قصة

1969… الجواد

فتح الله المجدوب الحاسي

من أعمال التشكيلي جمال دعوب.
من أعمال التشكيلي جمال دعوب.

تشرق شمس الصباح، تنشر الدفء رويداً رويداً، ترتفع حرارة أسطح بيوت الصفيح، يصبح الحر لا يطاق، خاصة عند الضحى، ترسل الشمس خيوطاً كأنها السياط تلسع الاجساد وتلهب العيون. لا شيء يمنعنا من اللعب، وممارسة شيطانتنا اليومية.

امام بيتنا توجد شجرة زيتون كبيرة ذات أفنان كبيرة تتمدد في اتجاهات عدة. كانت بالنسبة لنا حديقة كاملة فيها كل شيء نحتاجه. ظلٍ وارجوحةٍ حبل تتدلى من أحد اغصانها، وعصافير تأتي تستقر لحظة تطعم صغارها ثم تطير. وبرودة تقي اجسادنا النحيلة حرارة الصيف الشديدة.

ذات ضحى تسلقتُ الشجرة، واطلقتُ بصري صوب الطريق الترابي الطويل، رأيت من بعيد ظلالا تتمايل عبر السراب.. نزلتُ من على الشجرة، واتجهتُ نحو تلك الخيالات. عند اقترابي اتضحتَ لي الصورة، لقد كان أخي رمضان يقود جواداً هزيلاً لا يكاد يقوى على السير. نحيفاً تبرز عظام صدره كأنها مدرجات. وتسيل الدماء من فمه. كان يرفع رجله اليمنى ويسير على ثلاثة أرجل وعيناه متورمة نصف مغلقة. قال: أخي وجدته ممدد بجانب حقل الشعير، وقد ُربط فمه بسلك حديد وكذلك أرجله الاربعة. لم يذق طعماً منذ مدة، ولا يستطيع حتى الشراب.

أخبرتنا أمي التي أبدت أسفها وتضمرها، وحنقها. كيف يستطيع أنسانٍ عاقل ان يفعل هكذا أمر. يربط لسان حصان لمجرد أنه أكل من زرعه.

اشفقنا جميعاً على الحصان، ربطه أخي تحت شجرة الزيتون، وبدأت أمي في علاج فمه (بالقاز والكحل) وقالت: إذا لم يستطيع الأكل خلال هذا الايام فسوف يموت. هالنا الامر.. حاولنا بشتى الطرق، لكنه كان يمتنع عن الأكل. لقد كان يتألم. كان يموت.

عاد أبي وشاهد الحصان، أخذ يفتشه بدقة وبحذر. ثم رفع رجله الخلفية، تفحصها، ثم زفر زفرت مؤلمة بحنق وغضب. فقد وجد ان السلك الحديدي (التل) قد تغلغل في لحم رجله حتى اختفى.

قال أبي: هذا يشبه أجراء عملية خطيرة، مدد الحصان على الارض، وطلب منا جميعاً أن نمسكه بقوة، من أرجله ورأسه. وبطريقة سريعة، امسك أبي راس السلكة ثم جذبه، لدرجة ان الدماء تطاير في الهواء، أطلق الحصان صهيلاً ضعيفاٌ وهناً.

بعد عدة ايام تعفى الحصان، واخذ يأكل بشراهة، واستمرت امي في علاجه بالقاز والملح وأحيانا بالكحل. في بعض الاحيان كان اخي يمتطيه ويتجول به، صار جواداً حقيقياً.

في عيد الاستقلال، امتطاه أخي وشارك به في الاحتفال، لقد كان جواداً جميلاً لونه (أربد)، وأخي ايضا كان وسيما جدا وهو فوق ظهره، بشعره الاشقر ووجه الجميل. اثناء السباق طلبوا من أخي أن يسابق بحصانه، تردد قيلا ثم قرر ان يجرب حصانه.

مر أخي من امامنا بهدوء، والحصان متحفز للانطلاق، عند نهاية المضمار وقف الحصان على أرجله الخلفية ثم انطلق نحونا في سرعة جنونية اذهلت الحاضرين. مر كأنه رصاصة، اخترق المضمار كالسهم. لكنه في النهاية توقف ووقع على الارض. هرعنا نحوه. كان أخي يبكي حصانه بكل أسى. عند حضن الجواد برز راس سلك حديدي، اخترق جسده. لقد كان متغلغلاً في جسده ولم نفطن له…

مقالات ذات علاقة

نهاية رجل غبي

رشاد علوه

دقيقة واحدة

محمد ناجي

ثلاث قصص قصيرة جداً

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق