الأحباب – و الأصدقاء، تبادر إلى ذهني أن أزور مقهى المُفكر، لا أحد عرفها، عزمت على زيارتها، ترى هل هي كما عرفتها؟ و كيف حال المُفكر؟  أحي يرزق؟ الكثير من التساؤلات، راودت ذهني، دفعتني دفعاً لزيارة المقهى.

هكذا أتذكر مقهى المُفكر، عند آخر المُنعطف المُطل على جزيرة الدوران المُرورية، حَسِبت أن المقهى باقٍ، إلا أن ما أره صرحٌ أبيض كبير، تكثرُ فيه النوافذ الزجاجية، يُخيل للناظر من بعيد إنه مبني زجاجي، تحيط واجهته الأمامية الكثير من المصاعد الكهربائية، لم يَخطُر بباليَّ كل هذا التغيير، توهمت إني أخطئت موقع المقهى.

يتهافت الكثير من الناس لدخول السوق التجاري، الباب الرئيس مُزدحم بالداخلين و الخارجين، سيرهم لا يتداخل، لكلٍ  مساره، مسارٌ مُلزم لكليهما، اقتربت أكثر فأكثر من الواجهة، تُدلل هيئتهم و لباسهم أنهم ليسو رواداً لمقهي شعبي كمقهى المُفكر، لم أسئل أحدا، اقتربت أكثر، غرابة الأمر، لا يتطلعون لبعضهم البعض، ليسو فُضوليين، أنا فقط، ثيابهم ليست مُتشابهة، أثار فُضولي وضعهم أيقونةً “صورة المُفكر” يَضعُ البعض، نظارة تُماثل نظارة المُفكر، آخرون يرتدون معطفاً كمعطفه، منهم من يرتدى قبعته، لكم غبطت المُفكر، لا بد إنهم يعدونه بطلاً و طنياً! أوشكت أن أخطو أول خطواتي داخل الصِرح الزجاجي الضخم، دخلت الردهة، وجدت ممران كبيران، عن اليمين و عن الشمال، أحدهما للدخول و الآخر للخروج، و بآخر الردهة سُلم يؤدى إلى سِرداب.

أثارت دهشتي اللوحة أعلى مدخل السِرداب، تُجسد اللوحة أحد جلسات مقهى المُفكر، كلما اقتربت من اللوحة تجسدت اللوحة أكثر فأكثر، تبين ليَّ إنها ليست برسمه، بل دُمي تُجسد جلسة للنُخبة، استخدمت الأضواء المُلونة بحرفية عالية لتعطي انطباعا للناظر عن بعد بأنها لوحة انطباعية.

أخذت أنظر للمدخل، لحظات كدت أدخله، تراءت ليَّ ذكريات المقهى، طاردتني طويلاً، لم أشاهد أحداً يدخل السِرداب، لا أحد يَمنعُ الولوج إليه، برغم حنيني لأتعرف على ما يحويه، جمعت شتات ذهني، و قررت أن لا أدخله، شوقي ذهب إلى ما يجري بداخله، فجأة رأيت شخصاً قصير القامة، يرتدي تماماً ملابس المُفكر يخرج من السِرداب، يدفع في مشيته قدميه يمنة و يسرى–  و يتلاعب بكتفيه – و بيده عكازاً يُلوحُ به، مشيته و حركاته  تُماثل تماماً تلك للممثل العالمي “شارلي شابلن” إلا أن قبعته تختلف، فهي تماماً كتلك للمُفكر، تبعته … لربما سيقف و يتعرف عليَّ … انسجمت مع حركاته – و نغمات وقع أقدامه، أسمعها تتناغم في أذني: واحد – أثنان – ثلاث … و هكذا تسترسلُ في تناغِمها … لوهلة أزداد وتيرة وقعها، تغير إيقاعها: واحد – واحد – واحد – إثنان إثنان ثلاث، ثم فجأة: واحد واحد واحد – إثنان – ثلاث ثلاث – أربع خمسة، تناسيت نفسي! أصبحت أمشي على هداها!

أنحسر وقع الخطوات … فقدتها، فجأة أصبحتُ في ظُلمة … لا أدري كيف! استخدمت يداي لأتحسس ما حوليَّ، ظُلمة – أصبحت في ظُلمة، لا أدري كيف؟ … ظلام – ظلام – ظلام، نظرت لأعلى، لا أرى نجوماً في السماء، لربما المكان مُغلق السطح، ربما غيوماً تسدلُ السماء، إنه فصل الربيع، هذا أعيه جيداً، يمتاز فصل الربيع في بلادي بالليالي الجميلة التي تزينها النجوم، و نُسم الهواء العليلة، لا أشعر بحركة للهواء من حوليَّ، لا برد و لا دفء، أكاد أجزم بهذا …

كأن وُضع على رأسي غطاءً، تحسست رأسي، لا يوجد شيء، مررت أصابعي أمام عيناي، لم أري شيئاً، ما هذا؟  هل أصبت بالعُمى فجأة؟ كيف لي أن أعرف؟ تحسست أطرافي، أستطيع تحريكها جميعا، و كيفما أشاء، ماذا عن سمعي؟ لا أسمع شيئاً، ما الذي حدث ليَّ، لا أتذكر إني ضُربت، أو اصطدمت بشيء، أستطيع أن أتحسس ملمس ملابسي، إن كان هذا حالي، فعلي بعقلي، يُرشدني – يُهديني – يُخرجني من هذا المأزق! عليَّ أن أستجمع شتات حواسي، هي كل ما لدي.

تحسست أرضية المكان،  ليست طينية – أو رملية – أرضاً صلبة، لربما تكون إسمنتية أو طريقاً مُعبداً! ماذا؟ طريق … لا أري اللحظة أنواراً، لم أسمع أصوات لسياراتٍ مارة! … يا الله … جعلتني غُربة تلك السنوات الطويلة أنسى جغرافية مسقط رأسي تماماً … و إلا لاهتديت بالحدس فقط، … لجغرافية و ماهية هذا المكان.

ماذا…؟ ماذا…؟ لوهلة سمعت صوتاً! صوت خافت جداً … خربشة… ماذا … ماذا …؟ أنه حفيف أوراق الشجر! تحسستُ الهواء … لا حركة للهواء من حوليَّ، لا وجود حتى لنسمة خفيفة، بالتأكيد أشجاراً عالية، تحرك الريح أغصانها … ما ماهية هذا المكان؟ هل هو حديقة؟ أو طريق مُعبد تصطف الأشجار على جانبيه.

بنيت خيالي، و توهمت طريقي، على خطى “شبيه المُفكر” ضننتُ لوهلةٍ إني أسمع وقع أقدامه خلفيَّ بعد أن كانت أماميَّ! ها قد ضللتُ طريقي ثانية، لا لا لن أغير اتجاهيَّ و أسير للخلف، لابد لهذا المكان عدداً من المخارج، لا يُعقل أن يكون هناك مخرجاً واحداً فقط، عزمت أن أسير في اتجاهي، إلى الأمام، لن أحيد عن وجهة سيري، يا الله … إني … إني أري نوراً … و إن كان بعيداً عنيَّ.

لا – لا – لا يوجد شيء علي رأسي، لم أصب بالعُمى، أو بضُعف النظر، أخيراً أبصرتُ نوراً، نورٌ يكادُ لا يُرى، مصدره … بعيدا جدا… أراه و حسب! لا أدري ما مصدره؟ أنورُ مِصباح هو؟ … أم ماذا؟  هذا كل ما لديَّ، ليهديني للخروج من هذه الظلمة، أزداد بصيصه لمعاناً، أزداد حجمه، أخذ يكبر … قليلاً – قليلاً، هل يا تري اقتربت من مخرج ما؟ ها أنا أقترب من الخروج من هذه الظُلمة الخانقة، أخذ مصدر النور يكبر … شيئاً … فشيئاً لتبدو هيئته كالهلال، أو كأنه هو! هذا العمل ملك للدكتور جمال عبد القادر أمهلهل.

فجأة أستيقضت لأجد نفسي واقعاً من أعلى السرير، حاولت جاهداً النهوض، وضعت يداي على السرير، سانداً جسمي، نظرت فوجدت غرفة نومي مصبوغة باللون الأحمر، لون الغروب، دُمية المُفكر على الطاولة، نُصفها أحمر و الأخر تتخلله الظلال، منظر جميل، أخذت أبحث عن هاتفي النقال، لأوثق المنظر، تذكرت موعدي مع صديقي بعد صلاة المغرب لنذهب إلى المقهي … ألح عليَّ كثيراً … و ها … الشوق يلفني لأتعرف على المُفكر.

شحات:15/10/2013م

مقالات ذات علاقة

أيام خاوية

المشرف العام

خُلقت لأواسيني

المشرف العام

الحياة فرص

المشرف العام

اترك تعليق