من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
قصة

2012-1012

1ـ يوم جميل

امرأة تتمايل أمامي على الصبح، مشيت وراءها حتى محطة الباص، قبل أن أكتشف أنها أحدى الجارات، لم يخطر ببالي من قبل قط أنها تملك مثل هذا القوام المثير، ربما لأنني لم أكن أنتبه كثيرا لتفاصيل معارفي.

لا يهم.. !!

خيرها بغيرها

لم تلحظ وجودي.. لسوء حسن الحظ أو حسن سوئه.. !!

الوقت لا يسمح بانتظار الباص.. ولا مفر من إيقاف تاكسي.

أدخل العربة دون أن ألاحظ السائق كالعادة، ولكن فور أن أغلقت الباب التفت إلى يساري، لأجدني قاعدا إلى جانب امرأة تجلس بدورها وراء المقود ويدها على قضيب السرعات.

ـ صباح الخير ـ قالت ـ يوم جميل هـه.. !!

ـ جميل بس.. !! بالتأكيد.. !!

أخبرتها وجهتي، وانقطع الارسال بيننا لانعدام التغطية. ظللت استرق النظر إليها بين الأخرى والفينة، إلى صورة وجهها المنعكسة على زجاج النافذة. يداها مليئتان بالخواتم.. خواتم من كل شكل ولون.. لديها شامة على خدها الأيمن الذي يجاورني، التفتت إلى الجانب الآخر حتى لا تلاحظ أنني أقوم بدراستها وتشريحها مثل استاذ بيولوجيا في جامعة اقليمية عالمثالثية متخلفة.

نزلت

دفعت

اختفت بسيارتها الصفراوية عند المنعطف التالي

اختفت تماما

واختفيت

ولكن ليس تماما

لأنك لا تستطيع أن تختفي عن ذاتك تماما.. مهما كان حضورها مزعجا لك.. ؟!

2ـ مسافة

في المسافة حتى المحطة، التي تبعد عشرين دقيقة على القدمين، تقاطعت ثلاث مرات مع باكستاني (ربما بنغالي أو هندي) على دراجة نارية مثبت عليها صندوق أحمر كتب عليه بحروف بيضاء (بيتسا كابريتشيوزا.. أفضل بيتسا في إيطاليا). الشوارع شبه خالية، ربما بسبب الحر، أو بسبب الفلس والحالة الاقتصادية المزرية، فكرت في أنه ربما عليه أن يوزع على أكثر من عنوان، أو أنه ببساطة قد أضاع العنوان واختلطت عليه الشوارع، لأنك لا تتوقع تراكم الطلبات والناس مفلسة.

تمنيت أن لا يكون الأمر كذلك، لأنه إذا ظل يلف ويدور هكذا دون هدف، فستبرد البيتسا ويخسر البقشيش.. إن كان هناك أي بقشيش أصلا.

في المحطة.. كان صندوق القمامة المجاور مليئا حتى حافته، بل وسقطت منه بعض البقايا على الرصيف المتسخ، كان ما يزال به كيس خبز الصدقات الورقي المرسوم عليه صيلب كبير دون أية كتابة، الخبز الذي يتم توزيعه في الكنائس عند صلاة الجنازة، والذي لم يتحرك من مكانه منذ عدة أيام، كأنه ينتظر عودة الميت إلى الحياة، أو ربما يوم القيامة، مما يدل على أن البلدية لم يعد لديها من الموارد ما يمكنها من تفريغ هذه الصناديق بين كل حينين أو ثلاثة، أو ربما تكاثرت عليها الأحايين واختلطت.

أو.. ربما ماتت البلدية بوباء ضيق ذات اليد..

من يعرف.. ؟!!

3ـ لا جواب

كانت قد انفلتت من عقالها رغم أنفيهما (…) وطارت بها العاصفة، التحمت بالأفق، قطرة على زجاج بيت مهجور منذ الحملة الصليبية الأولى، ورقة تبحث عن الفرع الذي اقتلعتها منه الريح دون جدوى.

بعد عدة سنين.. عادت.. تعتمر قبعة قروسطية عليها ريشة طاووس بري، وتركب عربة ثلاثية الجياد، وبيدها سوط ومهماز وكراسة مذكرات لم تخط بها حرفا واحدا، ولكن ما اودعتها من سر كان واضحا لكل ذي عينين وأنف. فقد كانت صورته على الغلاف الأخير، وقد اسدلت عليها ستارا من النسيان حتى لا يراها أحد.

فقدت ذاكرتها على مدى الفية ونصف من الأعوام. رافقت هنيهة من الزمن هيتي المجنونة* التي كان عمرها يزيد عن ثلاثة قرون، لأنها كانت قد خبات قلبها عن الموت فلم يجده، إلى أن رأتها وهي تغرق في التيمز ذات يوم بلون الصدأ والرماد، بسبب الأزمة الإقتصادية، ولأنها لم تنتبه إلى أن الموت كان قد استرد عينه العوراء، واستعاد بصره الخماسي الأبعاد. حاولت أن تتعلم منها فن التشرد قبل أن يختطفها منجل الموت الصدئ، أثناء الدرس الأول أو الثاني على الأكثر.

لماذا.. ؟!

تساءلت

تساءلت

تساءلت

ولكن..

4ـ إشارة

وقفت عند الإشارة الضوئية في إنتظار أن يضيء النور الأخضر للمشاة.

فأعطي الضوء الأخضر للمدفعية والدروع وأسراب الجراد، لكي تهدم على رأسها بيت القوم الذين أتوا بها إلى هذا العالم البالغ القسوة، لكي لا تقوم لها ولا لهم قائمة، باستثناء قائمة المطلوبين لزنازين باب العزيزية، وقائمة أرقام حسابات أسرة امنحوتب السادس عشر في بنوك الحثيين، والتي تفتفت أفرادها أيدي سبأ، لأنها اعتقدت ـ لجهة غباء هذه العائلة الذي لا ترياق له ـ أنها كانت محصنة ضد الزمن، مثل الساعات السويسرية الباهظة الثمن التي يرتدونها.

عندها.. !!

عندها عرفت بأن التعفن إذا بلغ العظم ونخره، عجز اللحم على مد قامته، ومنع الشعر من الوقوف في ظل الرعب الثقيل، إلى أن تعفنت الزنازين ففاضت على حراسها حتى تقيحوا ثم انفقأوا على امتداد الطريق عبر الصحراء إلى نيامي ونواكشوط.

وعندما اكتشفت أنها تحمل سرطان العظام المخلوط بالأيدز لتخفيفه، والذي حقنها به الملك قمبيز، أبلغت حكومة الدكتور قارون الهاماني، فرفض وزير الصحة لدى البلاط الأمبراطوري الاعتراف بها كمواطنة ودعاها بالمتوطنة، مثلها مثل أمراض مناطق ما تحت الصحراء.

أثينا /19 مايو 2012

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هناك أكثر من هيتي واحدة.. فلديك هيتي الدمية.. بطلة رواية الأمركية راشيل فيلد (1894-1942) التي تحمل اسمها، تجولت عبر العالم (بين الهند وأمريكا) لقرن من الزمان أو أكثر.. ثم هيتي المجنونة، المشردة اللندنية، بطلة سلسلة مجلات ساندمان الانجليزية المصورة (SANDMAN COMICS)، والتي عاشت عدة قرون لأنها أخفت قلبها عن الموت، وكانت تقول بأنه لا يمكنك أن تبلغ المائتين وخمسين عاما من العمر، دون أن تتعلم بعض الحيل.

مقالات ذات علاقة

فوزية

المشرف العام

محلل

إبراهيم حميدان

الكلب الراكض على حافّة الطريق

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق