سرد

مقاطع سردية

من أعمال التشكيلية الليبية إسراء كركره
من أعمال التشكيلية الليبية إسراء كركره

مقطع 2

في وقت مبكر من حياتي أفزعني أن تكون هناك مواد دراسة اسمها التاريخ و الجغرافيا، كنت أظن أن الكتب كافية لمعرفة ما نسيناه جميعا، كنت أظن أن خط الكتابة هو الخط الوحيد الشفاف، لكن خطوط الخرائط تحب الهواء الطلق والسير مع الريح، نعم أفزعني بشكل مفرط أن تكون ذاكرتي هي ذاكرة الإنسانية، وأن يتحول جسدي إلى أرض وتفكيري إلى شارع طويل مرت عبره كل أفكار البشرية عن نفسها، كان مدرس مادة الاجتماعيات من أبناء الحي، أما باقي المدرسين فكانوا من مصر الشقيقة، العالم في حصة الاجتماعيات يبدو أكثر من تام، وصبراوي بطريقته على لسان الأستاذ خليفة، قررت أن أقرأ كل الكتب، أن أمشي مع خطوط الخرائط في كل اتجاه، لم يكن هذا القرار مجرد فكرة في زمن المراهقة،  ولا مجرد صدفة، جاء هذا القرار بعد مرور الأستاذ خليفة على بيتنا وأخذي من يدي إلى المركز الثقافي بحي الصابري، كأنه أراد أن يعطيني حق التلذذ بادخار السر، لقد كان مشهد الكتب على الرفوف من الأرض وحتى السقف يشبه عنف البحر، مشهد مفرط في جماله ومرعب في نفس الوقت، ذهبت مباشرة إلى الرفوف، كنت مخترقا بهذه المهارة التي تمتلكها الكتب في جذب الناس إليها، لمست الكتب، أصابعي تمر من كعب كتاب إلى آخر، وفي نفس الوقت رأسي يميل يسارا ويمينا لقراءة العناوين، سمعت الأستاذ خليفة يضحك ومعه مسؤول المركز، لم أفهم سبب هذه الضحكة إلا بعد وقت طويل، جلست إلى طاولة طويلة وجاء الأستاذ خليفة بأطلس العالم ووضعه أمامي، كان لابد من تصفية عدد كبير من أصدقائي للجلوس هناك لفترة طويلة و الاستمتاع بالنظر إلى خطوط الأطلس الطويلة و المتعرجة، الخط كان يبهرني بشكل غامض، نزوة الخط في الخريطة وفي الكتابة، نزوة الخط تكره التسويات من أي نوع، هذه النزوة لم تعد تسمح لنا بالكلام، لا شفاء من ولع النظر إلى الخط الذي لا يتحرك إلا من أجل الشر و المتعة، والدي كان ينتظر توقف تبجحي بالذهاب إلى المركز الثقافي و العودة منه بكتب كثيرة كل أسبوع، سهولة الحياة مع الكتب كانت تشكل عبء على كاهل والدي، بعد فترة عرف أنها ليست مجرد نزوة، عرف من نظرتي الجديدة إلى وجهه أن جاذبية الكتب ليس لها تفسير، ولا شفاء من أذى الكتب إلا بقراءة الكتب، أصبح يكتفي بالابتسام في وجهي بدلا من التعبير عن غيظه بصوت عال، والدي لم يعرف معنى أن لا يتناقض الشغف مع اللامبالاة، وأن الكتب يمكن الاستمتاع بها دون حبها بشكل فاضح، وجاءت لحظة قرر فيها أن أذهب في الطريق إلى نهايته، لقد أخذ هو نفسه _ويال المفارقة_ خيط الأدب وعقده مع خيط التاريخ و الجغرافيا، ففي ديسمبر 1981م كنت أشعر برهبة و أنا على سلم الطائرة المتجهة إلى أثينا، خوف يليق بمراهق لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، صحيح أن هذا المراهق من الصابري، حي البحر و الضياع الذي أنهى الصفقة مع الخير منذ زمن بعيد، حي الخشونة و الشغف بالمجهول، لكن الصابري ليس أثينا، الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الصابري مع أثينا هو أن العالم غير مرئي بدون البحر، وضع والدي في يدي جواز سفري ودفتر من صكوك “توماس كوك” وقال: ”أذهب هناك ما هو أكثر من الكتب في انتظارك”، والدي فعل ذلك بدافع من تقدميته التي لا يدرك هو نفسه معناها، كان يريد أكل العالم بقشوره ولم يكن لديه الوقت، وهو يقف خلفي على سلم الطائرة شعر أنه منحني هذا الشرف، كنت قد حصلت على كورس في اللغة الانجليزية بمعهد “ستي آند قيلدز” في ليبيا، ربما هذا ما شجعه أكثر على الشعور بأن الأمر يستحق، أثينا كانت خيبة أمل كبيرة، التاريخ شيطان ويحب تلك النظرة على وجوه من يبحثون عنه ولا يجدونه في اللحظة المناسبة، لا وجود لربات الفن، لا وجود للمكان الذي اخترع فيه أفلاطون سقراط، لا وجود للمكان الذي تناول فيه سقراط السم بعد لعنه للكتابة وكل من أحبها، لا وجود للمكان الذي اخترع فيه هوميروس آخيل أو هيكتور، فقط موجود حي بلاكا الذي تختبئ فيه الحانات و الكثير من العاهرات، كان حي الفرصة الجيدة لفهم التجانس بين الفضيحة و المعرفة، بمساعدة من شاب ليبي تركت اليونان إلى يوغوسلافيا ومنها إلى المجر، كان القطار يعبر أرضا باردة وحزينة، ملامح الناس تحكي عن شيء ما ناقص، بينو العجوز الإيطالي وحده كان يضحك وهو يؤكد لي أني جحش صغير، الجحش وحده يأتي إلى اليونان في هذا الوقت من السنة،  كان يحدثني بحماس عن الصيف و عن الجزر الكثيرة، عن النساء الجميلات العاريات في كل مكان، وعن كيف أن شاب في عمري يجب أن ينام كل ليلة مع امرأة من جنسية مختلفة، صوت بينو يخرج من المقصورة إلى القطار كله، شعرت أنه فضحني، لكن الرحلة الطويلة بدونه كان يمكن أن تتحول إلى جحيم بدونه، لم أعرف كلمة الاشتراكية إلا في تلك الرحلة، لم أسمع باسم ماركس إلا في ثنايا شتائم بينو، تعاملت مع كل شيء في هذه البلدان وكأنه لا يخصني، لم أتوقع أن تتحول ليبيا بين عشية و ضحاها إلى بلد يتم فيه التسوية مع الاشتراكية، فجأة تم إغلاق كل المحال التجارية لتحل محلها أسواق عامة، وجمعيات استهلاكية، يتحول الشعب فجأة إلى جيش، والعمال إلى منتجين وشركاء، الكتب و الآلات الموسيقية تحرق في الميادين العامة باسم الثورة الثقافية، شعار المد الثوري كان التصفية و القمع وضرب أعداء الثورة بيد من حديد، في تلك الأيام كل أم عرفت الندم لأنها علمت ابنها الانتصار في الشارع، الانتصار في الشارع يعني الذهاب إلى السجن، الثمانينات كانت مرحلة الرعب و الفزع، كل يوم من أيام هذا العقد من الزمن في ليبيا يشبه الوقوف في يوم القيامة، ضغينة و حقد، سجون ومشانق، وموت بلا أسف.

مقالات ذات علاقة

رواية: اليوم العالمي للكباب – 7

حسن أبوقباعة المجبري

دهورة – الجزء الأول (مشاهد رصدت قبل الثورة….)

حسن أبوقباعة المجبري

جزء من رواية بروبرز

فتحي محمد مسعود

اترك تعليق