نعيمة الطاهر
طرقت الباب طرقات خفيفة، لم يفتح لي أحد، (شوره ما فيه حد!)، قلت لنفسي، (من الحد؟) الذي لم يفتح لك، فوزية معظم الوقت بمفردها في منزلها، (عاودي طقي الباب ثاني)، أمسكت بـ(الطقطاقة)1 بيدي، وفي هذه المرة كانت الطرقات أشد قوة. أتاني صوتها ناهراً:
– بالشوية ياللي في الباب.. الدنيا ما طارتش!
فتحت الباب، فلاح لي وجهها الصبوح، دلفت إلى الداخل وأنا أبادرها بالأحضان والقبلات:
– كيف حالك يا “أفيزة “2.
ردت مبتسمة: حالي باهي؛ الحمدووله.
سبقتها إلى وسط الحوش، فهو مكانها المفضل للجلوس، تتوسط سقفه (ضواية)3 كبيرة تجعل المكان مضيئا منشرحا. جلست وقد وضعت (الناقرة)4، وشرعت في تهيئتها لتسجيل حلقة جديدة من برنامج (السفرة الطرابلسية)، الذي كنت أعده وأقدمه في إذاعة (شعبية طرابلس)، مشاركة مع صديقتي “فوزية الفلاح”، سألتها: مستعدة؟
نظرت ناحيتي من فوق كتفها، فضحكت وبادرتها: فوتيهالي! صح جيتك من غير موعد، لكن عادي عادي!
ضحكت “افيزة” وهي تردد: عاد أنا نقدرك إنتييييي.
وهي التي تعودت أن تطيل في نهاية الكلمة في لهجة طرابلسية محببة.
– ها.. شنو موضوع الحلقة اليوم؟
جاوبتني وقد نفذ صبرها: عاد ما هو قلنا ياسر من التزعبين! تجي على غفلة ومتوقعة إنك بتلقيني واتياااا؟
في خضم الهوجة التي دخلت بها إلى حوش فوزية لم انتبه إلى (العوالة)5 الموجودة في وسطه، أمعنت النظر، فوجدت إناءً به حبوب بن و(حراقة)6 و(سطوفة قاز)7 أم فتيلة.. فباغتها بسؤالي:
– شن ادير الفالحة اليوم؟
ردت في تأفف:
– بنحمص حبوب القهوة، انت عارفة أنا ما نحبش الواتية من المحلات، نحب نخدمها بروحي.
هتفت:
– تمااااام، خلي حلقة برنامج السفرة عالقهوة..
رفعت وتيرة صوتها في دلالة على نفاد صبرها: وباهي؟ قالولك يوم القهوة العالمي والا شنو!
سارعت بالرد وقد اعتراني شعور المتحصل على كنز: لا عالمي لا دولي هيا نبدو!
بعد أن بسملت وصلت على النبي الكريم، شرعت صديقتي فوزية في وصف طريقة إعداد مسحوق القهوة منزليا فقالت:
أول حاجة ناخذوا حبوب البن ونحطوها في الحراقة. وجهت كامل انتباهي إليها وهي تنفذ ما تقوله عمليا، حيث وضعت كمية من حبوب البن في الحراقة وهي (الماعون) الخاص بتحميصها، ثم وضعته فوق (السطوفة) وأخذت تحركه على مهل وبطريقة مستمرة، وسمعتها تتمتم:
– ريتي الحبيبات كيف تتناقز، حتى هي حراقة، صهد ياكبدي!
استمرت في التحريك حتى صار لحبوب البن لونًا لأدكن من ذلك الذي كانت عليه قبل التحميص، أفرغت الحبوب الشهية في صحن مسطح وتركتها حتى بردت تماما، ثم قامت ودخلت إلى المطبخ وعادت وفي يدها (سفرة) عليها (رحاية8، وسزوة9 وسكرية10 فارغة وأخرى بها سكر).. جلست وهيأت (قعدتها) وأخذت كمية من البن المحمص ووضعتها داخل آلة الطحن اليدوية الصغيرة، وأخذت تدير ذراعها الموصول بقلبها في تأن وصبر.. وكلما انتهت من طحن كمية، بادرت إلى تكرار العمل حتى طحنت كل الحبيبات التي تسارعت إلى قلب (الرحاية)، وكأنها على موعد مع حبيب، مر ما بينهما على نسق:
عامين غير شبح بالعين
وعامين في ضرب المعاني
وعامين في دز المراسيل
وعامين جيته وجاني
انهت “افيزة” طحن البن المحمص وغربلته بغربال (أعمى)11، ووضعته في سكرية القهوة، أفردت ظهرها، وتناولت بعضا من مسحوق القهوة وقربته من أنفها وشمته، مكررة ذلك أكثر من مرة، لترتسم بعدها معالم الارتياح على وجهها وهي توجه الحديث نحوي:
– ريتيها.. قهيوة على كييييف كيفك محرقة ومرحية في (بوسواها)..
سألتها: بتخليها بن صافي؟
فأجابتني: هكي نحبها، ما نفضلش الإضافات.. لا كسبر لا حمص.. تنذهب شيرتها!
سارعت بعدها في وضع (السزوة) على النار و(لقمت) القهوة والماء بارد، حيث ترى أن ذلك سيجعل لها وجها كثيفاً، سألتني: كيف تبي سكرها؟
فأجبتها بتلقائية: حطي فيها صبعك!
ضحكت حتى بانت نواجذها وقالت في دلال:
مش قتلك … أنا ما نقدركييييش!
فاحت رائحة القهوة في أنفي، انتبهت إلى ابنتي وهي تقدم لي فنجاناً أنيقاً، فشكرتها ممتنعة عن شربها، فرائحة قهوة فوزية الفلاح وطعمها المميز لازالا يعبقان في تلافيف ذاكرتي!
هوامش:
1- الطقطاقة: حلقة معدنية مركبة على الباب، تستخدم في الدق، وتتخذ أشكال فنية مختلفة.
2- افيزة: تصغير اسم فوزية، في اللهجة الليبية.
3- ضواية: مصدر الضوء، وتكون عادة في سقف البيت.
4- الناقرة: جهاز تسجيل قريب الشبه بجهاز البيك آب.
5- العوالة: المقصود هنا معدات وأدوات المطبخ.
6- حراقة: إناء تحميص القوة.
7- سطوفة جاز: موقد طهي، يستخدم الجاز أحد مستقات النفط.
8- رحاية: أداة رحي القهوة، والرحاية يطلق على الآلة المستخدمة في رحي الحبوب.
9- سزوة: أناء طهي القهوة (البعض يسميه بكرج).
10- سكرية: وعاء حفظ السكر، ويطلق على كل وحاء لحفظ مواد الشاي والقهوة، وما شابه.
11- غربال أعمى: أي غربال بفتحات صغيرة أو ضيقة جداً.