قصة

حدث ذات عمر

أم مع ابنتها (الصورة: مولدة بالذكاء الاصطناعي)
أم مع ابنتها (الصورة: مولدة بالذكاء الاصطناعي)

لم توثق أمي لحظه خروجي من البيت، قاصده المدرسة التي أجراس ساحتها وفوضى طلابها نكاد نسمعه في بيتنا، وصوت المعلمة تحثهم على الالتزام بالطابور، ويشحذ الهمة صوت النشيد الوطني الذي نردده كل صباح.

لم تلاحقني “كاميرا” أمي أو صوتها الموجه لي: ابتسمي في الصورة!

لم تكن تعلم بالترند وهي ترافقنا بالدعوات والترجيبة السمحة، لم تقف أمام لون الحقيبة والحذاء والماركة الفلانية، كان كل ما يهمها أن يسري الدفء في أجسادنا، بغض النظر على الألوان وأكوام الملابس التي نرتديها تحت الزي المدرسي، الذي كان همها أن يكون نظيفًا ومرتبًا. تجمع شعرنا بشريطة بيضاء، تمسح على رؤوسنا، نلمحها وهي تتابع خطواتنا من نافذة المطبخ، حتى نختفي وندخل سور المدرسة.

نبادر بالابتسامة الصباحية كل من يلاقينا، تنادي معلمتي:

– أين البقية؟ اليوم البرنامج الصباحي على فصلكن.

نطمئنها أن الأمور كلها على خير ما يرام، ونحن جاهزات. كنا نرتبك وتختفي الكلمات المجهزة في قصاصات، نتحسر على ساعات قضيناها أمام المرآه نتدرب عليها. نبدأ بآيات من الذكر الحكيم، حكمة، هل تعلم، ابتسم، خير الكلام ما قل ودل، وووو. بعد التصفيق لنا وتوجيه الكلمة للفصل الذي سيتولى مهام برنامج الصباح غدًا.

ندخل الفصول، تستلمنا معلمة الحساب وتتوالى علينا المعلمات والحصة تلو الحصة، ويبقى متنفسنا الوحيد بين الحصص، نصرخ، نركض، نتحدث، نتخاصم ونتصالح، نتوعد بعضنا، ونعد الخطط لما سنقوم به. في الحصة الأخيرة نجمع النقود لنحظى بوجبة إفطار متواضعة تكفينا كلنا. وحين تستنفذ قوانا الحصة الأخيرة، التي عادة ما تكون تاريخ أو جغرافيا، نقاوم النعاس والتثاؤب أمام المعلمة، بعضنا يراقب عقارب الساعة في معصم زميلته، والبقية لملمت حقائبها متأهبة للخروج كالبرق، ما إن ينسكب صوت الجرس بين ممرات الفصول. وما بين طريق المدرسة والبيت، نمشي ببطيء لنكمل حديث أو لنضحك لموقف ما، أو لنعد المقلب لمعلمة حظها سيء. وتبتسم صديقتي وتقطع حديثنا غدًا: الفطور على من؟

ألمح ظل أمي يراقبنا من تحت ستائر النافذة المطلة على الشارع، وحين ندخل البيت تحاول أن تجعل ملامحها أكثر جدية، لتبدأ الاستجواب عن كل ما حدث داخل المدرسة، وعن تطبيق العلوم ودرجة تسميع السورة ووو .

لم توثق أمي درجاتنا وألوان كراساتنا وأدواتنا المدرسية، كان كل ما يهمها ألا ترى دوائر حمراء “كعك”، أو علامات كانت تطلق عليهن “حويتات”، وتهمس بهدوء هل أعجبك الفطور، ثم تصيح: هيا الغداء جاهز، غيري ملابسك وتعالى فورًا! لتفتحي حقيبتك وتراجعي ما أخذتِ من دروس!

ملاذ النورس

مقالات ذات علاقة

مَن يعدل ميلها؟

عبدالرحمن جماعة

البالونة الكحلة

آمال العيادي

الموظف الجديد

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق