شكري محمّد السنكي
انتقل إِلى رحمة الله الدكتور أمين المرغني في طرابلس يوم الجمعة الموافق 24 نوفمبر 2023م، بعد معاناة طويلة مع المرض، عن عمرٍ ناهز اثنين وثمانين عاماً. واسم الفقيد كاملاَ: أمين بشير مسعود حسين صالح دعباج المرغني، والمعروف اختصاراً باسم «أمين بشير دعباج المرغني»، وآل المرغني من السادة الأشراف وتعود أصول عائلتهم إِلى مارغنة بـ«منطقة قوقاس» من نواحي سوق الخميس بمدينة الخمس الواقعة شرق مدينة طرابلس بحوالي 135كم. وآل المرغني من سكّان مدينة طرابلس، وقبلها مدينة الخميس مسقط رأس بشير المرغني والد الفقيد، وهجروا إِلى فلسطين في فترة الاحتلال الإيطالي، كما استقروا في مدينة بنغازي بضع سنوات بعد عودتهم الثانية من المهجر.
والد الفقيد بشير مسعود دعباج المرغني، كان من كبار التجار الليبيين ومن الشخصيات المعروفة في الغرب الليبي ولديه صلات وعلاقات في كافة أنحاء ليبيا، وجده مسعود دعباج وأشقاؤه «الأعمام» كانوا في مقدمة المجاهدين الذين وقفوا في وجه الغزو الإيطالي لليبيا عند قصفه لمدينة طرابلس في 3 أكتوبر 1911م، وشاركوا مشاركة مشهودة في معركة المرقب الشهيرة. وعن هذه المحطة يخبرنا حفيد بشير دعباج المرغني البشمهندس عدنان فرج جبريل، في مقالة نشرها في صفحته بالفيسبوك بتاريخ 4 نوفمبر 2014م، فقال: «في 23 أكتوبر 1911م انضم والده (مسعود دعباج) وأعمامه إلى كتائب المجاهدين في معركة المرقب الشهيرة، حيث استشهد أحد أعمامه، ثم انتقل والده وبقية أعمامه للالتحاق بكتائب المجاهدين المرابضة في ناحية (سواني بن آدم) ضمن ما يعرف بتجمع (عرضي سوف) في منطقة ورشفانة، حيث شاركوا في معركتي (سيدي بلال وسيدي عبد الجليل) يوم كانت إدارة وتوجيه تلك المعارك لاتزال تحت قيادة ضباط الحاميات العسكرية التركية.
وبعد توقيع معاهدة (أوشي- لوزان” في 1912م) التي تنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن ليبيا لإيطاليا، قامت قوَّات الاحتلال بإعداد قوائم بأسماء المجاهدين للقبض عليهم ونفيهم كأسرى، فغادر والده البلاد متوجهاً إِلى تركيا ليمضي فيها سنتين هو وأفراد عائلته، ليعود ويستقر في فلسطين عند اندلاع الحرب العالمية الأولى».
والشاهد، وصل بشير المرغني مع والده مسعود إِلى فلسطين بعد سنتين أمضتهما الأسرة في تركيا، وعاش بشير في فلسطين خلال سنوات صباه وشبابه، وليتزوج من السيدة سعدة العكي، وفي حيفا أسس شركة ذات نشاط واسع في مجال المواد الغذائية أولاَ ثم مواد البناء مع شريكين إيرانيين وهما الأخوان: «محمّد وعزت باقر»، وقد أصبحت شركة المواد الغذائية على مدار عشرين عاماً من تأسيسها واحدة من أهم شركات توريد المواد الغذائية خصوصاً «الأرز والسكر».
نجح بشير دعباج المرغني نجاحاً باهراً في قطاع الأعمال، واهتم اهتماماً بالغاً بقضية بلاده إِلى جانب اهتمامه بأعماله الخاصه، وربطته صلات قوية بالنشطاء من المهاجرين الليبيين في مصر وسوريا والأردن من أمثال: عمر فائق شنيب، علي باشا العابدية، بشير بيك السعداوي، منصور بن قدارة، الطاهر الزاوي.. غيرهم. وقد ساهم في تأسيس «جمعية الشبان المسلمين في فلسطين والشام» التي اتخذت من مدينة «حيفا» مقراً لها، وشغل فيها منصب أمين الصندوق، وأسس «جمعية المقاصد الخيرية بدول المغرب العربي» التي اتخذت من مدينة «صفد» مقراً لها، وشغل منصب الأمين العام لصندوق الجمعية. زاره الحبيب بورقيبة في بيته في حيفا، وبرفقته بعض التوانسة، حينما بدأ حملته لتنظيم التوانسة للعمل والكفاح من أجل حصول تونس على الاستقلال، وقد أشاد بورقيبة بالسيد بشير دعباج المرغني وبمواقفه والنجاحات التي حققها في المهجر في كلمة وجهها للتوانسة الحاضرين.
عاد بشير المرغني وأسرته إِلى أرض الوطن مرتين، الأولى بعد تعرضه لمحاولة اغتيال في فلسطين عقب اندلاع الثورة الفلسطينية في العام 1936م ودخول البلاد في إضراب عام لشهور طويلة، فأنهى شركاته وأعماله التجارية في حيفا وعاد إِلى طرابلس وكان ذلك في العام 1937م. وبعد سنتين من قدومه إِلى طرابلس اعتقلته السلطات الإيطالية بتهمة النشاط السياسي المشبوه، وطلبت منه مغادرة الأراضي الليبية مع عائلته لأي بلد يختاره، وكان ذلك بعد قيام الحرب العالمية الثانية في العام 1939م ودخول إيطاليا في الحرب ضمن قوَّات دول المحور ضد قوَّات الحلفاء. وعن هذه المحطة يخبرنا مجدداً حفيده البشمهندس عدنان فرج جبريل فيقول: «فضل جدي بشير دعباج المرغني الذهاب إِلى مصر، فنقلته سلطات الاحتلال عبر البر تحت حراسة مشددة إِلى منطقة (امساعد) هو وأفراد عائلته، وفي السلوم تعرض هناك للاعتقال الاحتياطي من قبل السلطات الإنجليزية مرة أخرى باعتباره من مواطني دولة معادية (إيطاليا) ولتضعه بعد ذلك تحت الاقامة الجبرية في السلوم إِلى أن غادرها مرة أخرى إِلى فلسطين في نهايات العام 1940م».
والمرة الثانية، والتي استقر بعدها في البلاد إلى أن وافته المنية في شهر يونيو 1964م، كانت عقب إعلان استقلال البلاد في 24 ديسمبر 1951م. وقد عاد مع أسرته إِلى أرض الوطن في النصف الأول من العام 1952م، وكان له أصدقاء كثر ومعارف في كافة أنحاء ليبيا، وكانت بنغازي تحظى بمكانة خاصة عنده، وقرر تكون بنغازي محطته هذه المرة، وفور وصوله إليها افتتح متجراً بسوق الظلام الشهير بالمدينة واستقر في بنغازي بضع سنوات. وفي العام 1955م، عاد إِلى طرابلس، وتقدم في العام 1964م في الانتخابات البرلمانية، ولكنه تُوفي أثناء حملته الانتخابية في الانتخابات المذكورة. ويُذكر أن بشير دعباج المرغني امتهن العمل في القطاع الخاص طوال حياته، باستثناء سنة واحدة فقط «سنة 1954م» حيث التحق فيها بالعمل الوظيفي بعد أن عين رئيساً لإدارة مراقبة الأجانب بالبوليس الاتحادي في العام 1954م.
ولد فقيدنا الدكتور أمين بشير المرغني في العام 1941م في فلسطين بقرب الجامع الابيض بقلب الناصرة ولا أحد غيره من بين إخوته من مواليد الناصرة، فشقيقه الأكبر الذي يكبره بعام ونصف العام من مواليد زنقة شلاكة بالمدينة القديمة بطرابلس. تحصل أمين المرغني على الشهادة الابتدائية من مدرسة الأمير ببنغازي في العام 1954م، ونال الشهادة التوجيهية من ثانوية طرابلس في العام 1960م. وتحصل على شهادة البكالوريوس من جامعة لندن بالمملكة المتحدة، ونال درجة الماجستير ثم الدكتوراه من نفس الجامعة، والدكتوراه كانت في تخصص الجغرافيا.
كان من أوائل المنضمين للعمل بـــ«شركة الخطوط الجوية العربية الليبية»، وتدرج في السلم الوظيفي حيث صار رئيساً لمجلس إدارة شركة الخطوط الليبية، ومن فبراير 1976م حتى أغسطس 1977م. وفي عهد رئاسته للشركة اشترت الخطوط الجوية الليبية طائرات بوينغ من أرباحها وليس من ميزانية الدولة، ونالت عدة جوائز دولية كواحدة من أفضل شركات الخطوط الجوية في العالم.
دخل في صدامات مع بعض أعضاء سلطات الانقلاب بعد خطاب معمّر القذّافي في مدينة زوارة في 15 أبريل 1973م الذي أطلق القذّافي عليه «الثورة الثقافية» واستهدف القانون والجهاز الإداري للدولة. ووقف ضد رغبات عبدالسلام جلود الذي كان يوصف بــ«الرجل الثاني في نظام سبتمبر»، فلقبه جلود بــ«النمرود»، بعد تمسكه بالقانون ومقاومته الشديدة لتدخلات الدولة في شئون إدارة الشركة بغير ما هو في القانون، وقد خصـه جلود بخطاب في دورة تسييسية أجبره على حضورها، وقد تعالى في تلك الدورة الهتاف ضده والقائل: «الثورة مستمرة والخاين يطلع بره».
استقال من وظيفته كرئيس لشركة الخطوط الجوية الليبية، في زمن لم يكن ليجرؤ على الاستقالة فيه إلا نفر قليل جداً. وجاءت استقالته بعد احتجاجـه على فرض الدولة عقداً لنقل الحجاج على الشركة ورفضت توقيعه، كذلك لاعتراضه على فرض إغلاق وكالات السفر ضمن إجراءات تطبيق النظام الاشتراكي الذي تبنته الدولة لكونه يضر بالشركة ومجمل الاقتصاد الوطني. وعند تنفيذ عقد نقل الحجاج سقطت طائرة من المتعاقد عليها تقل حجاجاً قضى فيها ما يقرب من مئة حاج في «الفايدية» بالقرب من البيضاء بسبب نفاد الوقود وهي في طريقها إِلى طرابلس، وكان سبب الاعتراض على العقد أن الطائرات المستخدمة التي فرضت الحكومة التعاقد عليها لا يغطي مداها، تحت ظروف الحمولة الكاملة وظروف التشغيل من جدة إِلى طرابلس.
كان الدكتور أمين المرغني أحد المساهمين الأوائل في تأسيس «شركة الخطوط الجوية الأفريقية»، وهو الذي صمم الشعار الجميل لـ«شركة الخطوط الجوية الخطوط العربية الِلّيبيّة»، وشعار: «شركة الخليج العربي للنفط»، وشعار شركة: «البحر المتوسط للطيران المحدودة» كونه كان فناناً تشكيلياً. كما عُرف بثقافته الواسعة، وارتباطه بأهل الثقافة والسياسة من أبناء جيله وغيرهم، فكان السياسي المناضل الراحل منصور الكيخيا من أقرب أصدقائه، كذلك الفنان التشكيلي الشهير الراحل عوض عبيدة الذي استقر في بريطانيا من العام 1978م حتى العام 1992م، وقد كان الدكتور أمين المرغني يقيم وقتئذ في لندن لاجئاً سياسياً بعد استقالته من شركة الخطوط الجوية الليبية احتجاجاً على سياسات نظام القذّافي وتدخلات الدولة في شؤون المؤسسات الإدارية.
عمل الراحل عضواً بالشركة الأفريقية القابضة من 2008م – 2011م، وعضواً بشركة هندسة الطيران وصيانة الطائرات حتى العام 2011م، ومستشاراً وخبيراً في مجال النقل الجوي والطيران المدني حتى العام 2020م. وله العديد من المؤلفات باللغة الانجليزية في مجال النقل الجوي.
الفقيد هو زوج المرحومة صالحة عبدالله السنكي التي انتقلت إِلى رحمة الله في طرابلس منذ شهور قليلة مضت وتحديداً في يوم الأحد الموافق 28 مايو 2023م، ووالد بشير وغادة المرغني وشقيق المرحومة إنصاف ومحمّد والمرحوم مصطفى ومروان وصلاح، وصهر نعمان حسن سفراكس «زوج ابنته».
كان الدكتور أمين المرغني محباً للملك الراحل إدريس السنوسي – طيّب الله ثراه – ومؤيداً للعودة إِلى الشرعية الدستورية وفق آخر ما انتهت إليه في 31 اغسطس 1969م، ودافعاً في اتجاه مبايعة الأمير محمّد الحسن الرضا السنوسي ملكاً للبلاد، وتفعيل العمل بدستور المملكة الليبية، الذي حاز شرعيته بتوافق الآباء المؤسسين، واعتراف الأمم المتحدة وإشرافها. وعبر عن ذلك كله في أكثر من موقف ومناسبة، إحداها حينما كتب مقالاً بعد الانتهاء من قراءة كتابي المعنون: بـ«ملك ورجال» ونشره في وسائل التواصل الاجتماعي بتاريخ 23 أبريل 2020م، فقال: «كنّا دولة دستورية، وتشهد بلادنا نهضة في جميع المجالات في ظل سيادة الدستور واحترام القانون وحقوق المواطن، ومن يوم إلغاء الدستور بعد انقلاب معمّر القذّافي في الأول من سبتمبر 1969م، انتقلنا من سيرة الاحترام إلى سيرة الاحتقار التي لحقت بالمواطن الليبي. وصار المواطن الليبي منبوذاً في نواحي المعمورة، لأنه يحمل الجنسية الليبية ويحكم بلاده معمر القذّافي الذي كان يوصف بالإرهاب.
وبعد وقف العمل بالدستور احتدت العلاقة بالحكومة لدرجة الملاحقة أو الهجرة أو السجن أو الإعدام أو الاغتيال. وهاجر أعداد من الليبيين إِلى الخارج رفضاً للظلم والاضطهاد وبحثاً عن الأمان وحياة أفضل لأنفسهم ولأسرهم، وقبلوا بجواز سفر آخر يخفف عنهم سوء المعاملة. وبعد وقف العمل بالدستور فقط صار لجيراننا عندنا أطماع، وصرنا مصدر تهديد لجيراننا. كذلك، صار اختلاف مكونات المجتمع الليبي خلافاً يصل اليوم إلى حد الاقتتال.
والشاهد، حصلت على الشهادة الابتدائية من مدرسة الأمير ببنغازي العام 1954م، ثم قضيت فترة دراستي الإعدادية والثانوية بطرابلس. ثم ولجتُ الحياةَ العامة في نهاية الخمسينات، وخبرت فرص الحياة لشاب متوسط التعليم، حيث الفرص فتحت أمامي في مجال الطيران بدايةً لدى الشركات الأجنبية، ثم مع شركة الطيران الوطنية، وشغلت وظيفة مدير منطقة إيطاليا وعمري ستة وعشرون عاماً، قابلت خلال وجودي في مختلف الوظائف والأماكن معظم مسؤولي العهد الملكي الذين كانوا يمرون على مكاتب شركات الطيران لترتيب سفرياتهم وخاصة في روما، فكان لاحتكاكي ببعض تلك الشخصيات فرصة للتعرف على مقدار تواضعهم المحترم، وتطلعهم الوطني لليبيا الراقية ومسلكهم الأبوي تجاه الشباب والجيل الصاعد. لقد اختفت تلك الشخصيات من يوم الاثنين الأول سبتمبر من سنة 1969م، والذي توافق أن أكون في فجره في بنغازي، وقد لفتني الحيرة في فهم ما جرى».
أخيراً، وفي إحدى رسائل الدكتور أمين المرغني المرسلة لشخصي والتي بعثها عبر الإيميل بتاريخ 11 مايو 2012م، جاء في خاتمتها ما يلي: «أخلصت في عملي وبذلت كل ما في وسعي لخدمة بلادي والموطن الليبي، ومن فضل الله إني تعلمت الأمانة والوطنية من أبي، فأنا لم أخن ما اؤُتمنت عليه في حياتي قط. واجتهدت ألا أخون ليبيا أو مصلحة وطنية قط، ولم أنس أبداً واجبي نحو وطني، وظلت ليبيا ساكنة دوماً في قلبي وخاطري.
ولم ألمح الطاغية القذّافي على الطبيعة أو أحضر مؤتمراً شعبياً أو حفلة تمجيد (الفاتح) أو اتحدث مع أي من أبناء القذّافي في حياتي قط».
رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته وأنزل على قبرك الضياء والنور، والفسحة والسرور، وجعلك من أهل الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا دكتور أمين المرغني لمحزونون، ولا نقول إلاّ ما يرضى ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
السبت الموافق 25 نوفمبر 2023م