قصة

الفأر الأعور… وخزينة السلطان

حكاية للطفل

عبد العزيز الزني

(الصورة: عن الشبكة)
(الصورة: عن الشبكة)

تلك الليلة التي غاب عنها القمر، واكفهرت أجواءها، فاشتدّت ظلمتها.. وزمجرت عواصفها، وصمّ الأذان دوي رعدِها، وخطف الأبصار برقها، وتراكمت سُحبها، فهطلت أمطرها، وتدفقت سيولها، وفاضت وديانها، فكان أن هوت العديد من البيوت، وهلك الكثير من البشر، والحيوان والبهائم، غير أن الفأر صاحب حكايتنا هذه وأكبر إخوته وبعد أن استردّ وعيه، وقد انقشعت بقدرة العلي القدير الغيوم، واستردت الأجواء صحوها وصفائها، وأشرقت سماءها، أدرك كيف أنه قد نجا عندما تمسك وقبل أن يفقد وعيه بقطعة خشب اعترضت مدخل الجحر الذي اتخذته أسرته مأوى لها، فلم تجرفه السيول كما فعلت مع أبويه وباقي أشقائه وشقيقاته، إلا أنه اكتشف أنه قد فقد أحدى عينيه، ولم يدرك كيف حدث هذا، لكن ما أدركه، وأدركه بشدة، أنه قد أصبح فأرا أعوراً، ووحيداً، كان حزنه شديداً وأكبر من أن يتحمله، هو الفأر اليتيم، بكى ما شاء له البكاء، وحزن ما وسع قلبه الحزن، لكن في النهاية، لم يكن أمامه سوى الصبر، واستئناف حياته من جديد، وقد فعل، لكن هيهات أن تستقيم الحياة لمن لعبت به عواصف الزمن، إذ وما أن وجد نفسه بين أقرانه من الفئران، أوان اللعب، انتبه كيف أنهم أخذوا ينادونه بـ الأعور، تعال يا عور، ماذا تفعل يا أعور، اصمت يا أعور، من هنا ولأنه ما استطاع احتمال هذا الأمر، فما كان منه وبعد أن فكر طويلا، إلا أن عقد العزم على أن يعتزل الجميع، ويعطي الدنيا ظهره، ويلزم جحره، لا يغادره إلا مضطرا لطعام أو شراب، فربما يأتي مع الأيام ما تستقيم به، ويروق له العيش كباقي أبناء جلدته من الفئران،  أحس بحرارة دمعة سالت على خده، ووجد نفسه مرة أخرى يلوذ بالصبر، إذ وجد فيه الحضن الدافئ، والملاذ الأكثر حفظا وصونا لكرامته، غير أنه وبعد مُضي عدة أيام، رأى أن ما لديه من طعام يوشك على النفاد، واتضح له أن ما اختاره من أسلوب عيش لا يناسبه، وأن عليه أن يبحث عن أسلوب أخر، حتى لا يفترسه الجوع ويقهره، وأيضاً عيشه بمفرده ما عاد يحتمله، وإذ هو يعيش هذا الحال، حدث وذات منتصف ليلة باردة، عندما كان يجلس وحيدا عند مدخل جحره، يندب حظه التّعس، ويعاني قسوة الجوع، حدث أن رأى مجموعة من الضباع، وقد عادت من قصر السلطان، محملة بعديد الأطعمة المتنوعة والشهية، تسربت رائحتها إلى أنفه فسال لعابه، وإذ كانت شلة الضباع هذه مسرعة، سقط بعضاً مما تحمله على مسافة قريبة منه، فما كان منه إلا أن تسلل إليها وجلبها إلى جحره، وأخذ يلتهم منها حتى امتلأت معدته وتجشأ شبعاً، وما هي إلا دقائق، حتى استلمه وسلم نفسه طائعا لنوم عميق، وعندما فاق، ملأ رئتيه بهواء نقي، فحسّ بسعادة غامرة، وأنه يكاد يطير فرحاً، وهكذا توفر له من الطعام ما كان في حاجة له، وبعد عددت ليالي وعندما أوشك الطعام على النفاد، أخذ ذات المكان الذي اتخذه في المرة السابقة، منتظرا شلة الضباع ليحصل على ما هو في حاجة له من طعام، غير أنه فوجئ هذه المرة بشلة أخرى غير شلة الضباع، إذ كانوا من الذئاب، لم يهتم لهذا كثيراً، المهم أن ينال طعامه ويهنأ به، وهكذا كانت تتبدل الشلل، ولكن نصيب الفأر الأعور، من فتاتها والذي كان يتساقط أمام مدخل مسكنه، ظل على ما هو عليه، واعتقد أنه قانعا بنصيبه، غير أن ما حدث كان غير ذلك، إذ رأى الفأر أن تكون له هو الأخر شلة، وينهي اعتماده على غيره، وأدرك أن هذا يتطلب منه، أن يبحث له عن قرينة صالحةً، تقبل به زوجا وقريناً لها، بعد مدة ليست قصيرة، وتعدد مرات الرفض له بسبب فقده لإحدى عينيه، وبسبب فقره أيضاً، وجد في طريقه فأرة راقت لعينيه، إذ كانت تميل إلى البدانة بعض الشيء، وهذا مما يعجبه ويتمناه في أنثاه، إضافة إلى أنها ملكت الكثير مما يشتهى، خاصة نظرات عينيها التي اعترف لنفسه عدم قدرته على مقاومتها، ولأنها كانت قد فقدت هي الأخرى جزءا من ذيلها، بسبب عراك دخلته مع قط صغير، قبلت به زوجا وشريكا لها في حياتها، مؤملة أن يكون لهما نسلا طيبا وذرية صالحة، يُتكأ عليها أوان الشيخوخة، وبعد أن تم العرس، والذي اقتصر على أقرب الأقارب وقلة من الأصدقاء، فجاء عرسا أنيقا ومتألقاً، انتقلت الفأرة إلى بيتها الجديد، ودونما إبطاء أدخلت عليه لمساتها الجميلة والرقيقة، فطاب لكريم العين الإقامة فيه والاطمئنان إليه، وسرعان ما حبلت الفأرة، فأدخل هذا مزيدا من الغبطة والبهجة على كليهما، ولمح الفأر الأعور، زيادة في حجم بطن قرينته، رافقتها تراجع ملحوظ في حركتها ونشاطها، ما دفع به، أن يبادر ويحمل عنها، هي حبيبته ورفيقة مشوار عمره، الكثير من أعبائها ومسئولياتها، وكان الفأر كريم العين ما يزال وحتى تلك اللحظة معتمداً في مطعمه وأسرته، على ما يسقط من فتات الشلل التي كانت مستمرة في تعاقبها على خزينة مطابخ قصر السلطان، وبعد عدة من أسابيع وضعت الفأرة ذات الذيل المقطوع حملها، وبلغ عدد الجراء التي وضعتها وفي حالة سليمة الستة، بين ذكور وإناث، وما هي إلا أيام حتى ضج الجحر بالحركة والنشاط وامتلأ بشقاوة صغار الفئران، وهنا بدأ الفأر الأعور من صار ربّ أسرة، في تنفذ خطته في أن تكون له شلته المستقلة والقادرة على التسلل إلى خزينة مطابخ السلطان، وليدخل من ثم مرحلة الاعتماد على نفسه، فليس باقي الشلل أفضل منه في شيء، وما هي إلا أيام وفرغ من تدريب أبنائه وبناته من الفئران، ونفذ أول تسلل بقيادته وكان الفوز حليفهم، وأقامت زوجته صاحبة الذيل المقطوع حفلا كبيرا بالمناسبة، وفي الأثناء أسرت لقرينها كريم العين، بشرى زادت من غبطته، فقد أعلمته أنها حامل وأنها على وشك وضع حملها، سُـر الفأر الأعور وانتشى، فها هي أسرته تنمو وتكبر، والأيام أخذت تستقيم له، فاضت عينه دمعا، فاحتضنته قرينته إشفاقا وحبا له  لما أبانه من فتوة وقوة عزم نادرة، وضمها هو الآخر إلى صدره وأخذ يمسح على ظهرها ويلعق أذنيها .. وهنا أصدقائي الصغار وأحبتي، أقف مضطراً، لأني اكتشفت أن ما فقدته من أوراق قديمة قبل أشهر كان من بينها أوراقاً حوت خاتمة الحكاية، حكاية الفأر الأعور وخزينة السلطان، بالطبع يا أحبائي إذا لم نعرف الخاتمة، ستبقى الحكاية مبتورة، وتفقد متعتها، وهذا ما يزعجني، ولكن وعداً صادقا مني أن ابحث عنها باذلا ما أملك من جهد، لأجدها، عندها بإذن واحد أحد سأرويها لكم لتتمة المتعة، وتصبحون على خير، وكان ياما كان في قديم الزمان.

24/12/2021م

مقالات ذات علاقة

ليلة القّرة.. وبطانية البركطوطة.. والكسكسي بالقرعة

المختار الجدال

قصص قصيرة جداً

محمد دربي

بوعبعاب

محمد الأصفر

اترك تعليق