قصة

ظلام الظلام

من اعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني
من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني

1

في كنف الليل تنهد الظلام فوق درنة مُحدّقاً في الفراغ.. في غرفته جالسٌ وحيداً وفي عينيه العسلتن نظرة من كنف الليل حائرة، فيها نداء يأتي من هوة سحيقة، انفجرت في ذهنه أسئلة تخاطب نفسه: لا أدري إلى أين المصير يا جسر الزوال. ركب الخيال وأضاف بمرارة: المنية يا أحبائي.. ليس منها مفر.

2

رغم أنه لا يعبأ بالوقت و لا كيف يمرّ إلا أنّه يعرف أنّ الظلام قد هبط منذ ساعات خلت بينما تتجمع في الخلاء السحب اتسمت بالعفرتة و التدمير… وجهه شاحب يكتنز صبر الأولين…دفقات ريح قوية تضرب الأشجار والنخيل، عصف مُمْطر يغمر ردهة البيت تهزّ النوافذ وتضرب بثقلها في حومة البيوت والبساتين… تساءل بحرقة وبهدوء: لماذا خيم على الليل جو غريب فيه من كلّ لون وجنس؟

3

في ساعات الحكايا في ليل الأسى، ظلّ المطر يهطل مستبداً مفجوعاً غاضباً، يهطل بعصبية شرسة خارج البيت وفوفق طرقات المدينة وفوق الأزقة، بينما السماء تزداد غيوماً تمتلئ بالسحب السود السوداء، الغيوم الغامضة تحط على كلّ جدار ونافذة، والماء يحبّ الزيادة، المطر يهطل غزيراً وبجنون..

4

جالسٌ في هدوء، لم يكترث، يدخل في مقام من مقامات السكوت والتفكر العميق في صورة الكون مُمثلة في الريح والمطر، المطر عبثاً يقتحم خلوة السكوت، يجلس صامتا لساعات طويلة في فضاء سحيق مشوب بالقلق، لم يسأم من هذا الجلوس في حمأة الليل الطويل، أخذ رأسه بين يديه، تناثر الصمت في فضاء الغرفة، ضوء المصباح يسقط فوق وجهه، تجاعيد كثيرة نحتها الزمن على جبينه، لم يكن في الغرفه غيره، وحيداً.. لكن ليس هناك مجال للشك فإنّه أدمن حبُّ درنة أكثر ممن تغنوا لها، قال هذه المرة بصوت عالٍ: إلى أين استجدي الخطى وأنا على هذا الكرسي العتيق؟

5

المطر يزمجر في غضب والريح تصغي لصوتها المُتأجج مُتلفعة بالظلمة.. وجد نفسه غائباً في حضن المساء، تمنى لو كان له أصحاب يسامرهم في وحشة الليل، جدران الغرفة مزينة بصور كثيرةبينها صورة أخيه الصغير الذي قبل أنْ يموت غرقاً في البحر ودعه بنبرة توديع حاسمة تركت في قلبه سطوة حزن مخيفة. حزنٌ ليس لإنسانٍ سواه.

6

تسلل المساء الماطر إلى المدينة وبدأ الوادي في جنونه، يملأ رأسه بشيء من طمأنينة و يقين فتتلاشى سطوة الحزن المخيفة، يجول به الظنّ والخوف و الشّك، المطر يزداد انهماراً لا عهد له به، بدأ ذهنه يزدحم بالتفكير و بالتفكر الغامض.. ريحٌ في هوجٍ عاصف بدأ يضرب الشبابيك بجنون، أنتبه لصوت الريح، خطر بباله و في اندفاع سؤال: هل تجود السماء بالمطر الماكر و الرّدى؟ يصمت وهلة يصغي لرحم الأرض، بدأ يحدث نفسه وهو مُثقل بالتعب والغم والقلق: من الواضح سيزداد عويل الريح الغارقة في مهاطل الأمطار البعيدة. ستقف عند كلّ باب من ابواب المدينة.

7

أفاق من فراغ الوجود على صوت انفجار رهيب، صوتٌ أرعب الأسماع يمزّق السكون، ماذا يمكن أنْ يكون وراء هذه الانفجار، زحف عليه خوف مجهول، مضت دقائق فازداد المطر يسقط على غير عادته، اكتشف أنه وحيد كأنه خالٍ من ذكريات وحياة واستوت عنده الأنوار والظُّلم.. نظر إلى مرآة الخزانة الخشبية، حدق كثيرا في المرآة، رأى وجهاً متجهماً تطل من عينيه نظرات عابسة تطوي ليلها في ليلٍ مُريب، أغمض عينيه، يتخيّل كثير من الأشياء، ذلك البيت الذي وُلد فيه، في ذلك الزقاق الذي يُفضي إلى سوق الظلام، يتخيل والده بهيّ الطلعة وأمه قوية الهيبة والحنان، المدارس التي له فيها باع والأصدقاء والأيام الطيبة حتى وحل التراب، وتلك الشوارع كما عرفها والأزقة التي طالما لَعِبَ فيها والبساتين الفرحة ونوار العشية ورائحة العطر الشهية الصادرة من غصن الياسمين..

8

لا يعرف لماذا جال في باله إذا عمت المصيبة هانت، ران عليه صمت ثقيل، أول الغضب الصادر عن المطر جنون وآخره ندم، بدا في جلبابه وعلى كرسيه الذي ورثه عن ابيه، قوياً معافى أكثر من أيّ زمن مضى، نظر من النافذة علّه يرى كروم العنب و أشجار الليمون، لم ير إلا البيوت المهشمة، ونظر إلى مرآة الخزانة الخشبية، حدق كثيراً في المرآة، وجه متجهم، فالكارثة شاملة تقهر أيّ صبر’، تنبثق من عينية نظرة حادة تقهر الملل وتقتل العزلة والكآبة والملل.

9

سمع طرقات الماء الصاخبة المتدفق فجأة، حدّق إلى الماء بعينين و اسعتين، بدا شارد الذهن، زاد الماء ارتفاعا، غطى الماء جسمه و صل إلى عنقه يتطلع إلى الموت دون خوف، الصمت امتدّ بكل ثقله، مرّت دقائق ثقيلة وئيدة، غمره الماء، ظلّ متشبثاً بالكرسي صامتاً مثل بئر سحيق مظلم.. في الصباح كان مازال يجلس على الكرسي الذي و رثه عن أبيه.

مقالات ذات علاقة

المنفى

خيرية فتحي عبدالجليل

انتظار

المشرف العام

الفأر الأعور… وخزينة السلطان

المشرف العام

اترك تعليق