سأتشرد قليلا في بلادي
مثلما تشرد دون-كيخوته، ولكن بلا نبلٍ ولا أوهام..
سأتشرد بما يكفي لأعرف بلادي
راجلاً، وحيداً لأنفرد بالحقيقة سافرة
حين تهدأ رياح الأعداء،
وتنجلي سحب الظنون..
سأمضي بلا اتفاق، تقودني الشوارع للشوارع
وكل الطرقات تفضي إلى نهاياتها الآجلة..
سأتخلى عن يقيناتي الفجة، وأجوبتي الجاهزة
وسأتسلح بالمكر والدهاء..
سأحرث حقول الشك،
نازعاً بلا رحمة كل عشبة تستظل بيقين، لا وجود له..
سأخنق أحلام اليقظة،
قبل أن تبني قصورها في الهواء،
وسأهدهد الأماني لتنام..
وسأمضي إلى حيث لابد أن أمضي
حين ينسد الأفق
وتحط على الأرض السماء..
سأعود إلى الرحم الذي أنجبني
لا كما يعود الطير إلى وكره
ولا النبي إلى كهف وحْيه
سأعود كما يعود سمك السلمون إلى نهره
ليضع بيضه ويموت
تاركاً اتساع المحيطات لغيري
متوغلاً في نهر الضيق الطويل..
سأدوس على خطواتي بالمقلوب
مقتفياً كل شيء في رحلتي نحو الجذور..
سأحمل أسئلتي القلقة
وشكوكي وفؤوسي ومبضعي،
وسأحمل ما تسنى لي من مصابيح،
ومجسات وأجهزة لا تعنيها حيرتي
وكل ما شيده العلم على ركام الكنائس،
وكل ما استخلصه العقل من هذيان النصوص
متخطياً أمواج التقاليد والطقوس
وكل ما سنّهُ الطغاة من قوانين..
وسأعيد هذه الجثث إلى قبورها البعيدة
مشيعاً إيّاها بكل ما يليق، بأقارب مبجلين..
سأتخلص من عقدي المزمنة
وستتخلى عني هواجسي القديمة
ومخاوفي الملازمة،
حين أعود قافزاً فوق شراسة التيار والصخور
مثلما يعود سمك السلمون إلى مسقط رأسه،
ومثواه الأخير
غير أني هذه المرة على يقين
أن رحلة الموت
رحلة ميلاد جديد..
_________________________________________________
الملحق الثقافي “صحيفة الجماهيرية”.. العدد:1/ 10.1999..