سرد

مقاطع سردية

من أعمال التشكيلي الليبي جمال الشريف (من معرض دمى)
من أعمال التشكيلي الليبي جمال الشريف (من معرض دمى)

مقطع 1

لن أكذب، لن أخدع القارئ بسبب ضرورة السرد و أنا أتحدث عنها، لن أحاول السيطرة على صورتها، أو السيطرة على المشهد الاصلي لي معها في هذه الصورة، أو أخجل لأن القارئ سيكتشف بسهولة أنني أنتمي إليها، لقائي بها كان خارجا عن كل إمكانية، وخارجا عن كل استحالة، كان نوعا من الادخار، نوعا من توفر الأسباب غير الممكنة لما يمكن القيام به، ويمكن القول أيضا من وجهة نظر التاريخ و الذاكرة أن لقائي بها كان بأثر رجعي، مع أول كلمة منها نسيت اهتزاز العالم، نسيت الوجود من أجل السخرية، نسيت ان العالم موجود فقط من أجل تحقيق مخاوفنا، كانت تقف هناك، في وسط الحياة الكبيرة، بفستانها الأسود الخفيف، بصمتها الذي تفوح منه رائحة المخاتلة، تكلمني من هناك، في غياب الصوت، في غياب انتظام دقات قلبي، في غياب الفرح الوحيد دائما مثل شاعر، هي كانت تكلمني بكلمات تشبه الأفق الذي اختفى خلف الأشجار، حتى في الأيام التي كانت فيها المعرفة بدائية، حتى في الأيام التي كانت فيها رغبة الإنسان منقسمة على نفسها كانت تصل إلى قلبي كدلو ماء صعد من الأرض فجأة، لم يكن أحدا غيرها يعلم بمقدار حزني، أو مقدار ولعي بهذا الحزن، لم يقرر أحد غيرها هدم عزلتي وبناء عزلة من نوع آخر مكانها، وحدها كانت تعرف منذ ألف عام معنى هدم الجدار الفاصل بين العذاب و لغة العذاب، وحدها كانت تعرف المعنى الحميم للعدوانية، للتجاوز، للتعدي، و المعنى المفرط في حنانه للعجرفة و الأنانية، واقفة هناك، تعلمني كيف يكون نسيان الخجل إنجاز يضمن عدم إخفاق الحياة.

لم تكن تمارس الضغط على نفسها كفنانة بنفس القدر الذي تمارسه عليَّ أنا ككاتب، كانت تتكلم عن الكتابة كوصفة طبية يجب أن اكتبها لها، أو كطعن فيها يجب أن يكتب بشكل رفيع، كانت قبل أن تجدني جالسا في المسافة بين غير المبالي، والباحث عن ممر للرجاء، تعيش في هامش من العناد اللذيذ، مذعورة، قلقة، وتشعر بأن السكون يهتز من حولها، وتلوح بيدها إلى حلم لا ينهزم بسهولة، يدها الجميلة و المتحفظة للغاية، يدها الخجولة بسبب مزيج الأحزان المتلصق بها، يدها التي تلون العالم على مهل و لا تأخذ ابدا قسطا من الراحة، لم يكن شيئا فيها قد تصدع بسبب التجارب الصعبة، لا مرارة و لا ندم، فقط كآبة حلوة وبعض الهذيان مع نظرة ذات نزعة تخريبية، الحياة بالنسبة لها بئر من الوهم الجميل، أو مغالطة لا يجب تصحيحها، تقوم بحركاتها المعاندة، تثير الضجيج في وسط الغرائز الاساسية، ثم تترك كل شيء لتجلس بهدوء وفي يدها كتاب، أنا الذي كانت تكلمه منذ ألف عام، لم يكن خيار الانتظار مطروحا بالنسبة لي، لهذا وبلا منولوج داخلي سخيف، بلا مخاوف يجب طردها، بلا تفكير في احتمال هروبها مني، أو احتمال هروبي أنا منها، أخذتها من يدها وطلبت من العالم الابتعاد عنها قليلا.

مقالات ذات علاقة

رواية الفندق الجديد – الفصل التاسع

حسن أبوقباعة المجبري

رواية الحـرز (47)

أبو إسحاق الغدامسي

شفرة لوتوفاجي (5)

المشرف العام

اترك تعليق