المكان: “يالطا”، في شبه جزيرة القرم، حيث يُعقد ذلك المؤتمر الشهير الذي رتب أوضاع العالم بعد الحرب البشعة ذات يوم.
الزمان: 1945. الحدث: رئيس وزراء بريطانيا “ونستون تشرشل” يخبر “جوزف ستالين” بأن بابا الفاتيكان قد أعلن الحرب على ألمانيا هتلر، فيجيبه ستالين ساخراً: وكم دبابة يملك بابا الفاتيكان؟
قد يبدو “ستالين” معذوراً في سؤاله، فالرجل بعقيدته المادية لا يؤمن بغير تجسد المفردات على ساحة الواقع، مهما كان نوعه، ولا حاجة له بالتأمل في ما وراء الجمل، وما يختبئ خلف العبارات. لكن “ستالين” هنا سوف يستغرب إذا عاد إلى الحياة فجأةً لنخبره أن مقولته هذه خاطئة إلى حدٍ موجع وقاتل وشرس، وأنها مقولة مقصلة، إذا صح التعبير، مارست طوال عهود طويلة قدراً لا مقدار له من التضييق والاضطهاد على من يفكرون، ويستعملون أدمغتهم لمحاولة إصلاح الكون من حولهم، وحجة المقصلة دائماً جاهزة ولا تعرف التردد: وكم دبابة يملكها المثقف؟
التاريخ عميق جداً بهذا الخصوص، وهو سجل ممتد زاخر وفي غاية الوجع، والأدلة أكثر من أن تُحصى.
كم دبابة يملك الحطيئة؟:
في “العقد الفريد”، ثمة حكاية يوردها “ابن عبد ربه” مفادها أن ” بني جعفر بن قريع بن عوف بن كعب” كانوا يعانون أزمة نفسية كبيرة، فقد اشتهروا بين العرب باسم مستهجن كانوا يشعرون معه بالضآلة والدونية. لقد ذبح جدهم الأول جزوراً (والجزور في اللغة هو ما يصلح ذبحه من الإبل)، ثم وزع أطرافه على ابناءه، وكان ابنه “جعفر” (أبوهم) قد وصل متأخراً، فلم يجد نصيبه إلا في رأس الجزور، فجعل يجره وراءه، والقوم يسألونه: ما هذا؟ فيقول لهم: هذا أنف الناقة. ولهذا أصبح اسم ” أنف الناقة” علماً على بني حنظلة. وصارت العرب تناديهم به، فهم ” بني أنف الناقة” من بين عشائر العرب. وطاردهم هذا الاسم حتى أصبح مصدر تحقير لهم بين الناس. إن الصحراء على اتساعها تضيق ببني أنف الناقة حتى صاروا يلعنون ذلك اليوم الذي ذُبح فيه الجزور، فالبيئة العشائرية هي كينونة لا تغفر الزلات مهما كانت ضئيلة.
إنهم يشعرون بالدونية كلما ناداهم الآخرون بهذا الاسم، لكن الانقاذ جاءهم ذات يوم من حيث لا يحتسب أحد.
إن ” الحطيئة”، ذلك الشاعر الفحل يمر بهم ذات يوم في حديث طويل، يكرمون وفادته، ويحسنون إليه، يوقرونه، ويمنحونه الحلل الثمينة، يشبعون فيه جانب التفوق وغريزة التبجيل، فيمدحهم بهذا البيت:
قومٌ هم الأنف والأذنابُ غيرهم.. ومن يساوي بأنف الناقة الذنبات.
فجأة، تنقلب المعايير، ويصبح الاسم العار، مصدر فخر تتوارثه الأجيال، والسبب مجرد بيت من الشعر، إن الاسم لم يتغير، بل أن الشاعر يعيد تكراره، ولكن، بإنتاج جديد، بفكرة مختلفة. من قال إن ستالين على حقٍ دائماً؟
كم دبابة يملك جرير؟:
هنا، مبحث آخر يصلح للدراسة، لو كان هناك ثمة من يصلح للدرس. إن الشاعر الخارق “جرير الخطفي” يسمع خبراً يبعث في نفسه الاكتئاب، إذ أن “الراعي النميري” وهو شاعر كبير قد انحاز إلى “الفرذدق” خصم جرير اللدود، وما كان “جرير يريد أن يزداد مشايعو الفرزدق وأنصاره من عامة الناس، فما بالكم بشاعر فحل ينضم إلى قافلة من يناصرونه. إن الراعي النميري يفتتح مسيرة عداءه لجرير ونصرته للفرزدق بهذا البيت المشؤوم:
يا صاحبيِّ دنا الأصيلُ فسيرا.. غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
ويشهد التاريخ المكتوب أن جريراً حاول أن يثني “الراعي النميري” عن دس أنفه في هذه الحرب بينه وبين الفرزدق، لكن الرجل امتنع وأصر، فما كان من “جرير” إلا أن سهر ليله كله في نظم قصيدة، وما إن وصل إلى البيت المهلك حتى قفز من فراشه صارخاً: أخزيته ورب الكعبة. وفي الصباح كان سوق المربد على موعد مع جرير وهو يخسف الأرض بقبيلة كاملة:
فغض الطرف إنك من نميرٍ.. فلا كعباً بلغت ولا كلابا.
ومنذ ذلك اليوم وكل نميري يحني رأسه كلما سمع هذا البيت، فكم دبابةً كان يملك جرير في ذلك اليوم؟ ألم نقل إن “ستالين” ليس دائماً على حق؟
نهاية المعتقد البليد:
كلما استهانت أمة بالفكر، كلما كان سقوطها مدوياً، وكلما عاملت دولة كتابها ومبدعيها وكأنهم أرقام وطنية صماء، كلما تحولت هذه الدولة إلى نكرةٍ لا محل لها من الاعراب. وكلما أصبحت الثقافة في نظر أي حكومة مجرد منصب زائد عن الحاجة يمنح لكائنات زائدة عن الحاجة، كلما انحدر الحال بهذه الحكومة إلى أن تصبح بدورها كائناً مخجلاً يبعث العار ويمنه للفضيحة آناء الليل وأطراف النهار. ينطبق هذا على الأفراد أيضاً، ملوكهم وأغنياءهم وقادة جيوشهم، وحتى البسطاء العابرين منهم. القانون هنا لا يتغير، والمنهج ثابت، ومهما حاولت أن تقطع أوصال الفكرة فإنها تنبت من جديد حقولاً يزدهر فيها الكلام، ولا يموت في ترابها المعنى.
كم دبابة يملك ابن المقفع؟:
إن “عبد الله بن المقفع” يغضب والي البصرة آنذاك “سفيان بن معاوية”، وقبل أن نبدأ في التفاصيل دعونا نتعرف على الاثنين، ولنبدأ بابن المقفع أولاً: إنه ذلك الأديب العظيم، صاحب مؤلف الأدب الكبير والأدب الصغير، والذي ترجم كتاب “كليلة ودمنة” من الفارسية إلى العربية، والمثقف المذهل المطلع على الثقافات العربية والفارسية واليونانية والهندية، إنه مكتبة كاملة من المعرفة، هذا هو “ابن المقفع”، فهل يعرف أحدكم شيئاً عن “سفيان بن معاوية”؟
إنه والي البصرة في العصر العباسي، فقط، لا غير، والٍ غاشم يملك نطعاً وسيفاً وسيافاً ومجزرة متنقلة يفتح بابها كلما أراد الانتقام من عدوٍ له. ما أكثر ولاة البصرة في هذا الزمن.
إن العداوة تندلع بين الاثنين، لكن الأسلحة ليست متكافئة، فلم يكن ابن المقفع سوى كاتب ومترجم وأديب ومثقف، لهذا يتعرض إلى أبشع ما يمكن أن يتعرض له بشر، إن الوالي البشع يختار للمثقف ميتة بشعة، ويقف بينهما التاريخ شاهد زور على جريمة يندى لها الجبين.
يأمر الوالي بأن ينصب قدر كبير، ويغلى فيه الماء، ثم تقطع أطراف ابن المقفع عضواً عضواً وترمي في القدر وهو حي ينظر إلى جسده ينقص مرةً بعد مرة. وسفيان يبتسم وجلاده يتشفى.
والآن، مضى ذكر “سفيان” حتى أصبح سطراً باهتاً على جدارٍ تهدم، فيما مازال اسم ابن المقفع يملأ الدنيا ويشغل الناس بتراثه العظيم وكتبه وتراجمه ومعانيه التي لا تموت، فكم دبابة كان يملك ابن المقفع؟
وختامها.. تشيخوف:
الحكاية طويلة، ولو واصلت سرد الأمثلة ما كان يكفي الدهر كله وقتاً لأنتهي. لكن المبنى يذهب أدراج الرياح، فيما يبقى المعنى خالداً لا يزول.
عذراً “ستالين”، الفكر يملك الكثير من الدبابات، هو يملك مساحة في العقول لا يمكن للقوة أن تزيلها، ومن يعتقد بغير ذلك سوف يتفتت وتذروه الرياح، تماماً كما ذهبت الريح بإمبراطورية الحديد والنار التي كنت تملكها ذات يوم، فيما مازال ” تشيخوف”، و”ديستوفسكي” يملآن رأس العالم بإبداعات هي بمثابة جيوش لا تقهرها الجيوش.
مقالة رئيس التحرير في العدد 52 من مجلة الليبي.