1
في كنف الليل تنهد الظلام برائحة الأبدية القادمة من الشتاء الشاكي أوصابه للريح ، تنهد بالساكن فيه بهدء مريب ، تنهد فوق مدينة درنة مُحدّقاً في الفراغ الواسع ومنازل الوديان الحصينة .. تنهد بعد أنْ أزاح حجابه.
في غرفته جالسٌ وحيداً على كرسي عتيق ورثه عن أبيه ، جالسٌ وفي عينيه العسلتين نظرة من جوف الليل حائرة كأن فيها نداء يأتي من هوة سحيقة فيها الزمن يبحث عن الزمن .. جالسٌ في غرفة تسري فيها رائحة البخور العميقة تلهج بطيب عبقٍ الهمه الأحساس بالدوام و الخلود البهيج و الأليم ، احسّ أنّه مغتسلٌ بأفراح الليالي الحانية ..
سرعان ما أنتقل من الصمت الذي يمحق وحدته بكفّها النحيل ، عندها أنفجرت في ذهنه أسئلة عاث بها الصمت الثقيل تخاطب نفسه مستلهمة مجلس الليل الآمن المترع بالسكينة : لا ادري إلى أين المصير يا جسر الزوال في فلك هذه المدينة البعيدة يا طالب المحال .. هاهو الغموض يوحي اليه بتمائم الغربة ، استعار من الصمت بعض الصمت كأن الزمن تقدم به إلى مكان يختفي فيه اسمه و رسمه فيغيب في العراء والهباء ، ذُهل و فزع ، ركب الخيال و اضاف بمرارة وهو يستمع لهجات الريح وصريخ المطر : ترى ايجدي سدى حليّ و ترحالي ؟ .
2
رغم أنه لا يعبأ بالوقت و لا كيف يمرّ بالثواني أو بالسنين إلا أنّه يعرف أنّ الظلام قد هبط ليس كعادته منذ ساعات خلت بينما تتجمع في الخلاء المظلم السحب التي تتسم بالعفرتة و التدمير … وجهه شاحب يكتنز صبر الأولين …دفقات ريح قوية تضرب الأشجار و النخيل ، عصف مُمْطر يغمر ردهة البيت تهزّ النوافذ وتضرب بثقلها في حومة البيوت و البساتين … تساءل بحرقة و بهدوء في لحظة من الحذر : لماذا خيم على الليل جو غريب كسياط السابلة ؟ مضى يسترد بعض من السكينة ، كاد أنْ ينسى الألم ، قال يحدث نفسه في عزّ اليقضة : هذا الليل فيه من اقدارنا المرصودة لا اسم لها لا تاريخ أو لا حروف ولا كَلمٌ ؟
3
في ساعات الحكايا في ليل الأسى في أرض المآسي النازفة ، ظلّ المطر يهطل بقوة ووحشية مستبداً مفجوعاً غاضباً، يهطل بعصبية شرسة في هجوم عاصف خارج البيت و فوفق طرقات المدينة وفوق الأزقة والأحياء .. بينما السماء تزداد غيوماً تمتلئ بالسحب السود السوداء ، الغيوم الغامضة تحط على كلّ جدار ونافذة وكلّ بيتٍ وشارعٍ وكل بستان يخفي دلاله ، والماء يحبّ الزيادة ، المطر يهطل غزيراً و بجنون .. المطر ليس كالمطر .
4
جالسٌ في هدوء ، لم يكترث ، يدخل في مقام من مقامات السكوت والتفكر العميق في صورة الكون مُمثلة في الريح والمطر ، المطر عبثاً يقتحم خلوة السكوت ، يجلس صامتا لساعات طويلة في فضاء سحيق مشوب بالقلق ، لم يسأم من هذا الجلوس في حمأة الليل الطويل ، أخذ رأسه بين يديه ، تناثر الصمت في فضاء الغرفة ، ضوء المصباح يسقط فوق وجهه ، تجاعيد كثيرة نحتها الزمن على جبينه ، لم يكن في الغرفه غيره ، وحيداً .. لكن ليس هناك مجال للشك فإنّه أدمن حبُّ درنة أكثر ممن تغنوا لها ، قال هذه المرة بصوت عالٍ : إلى أين استجدي الخطى وأنا على هذا الكرسي العتيق؟
5
المطر يزمجر في غضب والريح تصغي لصوتها المُتأجج مُتلفعة بالظلمة .. وجد نفسه غائباً في حضن المساء ، تمنى لو كان له أصحاب يسامرهم في وحشة الليل ، جدران الغرفة مزينة بصور كثيرةبينها صورة أخيه الصغير الذي قبل أنْ يموت غرقاً في البحر ودعه بنبرة توديع حاسمة تركت في قلبه سطوة حزن مخيفة. حزنٌ ليس لإنسانٍ سواه.
6
تسلل المساء الماطر إلى المدينة وبدأ الوادي في جنونه ، يملأ رأسة بشيء من طمأنينة و يقين فتتلاشى سطوة الحزن المخيفة ، يجول به الظنّ والخوف و الشّك ، المطر يزداد انهماراً لا عهد له به ، بدأ ذهنه يزدحم بالتفكير و بالتفكر الغامض .. ريحٌ في هوجٍ عاصف بدأ يضرب الشبابيك بجنون ، أنتبه لصوت الريح ، خطر بباله و في اندفاع وحيرة بسؤال : هل تَجودْ السماء بالمطر الماكر و الرّدى ؟ .. يصمت وهلة يصغي لرحم الأرض ، بدأ يحدث نفسه وهو مُثقل بالتعب و الغم والقلق وبعض الحركات المرتجفة و الواجفة : من الواضح سيزداد عويل الريح الغارقة في مهاطل الأمطار البعيدة تحمل ارتجافة الفقد ، ستقف عند كلّ باب من ابواب المدينة ساعة نظرة الرغبة في الهجوع ساعة التماس الراحة .
7
أفاق من فراغ الوجود على صوت انفجار رهيب ، صوتٌ أرعب الأسماع يمزّق السكون ، ماذا يمكن أنْ يكون وراء هذه الإنفجار ، زحف عليه خوف مجهول ، مضت دقائق فزداد المطر يسقط على غير عادته ، اكتشف أنه وحيد كانه خالٍ من ذكريات و حياة واستوت عنده الأنوار والظُّلم .. نظر إلى مرآة الخزانة الخشبية ، حدق كثيرأ في المرآة ، رأى وجهاً متجهماً تطل من عينيه نظرات عابسة تطوي ليلها في ليلٍ مُريب ، اغمض عينيه ، يتخيّل كثير من الأشياء ، ذلك البيت الذي وُلد فيه ، في ذلك الزقاق الذي يُفضي إلى سوق الظلام ، يتخيل والده بهيّ الطلعة في جلال و أمه قوية الهيبة و الحنان ، يتذكر المدارس التي له فيها باع و يتذكر الأصدقاء و الأيام الطيبة حتى وحل التراب الطيب ، تذكر تلك الشوارع كما عرفها والأزقة التي طالما لَعِبَ فيها و البستاين الفرحة و نوار العشية و رائحة العطر الشهية الصادرة من غصن الياسمين .. قال بحرارة : هل يقدر الأنسان على الأمساك بزمام الوقت و الرائحة الغالية .
8
لا يعرف لماذا جال في باله إذا عمت المصيبة هانت ، ران عليه صمت ثقيل ، أول الغضب الصادر عن المطر جنون و آخره ندم، بدا في جلبابه وعلى كرسيه الذي ورثه عن ابيه ،قوياً معافى أكثر من أيّ زمن مضى ، نظر من النافذة علّه يرى كروم العنب و أشجار الليمون ، لم ير إلا البيوت المهشمة، ونظر إلى مرآة الخزانة الخشبية ، حدق كثيراً في المرآة ، وجه متجهم ،
فالكارثة شاملة تقهر أيّ صبر ’ ، تنبثق من عينية نظرة حادة تقهر الملل و تقتل العزلة و الكآبة و الملل .
9
سمع طرقات الماء الصاخبة المتدفق فجأة ، حدّق إلى الماء بعينين و اسعتين ، بدا شارد الذهن ، زاد الماء ارتفاعا ، غطى الماء جسمه و صل إلى عنقه يتطلع إلى الموت دون خوف ، الصمت امتدّ بكل ثقله ، مرّت دقائق ثقيلة و ئيدة ، غمره الماء ، ظلّ متشبثاً بالكرسي صامتاً مثل بئر سحيق مظلم .. في الصباح كان مازال يجلس على الكرسي الذي و رثه عن أبيه.