خداع
1
الهضاب الجنوبية مفضية بجناحيها على ريح البحر، تحت الهضاب بساتين النخيل تميل حيت تميل الريح وتنثر الرطب، الجنائن الخصبة مترعة بنفائس ظل النخيل سقياً للأيام وخواطرها: بالورد والياسمين والزهر ومشاتل الريحان والنعناع والمردقوش وسحائب العشية وغرغرة السواقي العلوية، تبصر الهضاب أمواج البحر ومع زوال العشية ولحونها والغروب وإشاراته يعسعس فوق الهضاب الليل، ونجومه، وقمره، وسكونه.. شبابيك الحسان تبث بخور الأنس طرباً، قلب الطين الرضي يذوب من الفرح ويطربُ، أريج السواني ورسمه يلامسان ثغر ماء السواقي، عفة المدينة تجمع ذاتها وحسنها وتفتح نجلّ عيونها للسفر نحو محاسن الفضاء الوريق الساطعة.. خلسةً، بعد أربعين عاماً عاد إلى مدينته ولم تخاطبه البساتين والجناين، صرخ في وجه الهضاب، صرخ وفي جوانحه نارٌ تصلى: هل أنا الان في نفسي منفيّاً بين هجران ووصل.
2
زلْزَلَتْ تباريح الهضاب افزعته، سمع صوتاً قادماً من ريح البحر يعاتبه: جهدك يا هذا كالعبث ضيعته في طول السفر، لم ينطق لسانه لسمعه هواجس الريح تخبره عن أسرار المدينة وعن صمت المزمار، قال في نفسه مردّداً كلمات الريح: جهدك يا هذا كالعبث ضيعته في طول السفر وأضاف من جوف أحزانه العميقة مُتسائلاً: هل حقاً تناسيت عهدي أم على عهدي لا أحول؟
علّنا
شايبٌ على عكازه يستند، بطيب الخطو يمشي، يخطو على مهلٍ لمقهى مكسيكي قريب من بيته، أحس بسحائب غائمة تتجمع في فضاء السماء ظامئةً، أحسّ بالمسرات في قلبه لقدومها وبالظمأ.. وصل المقهى مُتعباً، أخذ له في زوايا المقهى مقعداً، شرع يحتسي قهوته بتللذ خفيف.. عن قُربٍ أبصرها بلمحة عينٍ تجلس قبالة طاولته، شابة اسبانية، مرحة، مليحة، جميلة، هادئة، تقرقر كطفلة في مدرسة اِبتدائية، نقالها بين يديها تحاكيه ويحكايها، المقهى يتألق بالضياء، تضحك، جذلاء، شابة مذهلة، في مُحياها حقل حنطة رهيف.. اعتقد أنّها رأته، حيّاها، لم تنتبه، لوّح لها بفنجانه، لم تنتبه.. ثمة ضجيج خفيف في المقهى وغناء لا تينياً صادراً عن نقالٍ تحضنه سيدة عجوز بشغفٍ ملحاح.. أطل المطر خفيفاً يرتع، يتعسعس على أنفاس المقهى.. في خفةٍ نطت الشابة من مقعدها كغزالة صحراوية تنعم بلذة سراب البيد عدّواً، مرقت خارج المقهى في نشوة وسرور، تابعها بعينين حائرتين، نهض من كرسيه جاهداً كاد أنْ يقع، خرج مُتكئاً على عكازة عائداً حابياً نحو بيته هائماً كشابٍ تدندن في رأسه نغمة فيروزية وطيف الشابة الأسمراني يلاحقه: علّنا علّنا نطفي”.. وجد نفسه أمام البيت مُبتلاً من رأسه حتى قدميه، ابتسم لوجه الغمر، خشيّ أن تنكسر الكلمات في يومه المطير، دخل البيت ببطء، لا زال يذكر قفزاتها الواثقات وتنغيمات موسيقى المقهى ورائحة البن.
الندى
أوراق شجرة التين في بيت جدّها القديم يبللها الندى كلّ فجرٍ، صوت النهار رقيق عذب يتسلل محدق العينين وقد أضناه العطش، عند كل صباح تلثم الأوراق شهد الندى وتفرح وتزيل وحشة الليل، الندى يرقص مَرحاً مُرفراً دون سمعٍ لحفيف الشمس الصامت، شحارير ملونات في عجلٍ تنقر التين وتشقشق وتهرب لتعود.. على وجه كل ورقة من ورقات شجرة التين وهنّ حاملات أسرار الوجود يكتب الندى برسوم سريالية أهازيج الضياء.. ومع صياح الشمس بعد قليل تأذن الأوراق للندى أنْ يعود إلى منبعه الخفي، ليعود صحبة غواية ليلية أخرى لم تطلها أصابع النسيم بعد.. يختفي الندى عائداً إلى عرينه حتى الصباح القادم، يختفي حاملاً مباهج الديار وأحلام الصبايا.. بعد سنوات أزهرت من جديد تحت عيون السماء الناظرة لشجرة التين، ها هي جالسةٌ تحت شجرةٍ سحريةٍ لم تشيخ أو تهرم، تعشقها مُذّ كانت طفلة بهية تلعب تحتها وتستأنس بظلها.. عيناها زهرتان قرنفليتان كحّلهُما الندى بدجى كحلٍ حجازي فاحمُ العنبر، عينان باسمتان، عينان حالمتان تسري فيهما الغبطة والسكينة.. في صمت رهيب تجلس تحت شجرة التين مطمئنة وريح ناغمةٌ تهفهف شعرها الأندلسي، تُصغي لرنين أغاني طيور السليوة وهي تنقر التين والعنب، تنظر إلى الطيور من وراء اجفانٍ مكحولة البريق.. تجلسُ وفي عينيها حلمٌ نقي ينثال على الورق المُندى، غيمةٌ تداعب نغمة شحرور مهاجر، حنّت إلى الربوع شجرة التين وإلى وريف الجناين مدت يديها.. ناداها عُطر حفيف الشمس عاطراً عند جلوتها جالسةً، ناداها برقةٍ في همسٍ: متى عُدتِ من رحلتك الطويلة يا زهرة عطّرتها أنفاس العبير؟ ايقظ السؤال في داخلها شعوراً مُطلسماً، ازدادت صبوات احلامها ولم تُجب، شحرور آخر يقترب منها يلامس شعرها.. من فوق شجرة التين كان رذارذُ الريح مشجياً بالندى يراقبها من شرفة الوهم المطلة من أفق السحائب المترعة بالدوء علّه يستمع إلى الأريج المحبب في حديثها من ذاتها لذاتها.