أحمد عبدالسلام مازن
في ذلك الزمن الغابر و في دروب الصحاري و مسارتها تجد متعة التجوال و فسحة السفر عبر كتاب “تاريخ الصحراء الليبية في العصور الوسطى” لمؤلفه الأمريكي جاك تيري و ترجمة جادالله عزوز الطلحي، يبدأ السفر في غياهب الزمن و مجاهل الصحراء من بداية الفتح العربي للشمال الأفريقي و ما صاحب هذا الفتح من مواجهات و حروب بين الفاتحين و السكان، فلم يستتب الأمر للفاتحين العرب إلا بعد قرابة الخمسين عاماً، على أن الكتاب رصد أحوال الصحراء الليبية منذ زمن الفتح إلى القرن التاسع عشر الفرنجي، و ما حملت هذه القرون من حروب بعضها عرقي و بعضها طائفي أو مذهبي، اعتمد المؤلف على المصادر العربية التي يشكو من عدم دقتها في بعض الأحيان خاصة في تحديد مواقع القرى و الحواضر تحديداً دقيقاً و خاصة الكثير منها اندرس بفعل الزمن، متتبعاً للروايات العربية مستخلصاً ما يشوبها من نقص و تناقض و غموض مع إكباره لذلك المجهود الذي اضطلع به العرب في الكشف عن مجاهيل هذه الصحاري و ما خلفها من الأدغال الأفريقية في سابقة لم تتوفر لغيرهم من الغزاة الذين غزوا المنطقة كالرومان، كما أنه يفند الرأي القائل بأن قبيلتي بني هلال و بني سليم أحدثوا بقدومهم خراباً في مدن و حواضر الشمال الأفريقي و يدحض هذا القول بمقارنة الأحداث بالزمن و الروايات فيما بينها فيخلص إلى أن الخراب حلَّ بالمنطقة قبل قدوم عرب بني هلال و بني سليم بخمسين عاماً إثر حركة قراقوش لبسط نفوذه و يذكر بعض المدن و الحواضر التي خربها قراقوش حصاراً و حرقاً و تدميراً فجعلها قاعاً صفصفاً مثل ودَّان و زويلة، و كذلك الصراع المسلح بين المرابطين و الموحدين الذي كان له أثراً سيئاً على العديد من الواحات المنتشرة في الصحراء و على السواحل الليبية من بينها طرابلس و ما لاقته من دمار و خراب نتيجة هذه الصراعات التي فتحت مجالاً للتدخلات الأجنبية، و يعزو سبب هذه الدعاية ضد عرب بني هلال و بني سليم للصراع البدوي الحضري رغم أنه يقرر تعاوناً وثيقاً بين الجانبين و أنهما في حاجة بعضهما و يذكر مثالاً القسطنطينة، كأنه لا يعول على هذا الرأي، كما انه يفند ما ذهب إليه الإدريسي الذي يصرُّ على هذا الرأي و كتاباته التي تنال من القبيلتين العربيتين و يعزو ذلك لمجاملة الإدريسي ممونَ رحلاته جورج أمير صقلية، و يذكر أيضاً أنه كثيراً ما وقعت هاتين القبيلتين ضحية هجمات قبائل بربرية، يستشف آراءه من روايات الرحالة العرب بما فيهم الإدريسي و الاصطخري و البكري و البلاذري و ابن خلدون و ابن بطوطة و غيرهم ممن كتب في تاريخ الفتوحات العربية، يتعرض الكاتب للنشاط التجاري لواحات الصحراء الليبية المتمثل في تجارة العبور بين أفريقيا و القاهرة و تونس و أوروبا، حيث كانت غدامس و غات و زويلة و زلة و ودان و أوجلة و تاقرفت و تراغن و الكفرة غيرها من واحات الصحراء الليبية تقوم بدور أساسي في تأمين التبادل التجاري عبر الصحراء و دعمه فيروي عن ابن خلدون أن بعض القوافل يصل فيها عدد الابل لاثني عشر الف جملاً تحمل الذهب و الفضة و الملح و الشب و الجلود و الأقمشة و القمح و الشعير و غيرها من السلع، تجوب الصحراء رغم مخاطر الرمال المتحركة و قلة المياه و العواصف التي قد تخفي قوافل و قرى عامرة، فهذه القوافل التي في حقيقتها مدن متحركة يقودها شيوخ و قضاة لفض المنازعات التي تطرأ أثناء المسير و مسلحين لحمايتها من غارات قطاع الطرق و خبراء مسالك و دروب الصحراء و كذلك أطباء، و كان من ضمن التجارات الرائجة في تلك القرون تجارة الرقيق التي تجلب أرباحاً طائلة لمريديها، يشيد الكاتب في هذا الجانب بمعاملة المسلمين الطيبة للرقيق حسب التعاليم الإسلامية و في ذات الوقت يبرز المعاملة السيئة و البشعة التي يلقاها الرقيق من قبل تجار الرقيق أو النخاسة و مدى اشمئزاز و استحقار العرب لهذه النوعية من البشر الذين وصل بهم السوء و البشاعة لرمي الأطفال و المرضى الرقيق في رمال الصحراء فريسة لوحوش الصحراء، يستقي الكاتب هذه المعلومات من خلال مشاهدات الرحالة الأوروبيين الذين بدأت طلائعهم مع بدايات القرن الخامس عشر فرنجي و يشير إلى سكوت المصادر العربية عن مثل هذه المعاملات ربما لاعتباره أمراً عادياً!!!